عندما نراجع التاريخ السياسي للنظام الملكي في العراق وخاصة في السنوات الخمس الاخيرة من حياته ، نجد إن ثورة 14 تموز 1958 كانت ضرورة تاريخية ملحة ، فلقد وصل القادة السياسيين المخضرمين للنظام الملكي وعلى رأسهم نوري السعيد باشا الى مرحلة الشيخوخة السياسية الفكرية ، ولم يدركوا إن الزمن قد تغير وإن عليهم أما مواكبته أو الانسحاب من الحياة السياسية العامة ، وخاصة بعد التطورات الاقتصادية التي احدثتها الحرب العالمية الثانية على بنية المجتمع العراقي ، وصعود نجم الحركات اليسارية والقومية في العراق وفي منطقة الشرق الاوسط بصفة عامة .
حاول النظام الملكي عام 1953 وبعد تتويج الملك فيصل الثاني تجديد شبابه ، فأتوا بالدكتور محمد فاضل الجمالي ليكون رئيساً للوزراء ، وهو ابن عائلة شيعية من الكاظمية ، وحاصل على البكالوريوس من الجامعة الامريكية ببيروت ، وعلى الدكتوراة في التربية من جامعة كولومبيا ، وقد عمل في مجال التربية والتعليم وكان مديراً للمعارف قبل أن تنقل خدماته من وزارة المعارف الى وزارة الخارجية ، ثم تولى حقيبة وزارة الخارجية عدة مرات منذ عام 1946 .
رغم إن الجمالي قد تربى وتدرج وظيفياً في ظل النظام الملكي ، فقد غضب نوري السعيد باشا واحتج امام رئيس الديوان الملكي (احمد مختار بابان) على اختياره رئيساً للوزراء ، وعمل جاهداً هو ومجموعة من كبار موظفي الدولة القدامى على وضع العراقيل امامه ومنعه من تحقيق أي منجزات ، وذلك لأن نوري السعيد ادرك إن صعود وزراء الجيل الجديد مثل الجمالي يعني إن وقت تقاعد الجيل القديم قد حان ، وهذا ما لم يكن السعيد واقرانه يرغبون بحدوثه . كما ادرك إن مجئ الجمالي يعني نهاية العصر البريطاني الذي يمثله السعيد ومجئ العصر الامريكي ، وهو ماحصل فعلاً عندما قام العراق بتوقيع معاهدة تعاون عسكري مع الولايات المتحدة عام 1954 .
كانت الآمال كبيرة على الانجازات التي يمكن للجمالي ووزارته تحقيقها ، حتى إن عزيز علي غنى له اغنية (دكتور دخل الله ودخلك بس داوينا) ، في حين اصر الحرس القديم على رفض التجديد والتغيير ومنعوا الجمالي من تحقيق احلامه في التنمية التي كان العراق بحاجة اليها .
في عام 1957 ابلغت السفارة البريطانية نوري السعيد باشا بضرورة تغيير قوانين الاقطاع الجائرة ، وتم تحذيره من خطورة الوضع المتأزم داخل العراق ، إلا إنه لم يصدق بأمكانية حصول انقلاب أو ثورة على الملكية ، لذا فقد رفعت كل من المخابرات البريطانية والامريكية يدها عن العراق بسبب غباء وعناد الطبقة السياسية الحاكمة وتركوا الثورة تقع رغم علمهم بها ، وقد اصيب عبد الكريم قاسم بالدهشة بسبب نجاح الثورة بسهولة نسبية وعدم تدخل القوات البريطانية بالموضوع ، وربما ادرك متأخراً إن المخابرات الاجنبية هي من سمحت بحدوث الثورة لغاية في انفسهم ، ولكن حتمية الثورة كان هو الحل المنطقي الوحيد لمحاولة الطبقة السياسية القديمة إيقاف الزمن ومنع التطور .
كان لعبد الكريم قاسم ورجالات ثورة تموز 1958 فضل كبير على الشعب العراقي حين الغوا الاقطاع وسنوا قانون الاصلاح الزراعي ، فقد حرروا الفلاح من حالة المذلة والعبودية للأقطاعي والسركال ، لكنهم ارتكبوا خطئاً فاحشاً حينما لم يضعوا نظاماً اقتصادياً بديلاً للنظام الاقطاعي ، فلقد اعتاد الفلاح منذ قرون على الزراعة الجماعية مع العشيرة ، وعندما استحدث البريطانيون النظام الاقطاعي صار الفلاح معتمداً بالكامل على الاقطاعي بصفته صاحب الارض ، فكان الاقطاعي هو من يجلب البذور ويساعد الفلاحين على مكافحة الافات الزراعية ، وهو من يمول الفلاح ويقرضه المال في الفترة بين المواسم .
