17 نوفمبر، 2024 7:26 م
Search
Close this search box.

نقابة الفنانين والجهلُ المقدَّس

نقابة الفنانين والجهلُ المقدَّس

قصة الفنانة المسرحيّة أسماء مصطفى ونقابة الفنانين قصة رهيبة، مخيفة المغزى. فالفنانة كتبت تغريدة تعلن فيها عن مسرحية تُعرَض حينها في تونس العاصمة بعنوان “ألهاكم التكاثر” وأضافت على نحوٍ من التناصّ “حتى زرتم المسارح” “وهو ليس بتحريفٍ كما روَّجَ مروجو الفتنة. ولم تكن الفنانة ولا مُخرج المسرحية الكبير فاضل الجعيبي، يدريان أن حارقي الأخضر واليابس جاهزون للفتك بالفنِّ والفنّانين، وخصوصاً النساء، حيطتهن الواطية”.

دارَ التكفيرُ إذن على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وهو أمرٌ منتَظَر من الأميّة والجهل المقدّس، ولكنّه لم يكن منتَظَراً من نقيب الفنانين السيد ساري الأسعد (بحكم موقعه، لا بصفته الشخصيّة، حيث لا أعرفه)، في البوست المتسرّع الذي نشره على صفحته على الفيسبوك، أو في القرار الذي اتخذه في اليوم التالي بفصل الفنانة أسماء، ومسح اسمها من جميع السجلات. كما لم يكن منتظَراً، وليس مقبولاً البتّة، زجُّ ما قالته الفنانة في هذا السياق أو ذاك، ليكون دليلاً آخر على “استحقاقها” هذا المصير؛ فتلك من فهلوات الثقافةِ التي تتشاطرُ على المعنى وعلى القانون وعلى الحقوق!

هذا السلوك من نقابةٍ يُفتَرَضُ أنها أُقيمَت أساساً لحفظ حقوق الأعضاء، وحماية مصالحهم، يعني انحرافاً خطيراً عن دورها هذا لتلحقَ بالاختلال الكارثي في فهم الدين، والترهيب باسمه. فما الفرق إذن بينها وبين أيِّ منظمةٍ إرهابية لا تفهم القرآن إلا لتقيم الحدَّ على مخالفيها، ولتشحذ السيوف؟؟ فنقابة الفن التي هي أصلا منبرٌ للنور، ما عتمت أن أطفأت جميع المصابيح التي يشعلها الفن، ليحلَّ على يديها ظلام دامس.. ومهما تكن المبرِّرات، خفيّةً وظاهرةً، فالفعل الحاسم السريع من النقابة، دون أن يسبقه أي تواصلٍ مع المعنيّة، ينبئ عن خلل آخر في فهم القانون وآليات تطبيقه (وهي مسألةٌ تحسمها المحاكم)، ناهيك عن جهلٍ مدقع في فهم اللغة وفهم النصِّ المقدَّس. فالتناصُّ(أي استخدامُ نصٍّ أصليٍّ ليس لك، في سياقٍ آخر) هو أحد البلاغات العربيّة.. والقرآن الكريم هو أحد أهمّ وأشهر النصوص التي استخدمها الأدب العربيّ في تناصِّه. والأمثلةُ كثيرةٌ أجلُّ من أن تُحصى. وتكفي مراجعاتٌ سريعة لأبي حيان التوحيدي، وشعر المتصوّفة وأدبهم، ومحمود درويش وأدونيس، والكثير الكثير من الشعر الحديث والمعاصر. وهي ميزةُ لغةٍ حرةٍ لا تحشر نفسها في قالب. والبلاغةُ القرآنية من جهةٍ أخرى، مَعينٌ لا ينضبُ للإبداعِ العربيّ، حيثُ تشكِّلُ تحدّياً لنا جميعاً، في عدد كبيرٍ من شواهدها. إنها بلاغةٌ تسرّبت حتى إلى الكلام اليومي في حديثِ بائعِ الخضار الأمّي، وهو لا يدري. وهو أمرٌ لا يبدو أن “مثقفي مجلس التأديب” في نقابة الفنانين على درايةٍ به. وما عتم هذا المجلس المبارَك أن أخذ معرفتَه بالنصِّ و”تحريفه”، من جهلةِ الفيسبوك وغوغائه.. من أمثال ذاك الذي يطارد النساء ويتحرّشُ بهنّ، ثم يفتشُ في موبايل أخته ثم يقتلها..!!

لم تكن عبارة أسماء “ألهاكم التكاثر…. حتى زرتم المسارح” تحريفاً للعبارة القرآنية، بل توظيفاً للبلاغة القرآنية والبيان القرآني في سياق آخر، وهو، لمن يحبُّ للقرآن أن يشيعَ بيانُه، لأمرٌ ينبغي أن يشرحَ قلبه. إلا أن “الجهلَ المقدّس” – وهي عبارةٌ للمفكِّر محمد أركون – يشتغلُ ضدَّ القرآنِ نفسه. فتعظيمُ نصٍّ لا يكون بتحريمِ توظيفه في بلاغات الناس وكلامهم. ولا يقول بهذا إلا كلُّ ذي إيمانٍ مضطربٍ ومشوَّه وفقير.

أما أنَّ النقابة تنحازُ إلى الغوغاءِ في فهم العبارة وفي تأويلها، فتلك من الأهوال التي تشهدها الساحة، حيثُ يتساقطُ من هم في مصافِّ التنوير، الفنانون، المثقفون، الأدباء، الشعراء…إلخ. من هم أعمدةُ التقدُّم والحضارة.. من هم روح الثقافة ووجدانها وعقلُها… يتساقطون وهم يحملون في آنٍ واحد سيوف التكفير وسياط الخرافة.
دعونا لا نفقد الأمل..!

نقلا عن الغد الاردنية

أحدث المقالات