7 أبريل، 2024 12:17 م
Search
Close this search box.

نظريّتي عن ولادة الأديان -9

Facebook
Twitter
LinkedIn

أغلب المجتمعات البشرية في كل قارات العالم كانت خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة قبل الميلاد تتصف بالإستقرار النسبي في الأماكن الجغرافية التي تَصلح للزراعة وتربية الحيوانات، الا أنهّ مِن المُؤكد أنّ المجتمعات البشرية التي كانت تسكن في (بلاد النهرين) والمتمثلة حالياً بكامل دولة العراق وأجزاء من دول سوريا وتركيا وإيران في قارة آسيا (وهناك من يضيف اليها مجتمعات أخرى في دول أخرى من مناطق العالم) لمْ تكتفي بالزراعة وتربية الحيوانات حسْب وأنما تمكنتْ خلال هذه الثلاثة آلاف سنة الأخيرة قبل الميلاد مِن الإنتقال بنفسها وبكامل مجتمعات الكرة الأرضية، مِن العصْر الحجري في تاريخ الإنسان الى عصر الكتابة والحضارات والهندسة والذي هو عصْر (السبائك والمعادن) كالنحاس، البرونز، الحديد، الذهب، والفضة.

عَصْر (المعادن) هو عصر حاسم ومهم جداً في التاريخ البشري صنَعته في أغلب الظن مجتمعات ما بلاد النهرين (وربما تزامنت معها مجتمعات أخرى) خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة قبل الميلاد حينما تمكن دماغ الإنسان من بناء أول وأضخم حضارات التاريخ البشري، حيث تمكنت مجتمعات بلاد النهرين من إبتكار الكتابة وإكتشاف وإستخراج وتصنيع المعادن (الفلزات)، كما تمكنت حضارة بابل الكلدانية وسط العراق من إختراع أول عُملة نقدية في التاريخ البشري والمسماة حينها الـ (شيكل) وهي أول عملة نقدية للتبادل التجاري في التاريخ البشري، ولتكون تلك العملة النقدية المعدنية هي البديل عن أسلوب المُقايضة الذي كان هو الأسلوب الوحيد المستخدم في العصر الحجري، علماً أنّ الـ (شيكل) هو أسم العملة النقدية الرسمية المتداولة في دولة إسرائيل حالياً.

مجتمعات بلاد النهرين تمكنتْ أيضاً خلال عصر المعادن ولأول مرة في التاريخ البشري من تصنيع العدد والادوات المعدنية بدلا من تلك الحجرية التي كانت مستخدمة في العصر الحجري، كما أستطاعت مجتمعات بلاد النهرين في عصر المعادن من تصنيع السفُن وبناء أول المُدن والأبنية الحضارية ذات التصاميم الهندسية والمعمارية الرائعة والمُبهرة على مدى التاريخ البشري والتي ما تزالت آثار بعضها قائمة لحد الآن في العراق وفي المتاحف العالمية، وتمّ أيضاً في بلاد النهرين ولأول مرة في التاريخ البشري خلال عصر المعادن سَنّ الأنظمة والقوانين المكتوبة التي تتحكَم بحياة أفراد تلك المجتمعات.

تُفيد أغلب المصادر التاريخية المتعددة بأن إنسان بلاد النهرين تمكن في عصر المعادن أيضاً ولأول مرة في التاريخ البشري من إختراع (العجلة) وأنظمة قياس الوقت، وأبتكار الكتابة المسمارية، بينما تمكن الفراعنة في مصر فيما بعد من إبتكار الكتابة الهيروغليفية وبناء حضارة فيها الكثير من روائع البناء الهندسي والمعماري.

أرى أن مجتمعات بلاد النهرين شهِدت في عصر المعادن ظهور أول شكلٍ مِن أشكال الـصِراع الطبَقي الواضح والمتكامل الصورة في التاريخ البشري بعد ظهور (المال) في تلك المجتمعات والتي بدأت فيها منظومة العائلة (الأسرة) بالوضوح جنباً الى جنب إزدياد أعداد أفراد تلك المجتمعات بسبب الإستقرار النسبي في الزراعة وتربية الحيوانات والبناء والصناعة والتعليم والطب والتجارة بالفائض من المصنوعات والمحاصيل الزراعية، وما أدّاه ذلك الى وجودِ لِغنيّ وفقير، ولِقويّ وضعيف، ولسيّد وعبْد، حيث كان بأمكان الغنيّ، مثلاً، شراء وبيع الرجال والنساء والأطفال بإعتبارهم عبيداً.

في سياق متصل، إزداد تأثير وأعداد وأصناف وتسميات الآلهة في مجتمعات بلاد النهرين بشكل كبير جداً بعد ظهور الصراع الطبقي فيها، وكطبيعة بشرية لمْ يَكن أمام الأغلبية الضعيفة من أفراد تلك المجتمعات سبيلاً للتخلص مِن ظُلم أو أعتداء الأقليّة ذات القوة أو المال، سوى اللجوء الى الآلهة الملموسة والمصنوعة بأيديهم، والتودد اليها والتمنّي منها لإيصال صوتها الى الخالق (الله)، ليس فقط لغرض الحصول على الحماية من الحيوانات المؤذية والمفترسة ومخاطر الطبيعة كما كان يحدث غالباً في حياة الإنسان أثناء العصر الحجري الطويل والسابق، وأنما أيضاً لتَمنّي الحصول على حقوق المساواة والعيش بعيداً عن ظلم وإستغلال وإعتداء أفراد نفس جنسهم البشري والمتمثل بالأقلية الغنيّة والقويّة المتسلّطة عليهم، وهنا توجّه بعض أفراد مجتمعات عصر المعادن الى إمتهان مهنة (صناعة الآلهة) للمرة الأولى في التاريخ البشري، وذلك حينما إمتهنوا الترويج للآلهة التي يصنعونها من الأحجارأو الطين مانحين لها أسماءاً مختلفة، فهذا هو إله الشمس وذاك هو إله المَطر، وهذا هو إله الخُصوبة وذاك هو إله الجمال، وهذا هو إله القوة وذاك هو إله العدل أو إله النور، وغيرها من التسميات التي كانت تدلّ في معاني أسمائها كل ما يتمناها الإنسان في تلك الأزمنة إبتداءاً مِن تمنّي القُدرة على العيش الكريم على سطح الأرض بعيداً عن إستغلالات وإعتداءات الأقوياء والأغنياء وأنتهاءا بالرغبة في تَجدّد الحياة الأبدية بعد الموت.

صانعي الآلهة الذين كانوا يروّجون لصناعتهم مِن أصنامِ وتماثيل الآلهة في عصر المعادن، توسعوا كثيراً في مهنتهم المربحة هذه والتي كانت لا تتطلب منهم سوى المزيد من الأكاذيب حول قدرة آلهتهم على صنْع المستحيلات، فقاموا ببناء المقرات أو البيوت الخاصة بتلك الآلهة ولتكون تلك البيوت هي الأماكن أو المعابد التي يتوجه اليها المساكين المُستضعَفين حاملين معهم هداياهم الى تلك الآلهة من أجل أن تقوم تلك الآلهة بإيصال أمانيهم الى الخالق (الله).

تمكّن الحُكماء من أفراد مجتمعات بلاد النهرين من أنْ يكونوا أول قادة سياسيين ودينيين في التاريخ الإنساني، وحصل هذا حينما إستغل اولئك الحكماء الحاجة الطبيعية والمُلحّة لدماغ إنسان مجتمعاتهم الى وجودٍ ملموسٍ لِمَنْ يُمثل (الله) على الأرض، وليقوموا بأعلان تَسلطٌهم وسيادتهم المُطْلقة على أفراد مجتمعاتهم بتوكيل من الآلهة السائدة في ذلك الزمن حسْب زعمهِم، كما قام اولئك الحكماء بِسنّ أول شرائع أو قوانين مكتوبة في التاريخ البشري لتنظيم الحقوق والواجبات للإنسان، كما قاموا بتشغيل الجاريات والخدَم والعبيد لديهم إضافة الى الكهنة والقضاة والعسكريين وذوي المهن الهندسية والطبية، موؤسسين لأول أنظمة ممالك واضحة في التاريخ البشري، فالمَلك حمورابي، مثلا، والذي حكم مملكة بابل في وسط العراق لمدة 42 عاماً للفترة من عام 1792 لغاية عام 1750 قبل الميلاد نحتَ حروف وكلمات شريعته القانونية والتي تُنظِم كافة شوؤن حياة المجتمع على الحجر الأسود الذي يبلغ وزنه قرابة الأربعة أطنان والموجود حالياً في متحف اللوفر بباريس، حيث يظهر في أعلى الحجر الأسود شكل الملك البابلي منحوتاً وهو يتسلم القوانين من إله العدل أو إله الشمس، بينما نُقشَت في بقية مساحة هذا الحجر جميع قوانين الشريعة البابلية والمتكونة من 282 مادة قانونية والتي تمكّن الآثاريون مِن فك رموز معضمها، كما عثر علماء الآثار الغربيون على نُسخٍ أصلية أخرى من مَسلّة حمورابي أصغر حجماً في عدة مناطق من بلاد الرافدين والبلدان المجاورة مما يعني أنّ الملك حمورابي كان يُدرك أهمية نشر أحكام وقوانين شريعته في جميع المناطق التابعة الى حُكمه، مُنوّهين الى عثور مجموعة علماء آثاريون ألمان وعراقيون في السنوات الأخيرة للقرن العشرين على أكثر من ألفي لوح طيني في موقع آثاري في منطقة (تل حرمل) الكائن وسط العراق وتضمنت بعض تلك الألواح على 61 مادة قانونية مكتوبة باللغة الآرامية ويعود تاريخها الى ما يقارب 1900 سنة قبل الميلاد، وتضمنت الألواح الأخرى على ما يدل من علوم هندسية وحسابية وبضمنها مباديء اللوغارتمات وجذور الأعداد وغيرها، إضافة الى عقود رسمية وصُكوك تجارية وعقود زواج وأرث وأجور عمال وغيرها من الشوؤن الإدارية لمملكة (إشنونا)، الا أن علماء التاريخ والآثار يرون في كل الأحوال أن شريعة حمورابي العراقية البابلية هي أقدم شريعة قانونية دقيقة وشاملة وناضجة تمّ سَنّها في التاريخ البشري، حيث إن تلك الشريعة إستفادتْ من نمَط ومضامين شرائع عراقية سبقتها بقرون عديدة كشريعة (أشنونا) أو وثيقة (أوركاجينا) أو شريعة (أورنمو) أو شريعة (لبْت عشتار).

يتبع ..

أعلاه هو الجزء الثاني من مقال ( نظريتي عن ولادة الأديان) من كتابي المعنون بـ ( أحترم جدا هذا الدين ) والمنشور عام 2021 بأكثر من تسع لغات رئيسية متداولة في العالم !

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب