في حملة تبدو شبيهة بالحملات الدعائية في عهد الاتحاد السوفياتي السابق، يعمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الوقت الراهن إلى الترويج لفكرة جديدة مفادها أن النظام العالمي «الأميركي» انتهى. وتجري مناقشة الفكرة في الوقت الحاضر عبر البرامج الحوارية التلفزيونية الروسية، ويتناولها «خبراء» في مؤتمرات تعقد بمختلف أرجاء أوروبا. وقد جاء طرحها للمرة الأولى من قبل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر الأمن الدولي الأخير في ميونيخ بألمانيا.
في الواقع، بوتين ولافروف على صواب؛ فالنظام العالمي الحالي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يعد نتاجاً، في الجزء الأكبر منه وليس حصرياً، لمبادرات أميركية تعكس الهيمنة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية الأميركية على الساحة الدولية التي باتت في حالة تخبط وارتباك جراء أكبر صراع مسلح مدمر في التاريخ البشري.
وعند إمعان النظر في مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة والمنظمات الكثيرة التابعة لها، ناهيك عن صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو اتفاقية الـ«غات» التي جاءت كمقدمة لبناء منظمة التجارة العالمية، ستجد أنها جميعاً تحمل خاتم «صنع في أميركا».
في الواقع، تقريباً جميع جوانب الحياة الدولية يجري تنظيمها وإدارتها عبر أكثر من 10.000 معاهدة واتفاقية وميثاق وبروتوكول، جميعها تقريباً صنعت في أميركا، وشارك في صياغتها من حين لآخر حلفاء أوروبيون.
كما أن العملة الأميركية كانت ولا تزال بدرجة كبيرة العملة الرسمية للتجارة العالمية، الأمر الذي يرجع في جزء منه إلى حرص أي شخص يملك مالاً، بما في ذلك الأفراد داخل الصين، على تحويلها إلى دولارات قدر المستطاع.
عسكرياً، ما تزال الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على نشر قواتها العسكرية في جميع قارات العالم، بجانب تمتعها بقدرات لوجيستية لا يمكن دونها شن عملية عسكرية قوية فيما وراء حدود أي دولة لفترة طويلة من الوقت.
بالنسبة لمسألة ما إذا كانت هذه الهيمنة الأميركية قد أفادت العالم، فإن ثمة تبايناً للآراء هنا. ومع هذا، يبقى الأمر المؤكد أنه برغم عيوبه، نجح «النظام العالمي الأميركي» في العمل. ورغم أننا شهدنا اندلاع الكثير من الحروب الصغيرة والمتوسطة والكبيرة منذ عام 1945، فإن العالم لم يعانِ من حرب عالمية جديدة. كما مرت جميع دول العالم تقريباً بتحول اقتصادي غير مسبوق. كما أن المجاعة، التي شكلت ملمحاً متكرراً في الوجود الإنساني منذ فجر التاريخ، اختفت تقريباً، بينما جرت السيطرة على معظم الأوبئة التي لطالما كانت من الأسباب الرئيسية وراء الفتك بالإنسان لقرون.
وبطبيعة الحال، لا يعود الفضل حصرياً وراء ذلك إلى الجهود الأميركية، لكن تظل الحقيقة أن النظام العالمي ظل صامداً. الآن، ربما يكون بوتين ولافروف على حق في التلميح إلى أن النظام العالمي الأميركي القديم ربما أصبح بحاجة إلى تنقيحه، خاصة أن التاريخ لا يتجمد قط عند لحظة بعينها في الزمن، علاوة على أن سلسلة من التحديات والشكوك ألمت بالنظام العالمي الأميركي على امتداد العقد الماضي. الأهم من ذلك، أن توافر قدر أكبر من التنوع في الأفكار على الصعيد الإنساني سيجعل المستقبل أفضل للجميع.
إلا أن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا: ما البديل الذي يطرحه بوتين ولافروف؟
إن الزائر لروسيا سيندهش من أعداد الروس الذين يحاولون محاكاة الأميركيين، ليس في أسلوب حياتهم فحسب، بل حتى في الأسماء التي يستعيرونها من المسلسلات الأميركية. كما أن الكثير من الروس ممن بنوا ثرواتهم حديثاً يحرصون على إخفاء أموالهم في مصارف خارج البلاد ويربطونها نهاية الأمر باستثمارات عقارية في نيويورك ولندن. كما تقدم أعداد كبيرة من الروس حالياً على شراء أجزاء كبيرة من فلوريدا، حيث أقام الرئيس ترمب البيت الأبيض البديل له. وتعكس الحياة اليومية للطبقة الوسطى في روسيا إقراراً للأسلوب الأميركي في الحياة، وليس التنديد بها مثلما يزعم بوتين ولافروف.
ويبقى التساؤل: هل تعرض الحكومة الروسية بديلاً جذاباً من خلال قصفها الأبرياء العزل في حلب؟ أم أن النظام العالمي الروسي البديل يتضمن تشويه الرياضة العالمية من خلال الغش في الأولمبياد؟ هل ينبغي قصر التجارة العالمية على النفط والغاز الطبيعي والأسلحة نظراً لأن روسيا ليس لديها شيء آخر لبيعه؟
أيضاً، يتضمن النظام العالمي الروسي البديل غزو الدول المجاورة الضعيفة وغير المسلحة في الغالب مثل جورجيا وأوكرانيا واختطاف أجزاء من أراضيها، أو على الأقل الضغط على هذه الدول لإجبارها على تقديم تنازلات مثلما حدث مع مولدوفا ودول البلطيق. كما يعني تدليل أشخاص مثل ملالي إيران و«طالبان» في أفغانستان وقيادات التيار اليميني المتطرف في أوروبا مثل ماري لوبان أو اليوتوبيين اليساريين مثل جان لوك ميلونشون. في الواقع، إن الأسلوب الذي تصرفت به موسكو على امتداد الأعوام القليلة الماضية يشير إلى أمر واحد فحسب: أن «النظام العالمي» الجديد الذي تتحدث عنه لا يعدو كونه نسخة كاريكاتيرية خطيرة من النظام الذي كان قائماً عام 1945.
إن الحديث عن النظام العالمي متعدد الأقطاب ليس سوى هراء، فليس هناك نظام حقيقي يتجاوز عدد أقطابه الاثنين. وربما يكون لافروف محقاً في فتحه نقاشاً حول الحاجة لمراجعة النظام «الأميركي» القائم وتنقيحه. ومع ذلك، فإنه في الوقت الراهن يبقى الخيار الأمثل، أو على الأقل الأدنى ضرراً، هو الأمل في استعادة أميركا، خاصة بعد رحيل أوباما وسياساته المتذبذبة، دورها القيادي العالمي.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”