في كثير من المقالات السابقة ذكَّرنا بعضَ زملائنا الكتاب والمحللين بأن أمريكا لا يحكمها رئيسها وحده، وإنما تشاركه في الحكم، وخاصة في المسائل القومية العليا، رئاسات أخرى عديدة، من أهمها قيادة الحزب المعارض والشركات والمؤسسات العملاقة التي تضخ في خزينة الحكومة الفدرالية مئات المليارات من الدولارات سنويا، والتي بدونها تتوقف عجلاتها كلها عن الدوران.
ويخطيء بعض زملائنا حين يعتبرون سياسات الرئيس الأمريكي ترمب الجديدة تجاه إيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين والحلف الأطلسي مُناقضة ومعارضة لسياسات غريمه الرئيس السابق باراك أوباما، وذلك لأنهما، كليهما، يُنفذان ما يُرسم لها خلف الأبواب الأمريكية المغلقة.
ويتوهمون أيضا بأن قرارات ترمب الخاصة بالصين ارتجالية أو انفعالية أو تجارية محضة يهدف من ورائها إلى إكساب الخزينة الأمريكية بعضَ ملياراتٍ من الدولارات، وينكرون أنها قرارات سياسية خالصة، وليست تجارية، والمراد منها إعادة الصين إلى وضع الدولة الأوْلى بالرعاية الأمريكية، ولكن بعد أن تقوم بواجبها في ترويض كيم جونغ اون بالتحديد وحمله على إكمال تنفيذ ما بقي من المطلوب.
ولمن لا يعرف نقول إن التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة يحكمه قانون المعاملة التجارية التفضيلية (وضع الدولة الأوْلى بالرعاية) الذي منحته الولايات المتحدة للصين في عام 1980، لضمان عدم تدهور العلاقات بين الدولتين عندما تتصادم السياسات في القضايا الأخرى.
وهذا ما شجع آلاف المصانع الأمريكية إلى الانتقال إلى الصين لتقوم بتصنيع بضائعها هناك بكلفة أقل بعشرات الأضعاف عن كلفة تصنيعه في أمريكا، وإعادة تصديرهاللأسواق الأمريكية دون أية رسوم أو ضرائب.
وهذا ما قلب طبيعة الاقتصاد الأمريكي من مُصنِّع ومصدِّر إلى مُستورِد وموزِع، حتىأصبح تسعة وتسعون تقريبا من المعروض في أسواق خمسين ولاية أمريكية مصنوعا في الصين، بمختلف الأنواع والأسعار والأهمية.
وما لم تنجز الصين، بجد وحزم، مهمة تعقيل كوريا الشمالية فسوف لا تجد نفسهاالدولة الأوْلى بالرعاية، وسيجعل ترمب بضاعتها في أمريكا، في النهاية، أقل قدرة على منافسة الصناعات الأخرى.
وقد تخسر آلاف أصحاب المصانع، والكثير من المستثمرين الأمريكيين، وخاصة قادة شركات عملاقة تصنع كثيرا من إنتاجها في الصين، مثل جنرال داينمك وبوينغ وجنرال موتورز وجنرال ألكترك ومايكروسوفت وأبل ويو بي إس وAT&T وأمازون وتارغت وول مارت وغيرها.
وفيما يتعلق بسياسات إدارة الرئيس الأمريكي ترمب الجديدة تجاه إيران، بشكل خاص، يمكن القول إنها قضية واحدة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة في الخارج، والتي تقررها أمريكا الجمهوريين والديمقراطيين، وباقي مصادر صنع القرار المهمة الآخرى.
ويبدو أن أهم خطوط هذه المصالح الجديدة هي احتواء وجع الرأس الأكبر، روسياوالصين، والتخلص من وجع الراس الأصغر، كوريا الشمالية وإيران.
ولا يختلف اثنان في أمريكا والصين على أن حروب عض الأصابع بين البلدين لن تستمر طويلا، وستنتهي كما ينبغي، دون ريب.
ولكن القادة الإيرانيين ما زالوا يرون ويسمعون ويقرأون هذه التفاصيل، ولكن لا يفهونها، ولا يدركون حقيقة المطلوب منهم، وحقيقية الذي لابد أن يكون.
وردا على الدعوة التي أعلن فيها ترمب استعداده للاجتماع بهم دون شروط مسبقة،خاطبه قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري قائلا: “يا سيد ترامب، إيران ليست كوريا الشمالية لتقبل دعوتك للاجتماع. مؤكدا أن أي لقاء بين مسؤولين إيرانيين والولايات المتحدة لن يحدث، والشعب الإيراني لن يسمح لمسؤوليه باللقاء أو التفاوض مع الشيطان الأكبر، وحتى الرؤساء الذين سيكونون بعدك لن يروا ذلك اليوم.
نعم، إن إيران ليست كوريا الشمالية، ولكنَّ هذا من سوء حظ النظام الإيراني لا من حسنه. والفروق عديدة.
أولها أن كيم جونغ أون قد استخدم بقايا عقله وفهم أن سياسة المناكفة والمشاكسة لا تجدي نظامه وشعبه نفعا، أما هُم فما زالوا في غيهم وعنادهم وغرورهم يعمهون.
وثانيها ما يملكه الرئيس الكوري من أسلحة نووية وصواريخ باليستية عابرة للقارات، مقارنة بما لديهم مما هربه كيم جونغ أون لهم من خبرة وصواريخ ليس لها قيمة حقيقية في حروب العصر الحديث.
وثالثها أن لكوريا الشمالية دولا كبرى تحملت وتتحمل خسائر كبيرة من أجل حمايتها من أمريكا وحلفائها، أما النظام الإيراني فليس له سوى بوتين، وقد باعه في أول فرصة سانحة.
ورابعها أن زمام الوضع الداخلي في كوريا الشمالية لا يمسك به سوى كيم جونغ أونوحده لا شريك له، وبلا معارضة من أي نوع، أما إيران فغارقة إلى أذنيها في التظاهرات والاعتصامات والاختلاسات والمنازعات العرقية والمذهبية والمناطقية والدينية، حتى أن الهتاف بإسقاط النظام أصبح علنيا ودون خوف في إيران وفي العراق الذي كان المرشد الأعلى يعتبره حزام ظهره عندما يحين الحين.
ويضاف هذا كلُه إلى الكوارث التي حلت وتحل بالعملة الإيرانية قبل إعادة تفعيل العقوبات الأمريكية القديمة، وقبل فرض العقوبات الجديدة في أيلول/ سبتمبر المقبل.
ولكن، وبرغم كل هذه الحرائق التي يغرق فيها نظام الولي الفقيه، تنقل لنا وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن علي مطهّري نائب رئيس البرلمان قوله إن “ التفاوض مع الأميركيين ذل“.
أليس هذا هو ذاتُه ما كان الراحل صدام حسين يقوله قبل أن تغزوه أمريكا وتسقطه،ثم تشنقه بحبال الإيرانيين في النهاية ؟؟