حين نصّب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بول بريمر والياً على العراق تحت مسمى الحاكم المدني، كلفه بحفنة مهام كان على رأسها تصفية الشخصيات التي جاءت على متن الدبابة الامريكية، أو تلك التي ركبت موجة التغيير تحت خيمة التمثيل السني التي نصبت على تخوم الخلافات حول كتابة الدستور الجديد، بحيث يستبعد الشخصيات القيادية التي من الممكن ان تشكل خطرا على إستمرار الاحتلال، وتقريب الشخصيات النهمة التي لا هم لها سوى منافعها الشخصية الضيقة مهما كان الثمن التي تدفعه وإن كان الذل والمهانة وتخريب ما تبقى من البلد الخرج توا من ربقة نظام شمولي عائلي حجر على الرأي وزج بالبلاد في آتون حروب مدمرة التهمت شبابه بين قتيل ومعوق وأسير وهارب من السجن الكبير الذي كان إسمه العراق.
كانت “وشالة” مجلس الحكم الانتقالي هي “خميرة” جوقة القراصنة الذين شكلوا فيما بعد نواة الأحزاب والكتل السياسية التي هيمنت على المشهد السياسي، واستباحت ثروات العراق ودماء أبنائه عبر إثارة النعرات الطائفية التي سادت المزاج العراقي للحفاظ على الأصوات الانتخابية التي تضمن بقاء هذه الجوقة في سدة الحكم، في مظاهر إقتراع أقل ما يمكن أن يقال عنها انها نفاق ديمقراطي لم يشهد له العالم مثيلا.
ضمن هذه الأجواء الملتبسة والغامضة، كانت جوقة القراصنة المحترفين في واشنطن، وفي مقدمتهم زبانية شركات النفط العملاقة مثل وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد ووزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس ونائب الرئيس الأمريكي آنذاك ديك تشيني يقتطعون كيكة النفط وأموال العراق المبعثرة في بنوك وشركات إستثمار عالمية مثلما يقتطعون جغرافية العراق، باشراف المحافظين الجدد وبقيادة مباشرة من عراب نفط تكساس الرئيس جورج بوش.
لم تكن محض مصادفة ان يقود هذا السيناريو الى جولات التراخيص النفطية التي إبتلعت الحصة الأكبر من مبيعات النفط العراقية، إنها، بالأحرى، عودة للشركات الاحتكارية من باب أوسع من تلك التي خرجت منها مطرودة بعد قرار تأميم النفط العراقي مطلع سبعينيات القرن الماضي. وليس محض مصادفة أيضا أن يطرح السناتور الأمريكي جو بايدن مشروعه الشهير المسمى باسمه حول تقسيم العراق الى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية.
من رحم هذا السيناريو ولدت حكومة أياد علاوي الانتقالية، ومن رحمه أيضا ولدت حكومة إبراهيم الجعفري، لكن أي من الحكومتين لم تجيدا الرقص على إيقاع التفرد الأمريكي بالقرار العراقي الذي بدأ بشن الحرب على العراق وترسخ باستصدار القرار 1637 من مجلس الامن في تشرين الثاني 2005 ، والقاضي بتمديد فترة تواجد القوات الامريكية في العراق بناء على طلب الحكومة العراقية ذات “السيادة”، رغم تحفظات فرنسا وروسيا اللتان عارضتا قرار الحرب أصلا، لكن الدولتين أذعنتا للتفرد الأمريكي لحظة التصويت على القرار.
ثنائية الانفراد-التعددية التي صاغتها واشنطن وفق قاعدة ان التعددية فيما يتعلق بالشأن العراقي يجب أن تخضع للانفراد الأمريكي، وهي القاعدة التي شكلت هاجس ولايتي نوري الأولى والثانية، حيث قاد البلد الى شفير هاوية الحرب الاهلية وبدد ثروات العراق الى درجة الاجماع على ان أكثر من ثلاثمائة مليار دولار اختفت في عهده دون أية أذونات صرف رسمية، ناهيك عن آلاف المشاريع الوهمية التي استنزفت مليارات أخرى والتي ذهبت الى حسابات سماسرة من بطانته الحزبية والعائلية.
هذه الثنائية ذاتها عرقلت الإصلاحات التي دشن العبادي ولايته باعلانها وتبنيها، لكن رسوخ فلسفة الانفراد باتخاذ القرار، إضافة الى إشاعة النفاق الديمقراطي الذي يختزل التعددية بمصطلحات هشّة كالشراكة والمشاركة تحت خيمة المحاصصة الاثنو-طائفية، يقف حاجزا منيعا أمام أية إصلاحات وإن كانت شكلية كتلك التي طرحها ويطرحها رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي.
مختصر القول، ان لا إنفراج، ولا تقدم في حال العراق، طالما تناوب على حكمه جوقة القراصنة تحت مسميات متعددة كالكابينة الوزارية وأخواتها من الدرجات الخاصة ووكلاء الوزراء والمحافظين والمدراء العامين، لان الحكومة الحالية وأية حكومة مقبلة تولد من ذات الرحم لم تكن سوى نسخة اخرى من ذات الأصل.