23 ديسمبر، 2024 2:23 م

نعي الوطن في وعي المواطن

نعي الوطن في وعي المواطن

غالبا”ما كان شاغل الكتاب والباحثين في حقول الاجتماع المدني والسياسي لبلدان العالم الثالث ، ناهيك عن رهط السياسيين ورموز السلطة وصنّاع الرأي فيها ، الإفراط بايلاء القضايا المتعلقة باحتياجات الناس المادية والمطلبية المباشرة ؛ كالأمور السياسية وما تشتمل عليها من أنشطة حزبية وفعاليات حقوقية ومواضعات تراتبية ، فضلا”عن الشؤون الاقتصادية وما يتفرع عنها من مستلزمات معيشية ومتطلبات خدمية ، أكبر مما هي عليه في حقيقة الأمر الواقع . دون أن يولوا العوامل الأخرى المتصلة بالديناميات الروحية والفاعليات الرمزية اللامباشرة ، التي رغم كل ما يفرض عليها من قيود الإهمال والتجاهل ، وبصرف النظر عن كل ما يلحق بها من مظاهر التبخيس والتدنيس ، سرعان ما تعبر عن ذاتها وتفصح عن ماهيتها ، عبر مكنون خلفياتهم التاريخية ، ومضمون علاقاتهم الاجتماعية ، ومحتوى تصوراتهم الذهنية ، وأنماط تعبيراتهم الثقافية ، وطبيعة تمثلاتهم المخيالية ، ومستوى اجتيافهم للهوية ، بقدر ما يوازي أهميتها على صعيد التأثير السيكولوجي ، ويعادل استحقاقها على مستوى الفعل السوسيولوجي . وآية ذلك إن الاعتقاد التقليدي السائد في الأوساط الرسمية وشبه الرسمية ، لم يبرح يغذي الأوهام المسؤولة عن إعطاء المظاهر الملموسة شأنا”أكبر من المجردة ، والظواهر المعاشة أفضلية أكثر من المدركة ، والمعطيات المرئية تأثيرا”أشد من اللامرئية ، والإرهاصات المعلنة تقديرا”أعظم من المضمرة ، والتداعيات الواقعية حضورا”أقوى من الفكرية . وهو الأمر الذي عزز مكانة الإيديولوجيات الخلاصية / الطوباوية ، على حساب دور الممارسات التحويلية / الواقعية من جهة ، وكرس من جهة أخرى انتشار الأصوليات الدينية / الطائفية والنزعات العدوانية / الاقصائية والاستئصالية ، على حساب دور العلاقات الاجتماعية والفعاليات التواصلية من جهة أخرى . على خلفية تراكم المعاناة المستديمة وتفاقم المشاكل المستعصية ، التي لم تبرح تتلظى بجحيمها الغالبية العظمى من شعوب تلك البلدان ، بسبب سياسات حكوماتها الدكتاتورية وتصرفات أنظمتها الشمولية وسلوكيات سلاطينها الشخصية . وهكذا فقد اختصر الوطن إلى مجرد قطعة أرض يسكنها المقتلع من فضاء الجغرافيا ، أو أحيل إلى مجرد رغيف خبر يحصل عليه الجائع من عطاء الاقتصاد ، أو قلص إلى مجرد انتماء حقوقي ينعم به المنخلع من الاجتماع ، أوهمّش إلى مجرد ولاء لفظي يتشدق به المتفجّع من السياسة . وهو الأمر الذي سيفضي – بالتقادم والتراكم – إلى حصول حالة من تبلد إحساس الأنا بالانتماء للذاكرة التاريخية ، وظمور وعي الذات بالولاء للنحن الجمعي ، من خلال القطيعة الوجدانية التي لا تني عناصر تشكيلها وعوامل تكوينها ، في لا شعور المرء تترسب ببطيء ولكن باستمرار . ولعل هناك من ينسب – وهو لا ريب محق بذلك – بروز هذه الظاهرة الخطيرة في المجتمعات المتصدعة ، نتيجة لشيوع مظاهر العنف في نظمها السياسية ، والتطرف في علاقاتها الاجتماعية ، والتخلف في بناها الثقافية ، على خلفية عقود الهيمنة الكولونيالية وما ترتب عليها من محاولات حثيثة ومتواصلة لمسخ التاريخ المحلي ونسخ الذاكرة الشعبية من جهة ، وسياسات ما بعد الاستقلال الوطني قصيرة النظر وما تمخض عنها من أساليب حكم طغيانية ، وإجراءات سيطرة تعسفية أجهزت – دون حسبان للعواقب – على كل ما في كينونة المواطن من مشاعر حميمية تجاه الوطن / المكان ، واستأصلت كل ما في ماهية الإنسان من أواصر الألفة للمجتمع / الكيان من جهة أخرى . بيد انه يجدر بنا عند البحث عن أصول هذه الآفة الوجودية / المصيرية ، التي يبدو أنها استوطنت ذهنية المجتمع العراقي بسهولة ودون ممانعة ؛ الانعطاف نحو طبقات السيكولوجيا للحفر في قيعانها ، والتوجه صوب مرجعيات الانثروبولوجيا للتنقيب في ترسباتها ، والشروع باتجاه مخلفات السوسيولوجيا للبحث في طماها. لقد تواضعت أجيال متعاقبة من العراقيين على جملة من الأوهام والأباطيل التي مؤداها ؛ إن تصور مفهوم الوطن عادة ما يقترن بوجود الزعيم وليس العكس ، وان إدراك أهمية الأول وتقدير قيمته غالبا”ما يستمد أرجحيته من كاريزما الثاني وليس العكس ، وان استيعاب معنى ودلالات فكرة الوطن المجرّدة لا تبدو مفهومة ومعقولة إلاّ من خلال شخصية القائد المجسّدة . بحيث إن عواقب هذه الحالة لم تشخصن فقط حقيقة الوطن ورموزه ، ولا الدولة ومؤسساتها ، ولا السلطة وأجهزتها فسحب ، بل وكذلك كيان المجتمع وقيمه أيضا”. ولهذا فليس من الغرابة في شيء إن تتماهى الغالبية العظمى من العراقيين مع ذلك الهتاف (الرعوي)* ، الذي طالما صدحت به حناجر الحشود المؤدلجة بانفعالية هوجاء لا تحسد عليها: بالروح بالدم نفديك يا … ! . ولما كانت واقعة الوطن قد وجدت أصلا”لتحتضن الإنسان وتحميه ، لا أن تنبذه وتقصيه – إن لم تستغله وتضطهده – وان تأمنه من الجوع وتنتشله من البؤس ، لا أن تضطره إلى الخنوع وتجبره على الاستكانة – إن لم تخصيه وتدجنه – وان تصون حقه وتحفظ كيانه ، لا أن تهدر كرامته وتستبيح حياته – إن لم  تغربه وتغيبه – . فقد أفضت هذه الوضعية الكارثية ، إلى موت فكرة الوطن القومي في وعيه ، واندثار معالم المكان التاريخي في ذاكرته ، وتلاشي مقومات الشخصية الاجتماعية في وجدانه ، واندراس عناصر الهوية الوطنية في مخياله . ومع إن وقائع من مثل ؛ العراقة في التاريخ ، والأقدمية في الجغرافيا ، والاصالة في الحضارة ، والأولوية في السياسة ، والأسبقية في الدين ، تعتبر عوامل أساسية في تأصيل فكرة الوطن في بنية الشخصية الاجتماعية ، وتفعيل دلالتها في الوعي الجمعي ، وتمثيل رمزيتها في الذاكرة التاريخية . بيد إن تلك الوقائع ذاتها سرعان ما تنقلب إلى ضدها ، وتغدو أعباء ثقيلة ينوء بأوزارها الوطن ، وتستحيل إلى مصاعب كثيرة يتلظى بمعاناتها المواطن . لاسيما عندما يكون التاريخ صاخب بالأحداث المفبركة ، والجغرافيا ضاجّة في بالواقع الملتبسة ، والحضارة مسكونة بالظواهر المتناقضة ، والسياسة مثخنة بالانشطارات المتراكمة ، والدين مكتنز بالتابوات المؤسطرة . بمعنى آخر انه بقدر ما تنتفي مظاهر؛ الانقطاعات المستديمة في سيرورة التاريخ ، والانزياحات المتكررة في صيرورة الجغرافيا ، والانهيارات المتواصلة في مدماك الحضارة ، والصراعات المستمرة في أتون السياسة ، والتطهيرات الدورية في مكونات الدين ، بقدر ما تصبح فكرة الوطن قارة في وجدان الفرد ومترسخة في وعي المجتمع . وغالبا”ما تمسك قادة الأحزاب والحركات السياسية (ذات البعد الواحد) ، فضلا”عن مروجي الخطابات الديماغوجية ومسوقي الطروحات العنصرية ، بوهم إن إحياء رمزية الوطن في ذهنية المواطن ، تتأتى عن طريق تبجيله بالشعارات لا تفعيله بالممارسات ، وتوثينه بالإيديولوجيات لا تحيينه بالسوسيولوجيات ، وتفخيمه بالأسطوريات لا تعظيمه بالعلاقات . إذ إن فكرة الوطن ستبقى ، والحالة هذه ، فكرة ضبابية يصعب إدراكها ، وتصور غامض يتعذر استيعابه ، طالما إن المواطن سيجهل معنى إن تكون للوطن أصول ثابتة في الزمان ، ويتجاهل مغزى أن تكون له جذور قارة في المكان ، وينسى قيمة أن تكون له حرمة مبجلة في الوجدان . وحينذاك لابد للاجتماع المدني إن يحتاج إلى قدر هائل من التواصل ، لرأب الصدوع ما بين المكونات المستقطبة ، كما لابد للثقافة الوطنية أن تبذل جهود خارقة من التفاعل ، لرتق الشقوق ما بين الذهنيات المجيشة . بحيث تعطي لعناصر فكرة الوطن زخما”نوعيا”ومتجددا”، ليس فقط داخل أروقة الوعي الفردي والجماعاتي فحسب ، إنما في أعماق السيكولوجيا الاجتماعية وفضاء المخيال الرمزي أيضا”. ولعل الكثير من المحللين والدارسين لأنماط المجتمع العراقي ، ممن فتنوا بصلابة الشخصية العراقية وقدرتها على المجالدة والتحمل ، وقعدوا ضحية إغراء المظاهر وإغواء الخطابات ، حين عصفت بتوقعاتهم الثابتة وأطاحت بقناعاتهم الراسخة ، تلك الصور المأساوية والمشاهد المفجعة من التعهر السياسي للأحزاب ، والتذرر الاجتماعي للأقوام ، والبربر الحضاري للطوائف ، والنكوص القيمي للأفراد ، منذ أن سقطت قلاع الدولة ، وانهارت حصون النظام ، وتهاوت أسوار السيادة ، وتعطلت هيبة القانون ، ولحد الآن . بحيث لم يعد لمفهوم الوطن من دور سوى تبرير التخريب بأسمه المتعالي ، وتسويغ النهب تحت يافطته المحرّمة ، وتشريع القتل على مذبحه المقدس . وهكذا بدلا”من أن يغدو الوطن ملاذا”آمنا”للنجاة من النوائب ، وعوضا”أن يكون ملجأ مستقرا”للخلاص من المصائب ، استحال لدى الإنسان العراقي إلى مصدرا”سخيا”لانثيال معاناته ، وعاملا”أساسيا”لاستفحال اغترابه . بحيث تلاشت لديه نزعة الانتماء للوطن بكل أنواعها ؛ السياسية والتاريخية والجغرافية والحضارية ، وتضخمت عنده فزعة الولاء للعصبية بكل أشكالها ؛ الاقوامية والطوائفية والقبائلية والمناطقية . ولهذا فليس هناك ما يحرك ساكن المواطن العراقي حيال تعرض وطنه للاستباحة ، سواء أكانت من قوى الداخل أو من أطراف الخارج ، كما ليس هناك ما يثير حميته إزاء خضوع تاريخه للمسخ وهويته للنسخ . طالما إن هناك بديلا”يحتكم إليه ويستجير به ، لحظة الوقوع في المشاكل والجنوح نحو المآزق ، التي ما أكثرها في حياة الفرد العراقي ، ليس فقط على صعيد مخياله وتمثلاته ، وتاريخه وتداعياته فحسب ، بل وكذلك على مستوى وعيه وسلوكياته وواقعه وعلاقاته أيضا”. والأدهى والأمرّ رسوخ القناعة لدى الجميع ، بان قيمة المرء الشخصية واعتباره الاجتماعي لا تقاس – في جميع الأحقاب والعهود – بمقدار تماهيه بالهوية الوطنية واجتيافه لقيمها الأخلاقية وتمثله لدلالاتها الرمزية ، كما يفترض أن يكون ، إنما المعيار في ذلك درجة قرابته المادية والمعنوية ، لمن يحكم الدولة باسم القومية / العنصرية ، أو يقود السلطة بغطاء الدين / المذهبية ، أو يتزعم الوطن تحت يافطة الإيديولوجية/ الحزبية ، كما هو كائن بالفعل . ولذلك فليس من العدل والإنصاف مطالبة المواطن بمراعاة حق الوطن في ذمته ، في الوقت الذي لا يمثل له سوى شعار أريد به فرض إرادة القوي على الضعيف ، وتسويغ طغيان السلطان على الرعية ، وتبرير سيطرة الحاكم على المحكوم ، وتمرير هيمنة المتبوع على التابع .
 
(*) التشبيه مأخوذ عن الباحث العراقي (فاضل الربيعي) ، ضمن كتابه ؛ كبش المحرقة : نموذج لمجتمع القوميين العرب .