5 نوفمبر، 2024 4:38 م
Search
Close this search box.

نعم.. جيراننا مجانين

نعم.. جيراننا مجانين

في الربيع الماضي، أقيم مؤتمر السلام الخامس والسبعين في القاهرة، بدأت السيارات الفارهة ومنذ ساعات الصباح الأولى تتوقف أمام بهو فندق ماريوت، ويتراكض المستقبلون مع العمال لاستقبال الضيوف وحمل الحقائب تلاحقهم كل مصطلحات الترحيب العربية.

كان الفندق يشبه المتاحف بأسقفه العالية والنقوش الرائعة وما يزيد من جماله حديقته والشرفات المطلة على النيل الخالد، ترجل الكثير من الضيوف وهم يرتدون مختلف الأزياء الشعبية العربية، وكان ممثلو معظم الدول الإسلامية حاضرين، حيث تم ابلاغهم بعد انتهاء مراسيم الاستقبال بموعد الاجتماع الأول، فوضعوا حقائبهم في الغرف وبدؤوا بالتجول في قاعات الفندق، متفحصين نقوش الأسقف واللوحات التي تجمل الجدران بعيون تتسع وتضيق والتقطوا الصور فرادا وجماعات. اجتمعوا مساءً حول موائد الطعام في حديقة الفندق الفسيحة، فتح منظر النافورة مع الموسيقى الهادئة شهية الحضور للطعام، وكان العدد الأكبر من المدعوين من العراق وسوريا.

حضر عبدالغني المصلاوي مع خمسة من تلامذته في كلية الامام الأعظم، وكذلك مصطفى الحديثي وبرفقته خمسٌ من أتباعه، وعدد آخر من تكريت وديالى. وحضر أيضاً حيدر الطالقاني ويصحبه رجلان من النجف، وعبدالكريم النجفي ومعه سبعٌ من طلبة الحوزة العلمية في النجف، وكان هنالك حضور من البصرة وذي قار. أجواء حميمة غيرت أمزجة من عاش الحرب طويلا، ودار الحديث بالعربية والانجليزية دون أي عوائق تذكر، مرح وضحك ومجاملات فوق العادة، وعندما تم تقديم اللحم المشوي، اقتطع الطالقاني قطعة كبيرة ونقلها إلى طبق الحديثي الجالس إلى جواره، وقال له بحرارة:
– اشتهيتها لك، أتمنى أن تتذوقها.
حاول الحديثي إعادتها إلى طبقه، إلا أنه أقسم عليه بالله أنها لن ترجع، ممسكا بيده وقال مذكرا (حب لأخيك) واغمض عينيه فأجابه ممتناً:
– عاشت ايدك! القطعة كبيرة.
ثم قام بدوره باقتطاع جزء منها ووضعها في طبق النجفي.
في ساعة متأخرة من الليل تم الاتفاق بين العراقيين على أن ينزلوا سوية في التاسعة من صباح اليوم التالي إلى صالة الإفطار، وكان الفراق حميميا جدا كما كان اللقاء. قبّلوا لحى بعضهم وتبادلوا الامنيات بليلة رائعة ونوم هانئ. نظر الحديثي في عيني الطالقاني:
– ما أجمل لمتنا، وهز رأسه وقال مذكرا (تداعى له سائر الجسد)
فهز الطالقاني رأسه مؤيداً ورد بحرارة.
– الله ينتقم ممن كان السبب.
لم يكن الاتفاق بينهما فقط، بل الحاضرون جميعهم كانوا يتحدثون بلغة ضمنية يفهمونها ويتجنبون الحديث المباشر خلالها عن الصراع الطائفي.

في الصباح وعند تمام الساعة التاسعة الا خمس دقائق، توافد العراقيون وسلموا على بقية المدعوين من مختلف الجنسيات، وهم في طريقهم الى المكان الذي اختاره أول الحاضرين من العراقيين بالقرب من أطباق الطعام والحلويات. تحدث المشاركون مع بعضهم البعض وتبادلوا الكثير من المجاملات، استعمل العراقيون مفردات بالتركية مع الاتراك، واستخدموا كلمة “قرداش” مع الجميع، وكانت الإجابات موحدة وهي: “أفندم” باحترام متبادل، وكذلك بادلوا الإيرانيين ذات الاحترام، ولقبوا رجالهم بـ”آغا” ونساءهم بـ”خانم”.