كان المفترض بالثورة اعادة الاراضي الاميرية المفوضة بالطابو لتسجل بأسماء القرى أو العشائر ، وتأسيس الجمعيات التعاونية الزراعية تحت اشراف الدولة لمساعدة الفلاحين لشراء البذور ومكافحة الآفات الزراعية وتسويق المنتجات ، ودعم هذه الجمعيات الفلاحية مالياً لتشجيع الفلاح على التمسك بأرضه ، وذلك لحين وقوف الفلاحين على اقدامهم واعتيادهم على النظام الزراعي الجديد ، في حين ارتكبت الثورة ثلاثة اخطاء قاتلة تسببت فيما بعد بتدمير العراق سياسياً واجتماعياً .
اولاً : عندما وضعت قانون الاصلاح الزراعي اعطت سند الارض بيد الفلاح ولم تجعل الارض ضمن سند مشترك بأسم القرية أو العشيرة ، فحولت الفلاح من الاستناد على الاقطاعي أوالجماعة العشائرية ليصبح منفرداً ، بالمقابل وجد الفلاح نفسه حراً في أن يبقى ضمن القرية أو يرحل عنها ، ولما لم يجد الدعم المالي الكافي لزراعته فضل الرحيل الى المدن الكبرى على البقاء في الريف .
ثانياً : عندما ازاحت الثورة طبقة الاقطاعيين والسراكيل والغت نفوذهم السياسي ، الغت كذلك قانون العشائر واجبرت الجميع على الخضوع لقانون العقوبات البغدادي ، صار العراقي كائناً من كان محكوماً بقانون جنائي وجزائي واحد ، وهو تطور مهم لتوحيد ابناء الشعب العراقي وقيادته نحو العصر الحديث ، إلا إن ما فعلته الثورة اغضب العشائر وخاصة عندما اعطت للمرأة حقوقاً كثيرة بعضها مخالف للشرع الاسلامي ، مثل تقسيم الميراث بالتساوي بين الذكور والاناث . ولأن الثورة لم تتدخل بالشؤون العشائرية لأنتخاب قيادات بديلة عن طبقة الشيوخ السابقة المرتبطة بالنظام الملكي ، ولأن قادة الثورة لم يفكروا في ربط العشائر بالدولة أواعطائها مكانة خاصة في النظام الجديد لأسكاتها ، فلقد حلت الفوضى في القيادات العشائرية مما اتاح لمن هب ودب محاولة التصدي لقيادة العشيرة ، وهذا مما مكن طبقة المرتزقة الملائية تكوين مكانة ومنزلة لهم بين افراد العشيرة بعد غياب مشايخها الاصليين ، وساعد لاحقاً وبعد قرابة عشر سنوات من ظهور حركات اسلامية شكلاً عشائرية التوجه والتفكير فعلاً ، حيث خلطوا بين الشرع الاسلامي واعراف الفصل العشائري المتناقضة مع الشريعة جملة وتفصيلاً .
كان الخطأ الثالث الذي ارتكبته ثورة 14 تموز هو بناء مدينة الثورة ، وتجميع اعداد كبيرة من سكان الصرائف والاكواخ في مكان واحد بدلاً من توزيعهم على اماكن متباعدة . من جهة كان من حق سكان الصرائف في الحصول على مسكن لائق بصفتهم مواطنين في الدولة العراقية ، لكن لم يتسائل احد عن سبب هجرتهم من الارياف أو التفكير بأمكانية اعادتهم اليها ، ولا عن موارد رزقهم أو نوعية الاعمال التي يؤدونها في بغداد ، كما لم يفكر قادة الثورة بمستقبل هؤلاء الناس ومدى توافقهم مع النسيج الاجتماعي للمدينة ، ولم يدركوا إن حالة الكراهية المتبادلة بين اهل الصرائف وابناء بغداد (لأسباب اقتصادية وثقافية) سترتفع حدتها في حالة بناء مساكن دائمية لهم بجوار المدينة . سرعان ما تحولت مدينة الثورة الى بؤرة جاذبة للمزيد من المهاجرين ، وبدلاً من ايقاف سيل الهجرة ادى قانون الاصلاح الزراعي وبناء مدينة الثورة الى زيادة اعداد المهاجرين الى بغداد .
كان التناقض واضحاً وكبيراً بين ابناء الريف وابناء المدن من ناحية الثقافة والعادات والتقاليد ، وقد نجحت ثورة تموز في بناء حيي الشعلة والنور القريبين من الكاظمية ، حيث إن الكاظمية مدينة شيعية وتستطيع استقبال واستضافة اعداد كبيرة من المهاجرين ، في حين إن مدينة الثورة كان المفروض تحويلها مكانياً لتكون اقرب الى احياء القاهرة والشعب وحي عدن ، لا أن تبنى مقابل شارع فلسطين وقناة الجيش ، حيث إن التناقض كان واضحاً وجلياً بين اناس فقراء قادمين من اعماق الارياف ، وبين احياء يسكنها ضباط شرطة ومهندسون واطباء ومجموعة من قدامى الموظفين .
* لم يكن قرار توطين ابناء الارياف عامة واهل الصرائف خاصة في بغداد قراراً عشوائياً اتخذه عبدالكريم قاسم لوجه الله تعالى ، فلقد كانت الثورات والانقلابات العسكرية تحدث اصلاً في المدن وتسيطر على دوائر الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية ، وبما إن اغلب دوائر الدولة وبضمنها وزارتي الدفاع والداخلية ومحطة الاذاعة هي في العاصمة ، فيجب على قادة الثورة تقوية مراكزهم في بغداد بالذات ومنع اهلها من الانتفاضة على النظام الجديد ، فأراد قاسم الاستعانة بأهل الصرائف لأفزاع انصار النظام الملكي ومحبيه والسيطرة بواسطتهم على مدينة بغداد ، نفس الشئ فعلته ثورة 17 تموز 1968 عندما جلبت اعداداً كبيرة من ابناء تكريت والدور وسامراء وعينتهم في مراكز امنية وعسكرية وطنتهم في بغداد ، وحتى بعد عام الفين وثلاثة عمل اكثر من نائب أو وزير على جلب اقاربه واعطائهم وظائف وتوطينهم في بغداد ليحتمي بهم ضد خصومه .
لقد تسببت الهجرة الريفية الى المدن وبغداد خاصة الى خلخلخة النسيج الاجتماعي للمجتمع وجعله مخترقاً من قبل الريفيين ، والى انخفاض مستوى الوعي السياسي والثقافي والعلمي للمدن العراقية بصفة عامة ، وهو ما كانت تريده الانظمة الاستبدادية الشمولية السابقة واللاحقة ، فبذلك تضمن عدم ظهور أي حراك سياسي قوي ومتماسك في المدن ، وإذا ظهر فهو لن ينتشر إلا بين عدد محدود من السكان ، ولن تستطيع القوى المدنية من تشكيل رأي عام قوي بحيث تجبر الحكام على احداث تغييرات سياسية ، ولكون المهاجرون الريفيون فقراء ومحتاجون للعمل فقد استغلتهم اجهزة الأمن والمخابرات وجندتهم للسيطرة على المدن وساكنيها .
لو راجعنا الاحصاءات السكانية لسنوات الخمسينات والستينيات والسبعينيات ، لوجدنا إن التغيير الديمغرافي الحاصل في سكان المدن وطبيعتهم ، قد ساهم بقوة في التغييرات السياسية والاجتماعية في بغداد (والعراق كذلك) ، وقلب مسار العراق التطوري رأساً على عقب . فمنذ ثورة 14 تموز 1958 وابناء الارياف يسيطرون شيئاً فشيئاً على المدن ، بل واستطاعوا من التغلغل في جميع دوائر الدولة ومفاصلها الرئيسية ، وقد ادى ذلك الى ظهور القيم والتقاليد العشائرية وتغلبها على الثقافة المدنية الوسطية ، ولما كانت العشيرة هي الاساس لدى ابناء الارياف فقد تراجعت فكرة الدولة المدنية التي تضم جميع المواطنيين بلا استثناء ، ولأن الريفي لم ير في قريته من يخالفه في الفكر أو العقيدة الدينية ، فهو لا يعرف التسامح والتعايش مع الآخرين المخالفين له في القومية والدين والمذهب ، ولأنه ولم يتعلم الحوار ولا يعرف ابعاده فهو يريد فرض رأيه على الآخرين بالقوة ، وهو ما نشاهد تأثيراته السلبية اليوم بين من يزعمون إنهم حكومة وبين من يدعون إنهم معارضة .
يذكر الاستاذ صالح فليح حسن الهيتي في كتابه (تطور الوظيفة السكانية لمدينة بغداد الكبرى) في الصفحتين (68 – 69) ، بأن عدد سكان بغداد كان بحدود خمسمائة وثلاثة الاف نسمة حسب احصاء 1947 ، فارتفع ليصبح مليون نسمة حسب احصاء 1957 ، ثم اصبح مليون وستمائة وعشرون الف نسمة حسب احصاء 1965 ، ويقر الباحث بأن الزيادات لم تكن طبيعية فقط وإنما بسبب المهاجرين القادمين من المحافظات . يذكر الهيتي كذلك في الصفحتين (72 – 73) ونقلاً عن تقرير حكومي صادر في تموز 1958 ، إن هنالك قرابة 184 الف نسمة من سكان بغداد يسكنون الصرائف والاكواخ الطينية ، ومعنى ذلك إنهم يشكلون (18.4%) من سكان المدينة ، وإن ثلاث وسبعون بالمائة منهم جاءوا من لواء العمارة ، وإن عشرة ونصف بالمائة منهم جاءوا من لواء الكوت . كما يذكر الباحث نقلاً عن مصدر مختلف إن عدد سكان الصرائف قد اصبحوا قرابة مائتان وخمسون الف نسمة عام 1961 ، وإن المهاجرين سنوياً الى بغداد كانوا بحدود سبعين الف نسمة .
عندما اجري الاحصاء العام للسكان عام 1977 قيل والعهدة على الراوي إن عدد سكان بغداد كانوا ثلاثة ملايين وربع المليون ، وبعد ذلك بأشهر نشرت مجلة الف باء الحكومية الرسمية استطلاعاً عن قضاء الثورة ذكرت فيه إن عدد سكانه كانوا مليون وثلاثة ارباع المليون ، أي اكثر من نصف سكان بغداد !! ، وإذا علمنا إن مناطق الشعلة والحرية والقاهرة والشعب تضم اعداداً كبيرة من ابناء الارياف المهاجرين ، وتذكرنا الهجرة التي حصلت بعد عام 1969 من تكريت والدور وسامراء نحو بغداد ، فكم هي نسبة ابناء بغداد الاصليين بالنسبة لأعداد المهاجرين اليها ياترى ؟؟ .
من خلال التطورات الديمغرافية وزيادة ابناء الارياف المستوطنين في المدن ، وقيام الانظمة الاستبدادية المتعاقبة بالتحايل على القانون وتعيين الكثير من الريفيين في دوائر الدولة بدون استحقاق ، نستطيع فهم سبب التدهور الحاصل بأستمرار في اداء الدولة العراقية بين عامي 1953 مثلاً و 2013 وتردي خدماتها الاساسية المقدمة للمواطنين .
* كانت ديكتاتورية حزب البعث لاتسمح بقيام منظمات مدنية بعيدة عن سلطة الدولة وهيمنتها ، كما ربطت جميع الانشطة الاقتصادية بيدها ، ولأن النظام السابق كان معادياً بصورة سافرة للدين ، فلم يسمح بقيام أية مؤسسة دينية قوية ، ورفض وجود أية شخصية سياسية أو دينية بعيدة عن توجيهات حزب البعث وقيادته يمكن للناس الالتفاف حولها ، ولم يتبق امامه في السبعينات سوى تفكيك العشائر ، وقد نجح الى درجة بعيدة في ذلك عبر جلب الكثير من ابناء العشائر الذين لايحملون أية شهادات جامعية وتوظيفهم في دوائر الدولة المدنية والعسكرية ، إلا إن النظام اضطر للتساهل مع بعض شيوخ العشائر واغدق المال عليهم اثناء الحرب العراقية الآيرانية ، وتصرف صدام حسين بصفته شيخ عشيرة فأرتدى الغترة والعقال والعباءة للتقرب من ابناء الارياف ، فلم يكن بأستطاعة الدولة الدخول في مشاكل ومشاحنات مع العشائر والحرب مشتعلة على الحدود مع ايران .
بعد انتهاء الحرب بين العراق والتحالف الدولي عام 1991 حصلت انتفاضة آذار ، حينما تمرد ابناء المحافظات الشمالية والجنوبية المهمشين ضد النظام القائم ، وبعد قمع الانتفاضة بوحشية وشراسة وسقوط المئات من القتلى وهروب الاف العراقيين عبر الحدود نحو السعودية وايران ، التفت العراقيون حولهم فلم يجدوا غير اشلاء دولة تحاول النهوض من كبوتها المريعة ، كان كل شئ مدمراً ومحطماً بفضل السياسة قصيرة النظر لنظام البعث ، فلقد جعلت الدولة الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والاسكان والصحة بيدها ، وكان الناس يعتمدون في كل شئ على الدولة ، فلما انهارت الدولة انهار معها كل شئ .
بسبب الديكتاتورية والاستبداد لم تكن هنالك في العراق أي احزاب أو منظمات مجتمع مدني ، ولا مؤسسات اقتصادية أو صناعية كبيرة ولا تنظيمات دينية تستطيع حمل العبء عن الدولة ، وضعفت قوة الدولة كثيراً ولم يجد الناس احداً يحميهم سوى العشائر ، لذا لجأ الناس الى عشائرهم بسبب عجز الدولة عن تطبيق القانون ، والى إن تعافت الدولة العراقية نسبياً في منتصف التسعينيات كانت شوكة العشائر قد قويت على حساب الدولة . كانت الدولة العراقية تضعف وتضمحل شيئاً فشيئاً بسبب الحصار الاقتصادي ، وزادت الكراهية المتبادلة بينها وبين عشائر الشمال والجنوب من وضعها سوءاً ، فانفصلت عنها محافظات السليمانية واربيل ودهوك ، وصارت الدولة موجودة خلال النهار في مراكز المحافظات والاقضية الجنوبية ، أما بعد الغروب بساعة أو ساعتين فتختفي الدولة وينزل المسلحون لاحتلال المدن الصغيرة خاصة ، فصار النظام مضطراً للأعتماد على العشائر وخاصة تلك التي لم تتمرد عليه في كل من نينوى والانبار وصلاح الدين وبعض عشائر واسط وديالى وبغداد ، بالمقابل استغل شيوخ العشائر ضعف الدولة فحاولوا الحصول على المزيد من التنازلات لصالحهم ، وبضمنها اعادة الاعتبار لقوانين الفصل العشائري بعد أن هجرت احكامها وكادت تختفي طوال ثلاثة عقود تقريباً .
خلال عشر سنوات تعمدت الولايات المتحدة ابقاء الدولة المركزية ضعيفة ، وجعل جيشها مفككاً ولا يحصل على اية اسلحة حديثة ، وهذا مما سمح لأبناء المحافظات من الاستقواء على الدولة ، وبعد اثنتا عشر سنة من التخبط جاء جيش الاحتلال الامريكي وتم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي ، وتشكلت الاحزاب ولكن بعقلية ابناء الارياف العشائرية وليس بعقلية رجال الدولة . عندما وافق اعضاء مجلس الحكم على تقاسم الحصص كأنهم لم ينتبهوا للكمين القابع خلف هذه المحاصصة ، ولم يدركوا إن الوطن ليس غنيمة ليتم تقسيمه بينهم ، أما الشجار الذي يحصل الآن بين من يدعون إنهم حكومة ومن يدعون إنهم معارضة فهو شئ طبيعي ، فمثلما كانت عشائر الاعراب في الجاهلية يغضبون ويتشاجرون اثناء توزيع الغنائم ، عدنا للجاهلية نتقاتل على الغنائم والاسلاب ، وبعد أن كان لدينا شيخ واحد يقسم الخزينة على اقاربه وازلامه صار لدينا اليوم ثلاثمائة وخمس وعشرون شيخ والكل يطلب بحصته من الغنيمة التي اسمها خزينة الدولة العراقية . قد يتسائل البعض هل هنالك حل لهذه المشكلة العويصة ؟؟ ، نعم ولكن افضل عدم الافصاح عنه صراحة ، فهو موجود بين السطور التي ادرجتها .
واخيراً : يروى إن الزعيم عبد الكريم قاسم كان يرتجل خطاباته ، وكثيراً مايشطح اثناءها بعبارات لا علاقة لها بأصل الموضوع ، واثناء افتتاحه جناحاً جديداً في مستشفى الرشاد (الشماعية) ، نسى إن المستشفى هو مخصص للأمراض النفسية والعقلية ، فإذا به يقول اثناء قص الشريط : إن هذا المستشفى لنا ولكم وللأمة العربية جمعاء ….!! ، وقد اثبتت الحكومة والمعارضة إن كلامه كان صحيحاً وفي محله .