23 ديسمبر، 2024 6:59 ص

نظرة نحو “عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف”

نظرة نحو “عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف”

شهادة لتأريخ العراق في عقد الستينيات يشرفني أن أضيفها إلى صفحات موقع “كتابات” الأغر قبل أن يطويها النسيان ومشيئة الأقدار…. فحين أُنتـُخِبتُ ضابطاً في فوج الحرس الجمهوري الأول، وكلّفتُ للمرة الأولى يوم (الجمعة-21/8/1964) بحماية مسكن الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” الذي تحدث معي وجهاً لوجه موجهاً لي العديد من النصائح والإرشادات قبل أن يحمّلني سلاماً خاصاً للواء الركن عمر علي -أحد أبطال حرب فلسطين (1948) وقائد فرقة المشاة الأولى المنتشرة بتشكيلاتها في المنطقة الجنوبية من العراق لغاية يوم إنقلاب (14تموز1958)- حين رأيتُ من الواجب والأمانة -بعد ذلك المديح والإطراء بحق ذلك القائد البطل- أن أُبلّغه في أول فرصة ممكنة، لأعود بما يطرحه ويتحدث به إلى”رئيس الجمهورية” في أي لقاء قريب لا بد أن يقع طالما سأُكلَّف بمهمة حماية مسكنه في أيام لاحقة.

وقتما كنت تلميذاً في الكلية العسكرية فقد كانت زياراتي للعم “عمر علي” في داره بمنطقة “الوزيرية” تتمّ برفقة والدي الذي كان يزور “بغداد” مع الأهل بمعدل مرة واحدة أو ربما مرتين في كل سنة، وكان لا بد أن يحضر في دار “اللواء الركن عمر علي” في كل زيارة إحتراماً لمقامه والزمالة التي تربطهما، مع بعض القرابة.. ولكن في هذه المرة، قررتُ زيارة “الباشا” لوحدي طالما تخرجت ضابطاً من جهة، ولأُخبره -ببعض التفاخر- أنني عُيّنتُ في “الحرس الجمهوري” وإلتقيت مع رئيس الجمهورية من جهة ثانية… ولربما سأكون وسيطاً في لقاء ودّي قد يتم بينهما في قادم الأيام.

وبعد إنقضاء أيام عديدة، إرتديتُ أفضل بذلة مدنية صيفية أمتلكها مع رباط عنق أنيق، ذاهباً الى داره في “الوزيرية”، ليطل “أبو بارز” بقوامه المهيب ووجهه البخيل في الإبتسامة، وشاربه الكث، وصلعته التي تحتل الجزء الأكبر من رأسه… وبعد دقائق من الترحاب والمجاملات، بادرتُ الى القول:-

* يا عم عمر.. جئتُ لأبلغك أن السيد رئيس الجمهورية ذكرك بالخير وشهد لك بطلاً من أبطال “حرب فلسطين”،وطلب مني إبلاغك أن أبوابه مفتوحة لك متى ما شئت.

نظر إلي وقد تجهّم وجهه وتحول إلى كتلة من نار، وبات يزأر كالأسد:-

* إن هذا ((؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟)) والأرعَن الأهوَج”، والصبياني في تصرفاته وإندفاعاته وطموحاته، قد قاد العراق إلى ما أمسى عليه اليوم.. وأنه لو لم يقتحم “بغداد” ويغدر بالعائلة الهاشمية المالكة ومسكن “نوري باشا السعيد”، ولو لم يقترف ما خطاه في ذلك اليوم المشؤوم، لما كان “عبد الكريم قاسم” قد إقتدر على قلب نظام الحكم وإستحوذ على كرسي السلطة يوم (14تموز المشؤوم)… إن “عبد السلام” هو المسؤول الأول عما قاساه وعاناه هذا الشعب المسكين وتعرّض له هذا البلد المعطاء وما سيتعرض له من مآسٍ ومذابح ومجازر متلاحقة، وعمّا سيصيبنا من أوضاع أنكى لسنوات طويلة قادمة وعقود متلاحقة، وأن الذين يسمون أنفسهم ((ثواراً)) لم يكونوا سوى ((حفنة)) من الضباط المجازفين والطامعين في تسلّم مناصب ليسوا أهلاً لها، فقد أرادوا الإستحواذ على مقاليد الحكم، متذرعين بكون العراق مستعمراً… أي إستعمار هذا الذي يتحدثون عنه؟؟… العراق لم يرضخ للإستعمار بشكل مطلق منذ قام الحكم الوطني عام 1921… نحن لم نكن مثل العديد من الدول العربية والإسلامية التي رضخت لـ”إنكلترا” أو خضعت لـ”فرنسا” أو “إيطاليا” أو سارت في ركاب “هولندا”، فنحن في العراق المحاط بدول ذات أطماع ببلدنا، كان لا بد لنا أن نستند بظهرنا على قوة عظمى متنفذة في أمور العالم، كي تحمينا من جهة وتُحَيِّد تلك الدول والخصوم من جهة أخرى… والخطر الشيوعي-الذي أذاقنا الثوريون مرارة طعمه عامي (1958-1959)- والمدعوم سوفييتياً لهو داهم ومُحدِق بنا على طول الخط، و”الإتحاد السوفيتي” لا يبعد عن شمالي شرقي بلدنا سوى بضع مئات من الكيلومترات، و”الجيش الاحمر” لو إندفع بقدراته الهائلة فإن بإقتداره إختراق الإراضي الايرانية أو التركية قبل أن تكتسح شمال وطننا خلال أيام معدودات على أكثر تقدير.. ولذلك فقد أدخَلَنا ساستنا أيام العهد الملكي في حلف قوي مع “بريطانيا”، ومن ورائها “الولايات المتحدة الأمريكية” كي يضمنوا سلامتنا، في حين أشركوا “ايران وتركيا” في الحلف نفسه ليصونوا العراق من أخطارهما.. لذلك ساد الهدوء والإستقرار، ليس في العراق فحسب، بل عمّ الشرق الأوسط كله بشكل قلّما تنعّمت به أية منطقة ذات أهمية مشابهة في العالم، حيث أضحى للعراق وزن، ليس في مستوى المنطقة فقط، بل أمسى العالم كله ينظر نحونا بمنظار عالٍ وثقل مشهود، وهذه الأمور يسمّونها “سياسة التوازن” أو “توازن القوى”.. ولستَ أنتَ فقط -يا ولدي- صغيرٌ على إستيعاب هذا