دخل شاب الى صالة الطعام في الساعة العاشرة وخمس دقائق، وطلب من الجميع التوجه الى قاعة الاجتماع، مذكّراً باحترام المواعيد. تسببت الكياسة المفرطة إلى تأخرهم في الذهاب الى القاعة فكل شخص كان يطلب من الآخر أن يتقدمه بالدخول ويشير بيده الى الامام. يقول الأول:
– عفوا تفضل أنت الأول، ويمد يده مشيرا الى الامام، مائلا بجسده لكي تصل يده لمسافة أطول، فيجيبه الآخر:
– لا والله لا يجوز، ويدفعه من ظهره برفق:
– أنت الأول.
جلس أعضاء الوفد العراقي قريبين من بعضهم البعض، أخرج قسم منهم السواك من جيبه، وابتسم لمن مد سواكه الى فمه. بدأت الجلسة بالتعريف بالمنظمين وبدأ المحاضرة الأولى رجل دين مسلم رشيق القامة وله لحية خفيفة يرتدي بنطلوناً أسود وقميصا أبيض، كان قد جاء من هولندا، تحدث بهدوء عن التعايش السلمي غير المعتاد في بلداننا، لم يصرخ كما يفعل كثير من أئمة الجوامع في خطبة الجمعة.

تحدث بعد ذلك رجل دين مسيحي جاء من أمريكا اسمه ستيفن ستيوارت، اسمر البشرة طويل القامة، أنفه مفروش فوق شفته العليا، يشير بيديه بسبب وبدونه، وكان محور حديثه التسامح، التقت نظرات عبدالغني المصلاوي بنظرات حيدر الطالقاني وترقرقت العيون بالدموع. لاحظ بقية المشاركين العراقيين ما يجري، وهمس بعضهم لنفسه “لا حول ولا قوة إلا بالله”.

في استراحة القهوة الأولى تحدث افراد الوفد العراقي من الشيعة والسنة عن سنوات العنف الطائفي بتوجس، وكان الحديث باسم إخواننا الشيعة وإخواننا السنة، ناسين أنهم أبناء أم واحدة اسمها “العراق”، وقد كان مصطفى الحديثي مباشرا في حديثه وقال موجها كلامه للطالقاني والنجفي:
– نحن ظلمنا كثيرا و..

أراد الطالقاني مقاطعته، لكن أصوات المنظمين ارتفعت بالأثناء، وهم يطالبون الجميع بالدخول الى القاعة، وتم التذكير مجددا بالالتزام بوقت الاستراحة، وهكذا لم يتمكنوا من الاسترسال في الحديث. تأخر المشاركون مجددا في الدخول الى القاعة بسبب شدة التهذيب واحترام المنزلة الفقهية لمن سيدخل القاعة أولا.

بدأ الجلسة الثانية رجل أزهري شاب، تحدث حول موضوعة الاعتذار، نظر النجفي في عيني الموصلي وهز رأسه فرد عليه بهزة رأس مماثلة، كان عبد الكريم النجفي مهتما جدا بكتابة ملاحظاته عن السلام والتسامح والاعتذار.

بعدها أقيمت ورشة عمل لابتكار أساليب جديدة تؤدي للتسامح، تم تقسيم الحضور الى مجاميع مختلفة من شتى البلدان وبعد ساعة عادوا للإصغاء الى المحاضرة الأخيرة. رحب العراقيون ببعضهم البعض وكأنهم كانوا قد تفارقوا لوقت طويل، أما نتائج ورش العمل فقد تقرر مناقشتها في صباح اليوم التالي.

المحاضرة الأخيرة
بدأت عند الساعة الثالثة عصرا صعد الى المسرح رجل هندي اسمه بالاديف دانيش وآخر باكستاني يدعى عمران خان علي طرحا موضوع الشكر والامتنان للخالق، على خلقنا وابتلائنا وتوفير فرص خلاصنا، وشرحا بعد ذلك أنه يجب إظهار الامتنان للمحسن أو لصاحب الجميل. بعد انتهائهما من محاضرتهما طلبا من الحاضرين أن يقدم كلٌ منهم شكره لشخص أو لجهة تستحق الشكر.

جاء تسلسل الوفود تباعا، فانتصب الشيخ عبدالغني المصلاوي، وتلا بهدوء البسملة والصلاة على النبي وآل بيته، ثم قال وهو يشير بأصبعه الى الوفد السعودي القريب:

– أصالة عن نفسي ونيابة عن أهالي الموصل نتقدم لكم بالشكر الجزيل لما قدمتموه من دعم انساني ومادي.

بدأ التذمر على وجوه عدد من أفراد الوفد العراقي، ثم قال أحدهم وهو يرفع يده إلى فوق:
-لا بل ايران من تستحق الشكر…
نهض الشيخ الطالقاني عندها وقال بصوت عالٍ:
من يستحق الشكر هو الحشد الشعبي المقدس، هو من قاتل وناضل وقدم الشهداء لانقاد العراق.

