هل تتذکرون محاکمة الکنيسة الکاثوليکية لغاليليو غالييلي؟
کان الرجل قد اکتشف ان الارض لم تکن ثابتة و انما کانت تدورحول الشمس و حول محورها فجهر بهذە الحقائق. لکن هذه الحقائق کانت مناقضة لما کانت الکنيسة تعتبرها حقائق الهية لا يجوز وضعها موضع التساؤل، لذا عقدت الکنيسة محکمة للعالم الايطالي المولد و هددتە باقصی العقوبات مالم يتراجع عن اقواله . العالم الکهل لم يرد ان يکون بطلا فيحرق حيا او يرمی في السجون، لذا تراجع عن معتقداته و قال بصحة ما ادعتە الکنيسة. يقال انە فيما کان يستمع الی حيثيات قرار الاعفاء عنه لتراجعه عن الهرطقة و عودته الی طريق الصواب کان يتمتم ” و لکن بالرغم من کل شيء، فان الارض تدور، في الحقيقة!”
نعم لقد الفشل الاستفتاء و اجبر رئيس الاقليم علی تجميده کما اجبر هو شخصيا علی التخلي عن منصبه، و قد تجبر الاحداث القادمة من سيخلفه حتی علی الغاء نتائچ الاستفتاء، ولکنني استطيع تخيل الرجل الکهل و هو يتمتم” و لکن شعبي، بالرغم من کل شيء، يريد الاستقلال و بناء دولتە و سيحققهما حتما”
استفتاء الاستقلال فشل ليس لان استفتاء الشعوب علی قضايا تخص مصيرها بدعة اوجدها مسعود البرزاني و ليس لان الاستقلال الشعوب فاحشة الفواحش والا لما کنا نری الآن دولة مستقلة علی الخارطة السياسية للعالم.
الاستفتاء فشل لاسباب ذاتية و موضوعية لم يدرک القائمون علی انجازە اهميتها و تهيئة مستلزمات ازالة تلک العقبات. لم يفشل الاستفتاء يوم ٢٥ سبتمبر٢٠١٧ بل يمکن القول انە فشل مع اول انتخاب للبرلمان الکردستاني في يونيو ١٩٩٢ ، فالنموذج الذي ارساە الحزبان الکبيران في تقاسم السلطة بالمناصفة کان نموذجا کسيحا ربما کان ملائما لايام الکفاح المسلح و التنافس من موقع القوة و النفوذ و لکنه لم يکن ملائما البتة لبناء امة خرجت توا من حرب ابادة دمرت کل بناها التحتية و خلفت اربعة الاف قرية مدمرة و مناطق شاسعة مزروعة بالالغام وعوائل و اطفال ١٨٢٠٠٠ من الکرد الذين قتلوا و دفنوا في الصحاري ضمن حملة الانفال السيئة الصيت. التنافس الحزبي و ضيق الافق و الاطماع المادية بين الحزبين المتنافسين، و بالاخص علی موارد المعبر الحدودي في ابراهيم خليل دفعهما الی ارتکاب کل الموبقات وصولا بالاستنجاد بالاعداء. الاتحاد الوطني طلب النجدة من ايران و جيش الپاسداران فما کان من مسعود البرزاني الا ان استنجد بطاغية العراق صدام حسين فاستطاع بمساعدة دباباتە من “تحرير” اربيل من قوات اليکيتي التي لاذت بالفرار الی ايران ، التي ساعدتهم لاحقا علی العودة للسليمانية و انشاء ادارة رديفة لادارة اربيل.
الادارة الاميرکية التي کانت لديها خططا بعيدة المدی للعراق منذ غزو العراقي للکويت و طردە منها فيما بعد ، اصبحت راعية للمصالحة بين الحزبين المتقاتلين لاستخدامهما مستقبلا کما رأينا لاحقا. و منذ ذلک الحين تحول التنافس بين الحزبين من تنافس بالاسلحة و الاقتتال الی تنافس في الاستحواذ علی موارد الاقليم مع مراعاة عدم التحرش بمناطق نفوذ الجانب الآخر تجنبا للقتال و خوفا من اغاظة الراعية الاميرکية. الغزو الاميرکي للعراق ساعد علی صعود نجم الحزبين الکردين لدی المحتل الاميريکي مقارنة بالاحزاب الاخری المعارضة لصدام حسين لامتلاک الحزبين السيطرة علی مساحات من الاراضي تمکنهم من القيام بالعمليات العسکرية ضد قوات النظام او تقديم الخدمات للقوات الاميريکية علی خلاف الاحزاب الاسلامية الشيعية التي کانت قادتها متشردة في دول الشتات و في قواعد في کردستان ، و ان لم تتوانی هي الاخری من تقديم فروض الولاء للمحتل الغازي حد اهداء سيف الامام علي ” ذو الفقار” الی وزير الدفاع الامريکي دونالد رامسفيلد!
لقد استغل الحزبان الکرديان حضوتهما لدی الامريکان اولا وحتی في البرلمان العراقي في ترجمة کل الحق الکردي بالمال. فما ان کان الحديث يدور عن الانفال حتی کنت تسمع بکلمة التعويضات، وکذلک عن القصف الکيمياوي لحلبجة و کذلک القری المهدمة و کذلک الآلاف من المعتقلين ضحايا النظام السابق، فجردوا مأساة الکرد من اية قيمة معنوية و انسانية کبيرة و حولوها الی ارصدة. تلک الارصدة استغلت لشراء الذمم و الاصوات لضمان الفوز بالانتخابات فجری تعيينات کبيرة غير مبررة و احيل العديد الی التقاعد او اضيفت اسماؤهم الی قوائم الپيشمەرگە و المعتقلين السياسيين و الذين نالوا رواتب و تعويضات دون ان يکونو قد حملوا السلاح او اعتقلوا يوما واحدا
تضخم الجهاز الاداري و الوظيفي في کردستان کان يتطلب موارد ضخمة و في ظل انخفاض اسعار النفط و کنتيجة لفلتان الرقابة من المرکز، الذي کانت احزابه الحاکمة هي الاخری متورطة للذقون في مجاري الفساد، قام الحزبان الکرديان بتنظيم عمليات سرقة منظمة للنفط، و لکن هذا النفط وان کان يستخرج من حقول في کردستان، فانە کان في نظر المواطن العراقي العادي مازال نفطا عراقيا يسرقە اخوە الکردي، مما ادی الی فقدان تعاطفه مع مظلومية الکرد بل و حتی الحقد عليهم، خصوصا و ان المواطن الکردي کان يتمتع بأمان نسبي کان قد اصبح حلما بعيد المنال لدی اخيه العربي . هذا الجو سهل علی المرکز تبرير قطع مستحقات الاقليم من الميزانية دون ان يعطي المواطن العراقي الفرصة للسؤال حول مصير المليارات من الميزانية و التي لم يقم الکرد بسرقتها!
بروز داعش( بالرغم من کل ملابسات ظهورها وما يقال عن دورمحتمل لقادة الکرد علی الاقل في غض النظر عن تفاقم خطرها) کانت فرصة جيدة لاعادة جسور التلاقي و التعاون بين المکونات العراقية في تظافر للجهود من اجل دحر داعش، و لکن اندفاع مسعود البرزاني لملء الفراغ و السيطرة علی المناطق المتنازع عليها کان خطأ جسيما. صحيح ان الرجل کان قد نفذ صبره من عدم جدية المرکز و مماطلته في حل اشکالية تلک المناطق و لکن المرکز استغل تلک الخطوة لتصوير العملية کأنها محاولة للي الاذرع و فرض الامر الواقع فاستطاع تأليب الرأي العام العراقي ضد الکرد بدون ان يذکر بکلمة واحدة مسؤوليتە عما آلت اليه الامور.
و لکن انتظار مسعود البرزاني لحين وشوک الحرب ضد داعش علی الانتهاء لاعلان استفتاءه، کان خطاءا، و غريب ان خبرتە الطويلة لم تعلمە ان الدفع في سوق السياسة يجب ان يکون مقدما و لا يحتمل اي تأجيل و لربما عبر هو عن هذە الخيبة حين قال في خطاب تنحيه انە کان يتوقع ان العالم يکافيء الکرد و پيشمرکتهم علی تصديهم لداعش، بدلا من هذا التحشيد الغير متوقع ضد الاستفتاء
داخليا کان انشغال الرئيس جلال الطالباني بانجاز مهمتە کرئيس للجمهورية ، و التي کانت تبدو کحلم حياتە و منتهی طموحە، کان قد الهاە عن الاهتمام بالشأن الکردستاني و الحد من اندفاع غريمه في السيطرة الکاملة علی مقدرات الاقليم، و کان هذا بدورە قد اوهم رئيس الاقليم بأنە قادرعلی فعل ما يريد دون اعتراض، خصوصا ان من خلفهم جلال الطالباني في الاقليم لادارة شؤونە مشارکة مع البارتي لم يکونوا يملکون قدرة مسعود البارزاني علی المناورة و لا المقاومة الکافية لاغراءات السلطة و المال اللذين کانا تحت يدي مسعود البارزاني. لذا قام بتعطيل البرلمان و استهان بکل صوت معترض حتی قال في احدی خطاباتە عن منتقديە” ليذهبوا و يفعلوا ما يشاؤن ، يرقصون او يهتفون لا يهم”!
لکل ذلک لم يجد مسعود البرزاني معارضة جدية او قوية بما فيه الکفاية عندما طرح مسألة الاستفتاء. عدا عن ذلک فأن توق الشعب الکردي للاستقلال توق حقيقي و ليس وهما اطعمهم اياه مسعود البرزاني او اي حزب سياسي. و الکرد لا يرون في توقهم للاستقلال جحودا او خيانة بحق اخوتهم العرب کما حاول اعلام الاحزاب الاسلامية تصوير الامر و تأليب الشارع العراقي و العربي و الاسلامي ضدهم.
لقد قدرت کل من ايران و تورکيا خطر الاستفتاء حق قدرە. فمجرد کسر الطلسم و تجاوز التابو الذي يقول بأنە لا يجوز للکرد التفکير بالاستقلال، کان خطا احمرا بذلوا کل جهودهم لمنع تجاوزە لانهم يعرفون تأثير ذلک علی کردهم، و قسوة ردة فعلهم الآن ناتجة من غضبهم علی ما فعله الاستفتاء بالرغم من فشلە. نعم الشعب الکردي قالها واضحة لا لبس فيها انە يريد الاستقلال ولا احد يستطيع ان يغير من ذلک بعد الآن و الحکومة العراقية تخطأ اذ تعتقد بأن من تعاونوا معها في اعادة احتلال کرکوک سيغيرون من الامر شيئا. کان لدی صدام حسين ربع مليون کردي من الافواچ الخفيفة و لکن حين انتفض الشعب الکردي لم يستطع هؤلاء ان يحموا اجهزته القمعية في کردستان ، بل و في کثير من الحالات کانوا هم في مقدمة المهاجمين عليها تکفيرا عن خيانتهم و حفظا علی حياتهم .
لقد اجبر مسعود البرزاني او قد يجبرقريبا علی الذهاب و لم يترک وراءه نموذجا للحکم يتطلب من الباحثين وقتا طويلا لتعداد حسناته و لکنە يستطيع بکل ثقة ان يجلس في کرسيه الهزاز و يقول مبتسما:
” و لکن الارض لا تزال تدور و شعبي لا يزال متمسکا بالاستقلال”