الكلام، إنما حتى رئيس جمهوريتك -غير المحترم- لا يتفهم أصلاً ماهية “التوازن” على الرغم من حمله “شارة الركن الحمراء” على كتفَيه… وأن العراق كان سائراً حتى (تموز1958) بخطىً رصينة نحو التقدم والإزدهار والرقي، أما هؤلاء ((الثوار)) قد أعادونا (100) سنة الى الوراء، وأن منجزات وخطط “مجلس الاعمار” الذي تشكّل عام (1954) خير دليل على ما أقول.

* سأستوعبها يا عمي وأتفهّمها باذن الله… ولكن، يا عم عمر، ألم يكن الإستعمار يمتص دماءنا ويستحوذ على نفطنا؟

* حسناً… ولكن ماذا عمل هؤلاء ((الثوار)) حيال الإستعمار الماص لنفطنا؟؟؟ فها هو النفط العراقي ما زال متدفقاً منذ (تموز1958) عن طريق الأجانب أنفسهم، ولم يستطع لا “عبدالكريم” ولا “عبدالسلام” ولا غيرهما أن يقف في وجوههم ويتحداهم… وإذا ما إقترف أحدهم خطوة ما، فإن ذلك سيكون وَبالاً على كل العراق وشعبه إن عاجلاً أو آجلاً، فالنفط شريان الحياة، والذين نقبوا عنه وأستخرجوه من بواطن أرضنا في عقد العشرينيّات، وأوصلوه بالأنابيب التي مدّوها هم -وليس سواهم- الى الخليج العربي أو البحر المتوسط، ونقلوه بسفنهم العملاقة الى الأسواق العالمية، يستحيل أن يغضّوا النظر عنه ويتركوه بين أيدينا لنفيد منه نحن دون أن يتدخلوا… فأبلغ ذلك الى رئيس جمهوريتك المحترم.

* يا عم عمر… أقولها بصراحة، أني لستُ بمستوى هذا الكلام الكبير، ولا يمكن أن أتحدث مع السيد رئيس الجمهورية إلاّ بقدر إجاباتي المحددة على أسئلة معينة قد يطرحها… ولكننا نسينا تحيات سيادته اليك.

* لستُ على أي إستعداد أن أرتبط مع “عبد السلام عارف” وأقرانه بأية علاقة، فقد عانيتُ الضَيم من ثورتهم اللعينة، وأُدخِلتُ في قفص الإتهام وأنا بهذا العمر وبتلك الرتبة… وحُكِمَ عليّ بالإعدام بعد ما خدمتُ هذا الجيش وهذا الوطن أكثر من (40) سنة خدمة لا شائبة فيها… وتوفي ولدي من جراء سماعه لحكم الإعدام… وأنا الآن لستُ بحاجة إلى ((فخامته)) ولا لغيره، وسوف لا أتقرّب إليهم مهما كانت الظروف إن شاء الله، فـ((لا أتمنى أن أرى قرداً ولا أستأنس إذا رآني)) … ولكن، ولكي لا تُحرَج أمامه، رُدّ إليه السلام فقط إذا ما طرح ذكري مرة أخرى.