زاد اللغط بين أعضاء الوفد العراقي، فقال بالاديف:
– يمكنكم أن تشكروا أكثر من شخص أو جهة، ومن ناحية أخرى الموضوع لا يتعلق بالمفاضلة.

وأشار بيده الى الشيخ أبو محمد من البصرة الذي كان قد رفع سبابته طالباً الكلام، نهض ببطء وتحدث بصوت عميق:

– أتقدم بشكري للسيد علي السيستاني على فتواه التي انقذت العراق، ولولا استجابة أبناء المذهب الشيعي لذهب العراق بما فيه، وشدد على الكلمات الأخيرة مضخماً صوته ثم جلس وعلى وجهه علامات زهو.

جاء دور الحديثي وكانت كل العيون مترقبة والاذان صاغية لما سيتلفظ به، حرك رقبته وكأنه يعدل عقالا على رأسه رغم أنه كان يرتدي الملابس (الافرنجية) كما يحلو له وصفها:

– علينا تسمية الأسماء بمسمياتها، ايران لم تساعد العراق لأجل عين العراق بينما السعودية فعلت ذلك.

صرخ الشيخ الطالقاني:
– ما هذا الذي تقوله؟ كلامك غير صحيح.

نظر الحديثي الى الطالقاني ورفع يده في وجهه محذرا.
– انت قلت ما تريد.. دعني أقل ما أريد، تركيا من تستحق الشكر وخصوصا اردوغان.

قال الشيخ النجفي وهو يرتجف غضباً:
– هذا العفن يستحق الشكر؟
رفع بالاديف صوته مذكرا: نحن في جلسة سلام يا شيوخ، يا شيوخ! ليست جلسة شجار.

استمر العراقيون بالحديث مع بعضهم البعض، غير مبالين باصوات وطلبات المنظمين بالكف عن الشجار.

استرسل الحديثي بوجه محتقن:
ايران قمعتنا، وميليشياتها تأخذ منا الاتاوات.

وقف الطالقاني صائحا ومعترضاً:
– كفاكم كذبا.
كرر بالاديف:
– إن هذه جلسة سلام وبناء جسور.
لكن صوته الخافت المسالم ضاع بين الأصوات العراقية الغاضبة وأدرك أنه لم يعد بمقدوره إيقاف الجدال المحتدم بينهم.

صاح منظم الجلسة انتهت جلستنا لهذا اليوم، تفضلوا الى صالة الطعام، فقام المشاركون الآخرون وساروا متجاوزين العراقيين المنشغلين بشجارهم عن أحقية الشكر بين ايران، السعودية، وبين اردوغان وخامنئي.

اقترح رجل دين سعودي على رجل دين إيراني وهما يمران بالوفد العراقي، قائلا له:
– ربما يتوجب علينا المصالحة بينهم.
– هذا شأن داخلي بينهم، مالنا ومالهم! وسحبه من يده لكي لا يتوقف.

قال السعودي ضاحكاً:
– فعلا شأن داخلي.

وضع شيخ تركي يده على كتف سوريٍ معممِ وسأله بالعربية الفصحى:
– ألن نتحدث اليهم؟
ضحك السوري وأجابه بلكنة أهل الشام:
– يا داخل بين البصلة…

غادر الجميع المكان وبقي العراقيون يختصمون فيما بينهم، وبعد نصف ساعة خرج أعضاء الوفد العراقي بعد أن فضوا مثل ديوك شجارهم، كان المدعوون قد بدؤوا بتناول الحلويات، تاركين موائد الطعام نظيفة من الملذات، غضب الوفد العراقي وهو يتفحص الموائد الخالية وتشاجروا هذه المرة مع المنظمين، لأنهم لم يضعوهم في حسبانهم. ولم ينتبهوا لغيابهم، حينها لكز إيراني جاره، مشيراً بأصبعه تجاه العراقيين وقال ساخراً:
– يتشاجرون مجددا.
انضم اليهما ستيفن ستيوارت وتساءل:
– ما الذي يجري بين العراقيين؟ هل حقاً يتشاجرون كما سمعت بسبب الامتنان؟
ثم رفع صوته وهو يقول:
– هل هم مجانين؟
اهتزت كروش إيرانية، سعودية وتركية من الضحك، وأيد عدد منهم:
– نعم جيراننا مجانين. تبعتها ضحكة مجلجلة زادت من تجهم وجوه العراقيين، وهم يراقبون المشاركين يسيرون مبتعدين عن موائد الحلوى الخالية، واصوات الضحكات تخفت وهم يبتعدون عن الصالة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات