18 ديسمبر، 2024 11:08 م

نظرة في المشهد السياسي العراقي الحالي

نظرة في المشهد السياسي العراقي الحالي

من أزمة إلى أخرى أشد منها قوة ، تمضي العملية السياسية في العراق ، منذ أن نشأت والى الآن ، فساسة حكومات الديمقراطية المزيفة المتعاقبة ، لا يعرفون سوى المصلحة الشخصية والحزبية ، والتي من أجلها  كان ولا زال كل شئ مباح عندهم ، وعدا ذلك فلا قيمة له بالنسبة لهم . إن المشهد السياسي في عراق ما بعد عام 2003 يزداد تعقيدا من وقت لآخر ، نتيجة الخلافات التي لم تهدأ يوما بين جميع أطراف العملية السياسية ، لا سيما الأحزاب الكبرى الحاكمة والتي أثبتت أنها عاجزة عن أدارة كل الملفات السياسية منها والاقتصادية والأمنية وأخص بالذكر ملف الخدمات والبنى التحتية الذي يكتوي بناره الشعب منذ خمسة عشر عاما مضت على الرغم من توفر كل الإمكانيات المادية والبشرية ، وأكتفت تلك الحكومات الهزيلة المتوالية بتضخم أرصدة أعضائها في البنوك وشراء العقارات الفخمة في دول الجوار ودعم أحزابها السياسية المحسوبة عليها من أموال الشعب ، حتى باتت المناصب الحكومية في كافة مؤسسات الدولة تخضع للمزايدات الرخيصة بعيدا عن معايير الكفاءة والنزاهة والخبرة . لقد وقعت الإدارات الأميركية المتعاقبة بسلسلة من الأخطاء العديدة كنت قد شخصتها ومنذ وقت مبكر في مقالات سابقة  ولا مجال لسردها هنا ، لأن ما يعنينا اليوم هو ان العراق بات على حافة الهاوية وأصبح يعيش واقعا مخيفا لأسباب فرضت نفسها بقوة على الساحة السياسية كالنفوذ الإيراني وهيمنة الزعامات المتشددة ممثلة بالأحزاب الإسلامية التي تمتلك ميليشيات مسلحة مدعومة من إيران وضعف الوعي الثقافي لدى عامة الشعب وهشاتشة العملية الديمقراطية وانعدام الروح الوطنية لأغلب الزعامات السياسية المتنفذة ، فضلا عن نقصان الخبرة لديهم في التعامل مع الأزمات وكيفية إدارتها ، بالإضافة إلى إصرار الأحزاب الإسلامية الشيعية على ترسيخ الطائفية وعدم طي صفحات الماضي لإنجاح مشروع المصالحة الوطنية وغيرها من العوامل والأسباب ، أدت كلها الى ان يكون العراق بتأريخه العريق وثرواته الوفيرة وموقعه الاستراتيجي ، لقمة يسيل لها اللعاب الإيراني ، فسياسة الولي الفقيه البراغماتية كما نتابعها في العراق والمنطقة تقوم على أساس نفعي وانتهازي مجسدا بذلك أبشع صورة في الحفاظ على المصالح الإيرانية وفي مقدمتها أمنها القومي .

ان الخلافات التي ظهرت على الساحة السياسية لحظة إعلان المصادقة على نتائج الانتخابات التي جرت في شهر مايو الماضي لم تكن شيعية – سنية أو شيعية – كردية بل كانت ولا زالت خلافات شيعية – شيعية بامتياز قادت الى  تأزم الوضع السياسي العراقي ، فالحرب الباردة بين زعيم التيار الصدري “مقتدى الصدر” وبين زعيم ميليشيا العصائب “قيس الخزعلي” تجعل العراقيين يستحضرون بخوف وترقب مسلسل التصفيات الجسدية بين الطرفين من خلال العبوات اللاصقة والاغتيالات بالأسلحة الكاتمة للصوت، والاشتباكات المسلحة في بغداد والتي ربما تعود بنا الى مسلسل الرعب الذي عشناه قبل بضعة سنين ، كما إن العائق الأكبر الذي يواجه عملية تشكيل الحكومة المقبلة هو ما يتعلق بخطة ميليشيات الحشد الشعبي لحكم العراق ، والسعي لنيل منصب رئيس الوزراء ، الذي يرنو إليه هادي العامري والقيادي في ميليشيا الحشد أبو مهدي المهندس . وبالرغم من الفشل الذريع لحزب الدعوة ممثلا بالمالكي وباقي قياداته في إدارة أمور البلاد لدورتين متتاليتين ، لكن حلم العودة لسدة الحكم ما زال يراود المالكي المستظل بالميليشيات الإيرانية والذي يطرح نفسه كمؤسس للحشد الشعبي . كما ان الانشقاق في كتلة النصر بزعامة حيدر العبادي، بعد ورود أنباء عن ترشيح فالح الفياض لرئاسة الوزراء بديلاً عن العبادي، من قبل مجموعة قوى سياسية (دولة القانون والفتح ) تسعى إلى إنهاء تحالف الكتلة الأكبر من دون أن يتولى العبادي ولاية ثانية ، زاد من تعقيد المشهد السياسي وفتح الأبواب على مصراعيها للتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السياسي الداخلي للعراق، حيث بدا السباق محموما بين طرفي الصراع الذي تشهده الحلبة العراقية بين كل من بريت ماكغورك مبعوث الرئيس الأميركي وقاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني لاستعجال إعلان الكتلة الأكبر وباتجاه يرجح كفة طرف على آخر ، فالصراع بين المبعوثين ليس بجديد، فقد تنافسا في أوقات سابقة أثناء الحرب على تنظيم “داعش”، وروجا لنفسيهما بأنهما من يقودان الحرب على التنظيم، ووصلا حاليا مرحلة المنافسة السياسية .  فالجنرال قاسم سليماني الذي يقف ندا لمبعوث الرئيس الأميركي يضغط باتجاه ما تمليه المصلحة القومية الإيرانية، أما مهمة المبعوث الأميركي فكانت تهدف الى إنتاج وضع سياسي مستقر يخدم المصالح الإقليمية والعالمية، فالعراق جزء من قلب العالم، والسيطرة عليه تعتبر سيطرة على العالم ، لكن المبعوثين نسوا أن التدخل بعملية تشكيل الحكومة، سيجعل الجمهور العراقي ينظر بسوداوية وتشاؤم إلى العملية السياسية برمتها، وأنا أعتقد سوف تتجه العملية السياسية في القريب العاجل إلى انهيار مضمونها مما سيؤدي الى خلق حالة من الفراغ الدستوري وبالتالي مزيدا من الإرباك في ظل مظاهرات عارمة تجتاح مدن الجنوب بشكل خطير وغير مسبوق . إذن فالعملية السياسية في العراق تواجه مأزقا كبيرا ، في ظل الحرب الضروس الناشبة بين جميع أركانها من الأحزاب والسياسيين وصراع المبعوثين ماكغورك – سليماني ليتأكد بذلك فشل هذه العملية ، وتسببها في ضياع العراق وتدميره ، وهذا ليس بمستغرب ، كون هذه العملية قد تم بناؤها في الأصل على أسس غير سليمة وفي ظروف رافقتها الكثير من الأخطاء التي تتحمل وزرها ونتائجها الإدارات الأميركية السابقة . لقد عانى العراق كثيرا وعلى مدى سنوات طوال من مشكلات التحزب والطائفية والفساد وثغرات الدستور والانفلات الأمني وهيمنة المليشيات ، وقد آن الأوان لتدارك أخطاء الماضي ووضع حلول ناجعة وعاجلة للمشاكل التي أصابت المؤسسات الخدمية والأمنية والاقتصادية ، فالمجتمع الدولي وأصدقاء العراق وفي مقدمتهم الولايات المتحدة مطالبين بتقديم كافة أشكال الدعم والمساندة والمشورة لتوفير أجواء صحية لعملية سياسية ترتكز على أسس وطنية واقعية تتعامل بعدالة مع جميع مكونات الشعب العراقي وتخلص في أداء واجبها تجاه المواطن العراقي الذي عانى طويلاً وحان وقت إنصافه. فعلى إدارة الرئيس ترامب أن تعي وتدرك أننا  لم نقرأ في التاريخ عبر الزمن أجرم وأغبى ممن يحكمون العراق اليوم من سياسيين ورجال دين قد باعوا الوطن والشرف بثمن بخس ، فغباؤهم السياسي وقلة معرفتهم بإدارة شؤون الدولة ، وشغفهم بحب المال والسلطة ، هو السلوك الثابت والمنهج المعتمد عندهم في حكم الدولة والشعب . لذا وفي ظل وجود هكذا نخبة سياسية حاكمة ستؤول الأمور إلى الاستبداد السياسي والديني و الفوضى ، عندئذ ستدخل الدولة في عصر الظلم وقتل الحريات، وعدم التقيد في تطبيق القوانين ، لذا فإن الخلاص الحقيقي من الحالة الراهنة والتي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم لا يتم إلا بقلب نظام الدولة كله وتغيير كل سماته التي شوهتها الأحزاب الإسلامية الفاشية لتدخل الدولة عصرا جديدا من البناء والاستقرار وإرساء ثقافة القانون وحقوق الإنسان وإنهاء سلطة الدين وفصله عن السياسة ، وهي مهمة صعبة للغاية أذا ما وجدت غطاءا دوليا يوفر لها كل أسباب النجاح .