7 أبريل، 2024 10:30 م
Search
Close this search box.

نظرة فلسفية في قواعد السلوك المهني للمحامين

Facebook
Twitter
LinkedIn

جلسنا كعادتنا كل يوم للترويح عن النفس وذر ماتلقاه من الرتابة المملة والروتين الممض ، نخوض في احاديث شتى ، منها ماتسر الجالسين ومنها ماتكدر صفوهم ، ومنها مايُغضب الرب ومنها ما يرضيه ، ومنها السياسية واخرى اجتماعية وثالثة تتنوع بتنوع الجالسين واختلاف حظوظهم من امتلاك ناصية المعلومة والاحاطة بالثقافة العامة وثقافة المهنة خصوصا ، احاديث يغلب عليها الجد تارة والمزاح تارة اخرى ، فاحيانا تتشابه الاراء وتختلف احيانا عديدة ، كما ان بعضها يفسد للود قضية على خلاف مايقولونه اهل الحكمة من ان اختلاف الراي احرى ان لايفسد الود القائم بين الاصدقاء والاحباب والمتسامرين ، وكما كان يقول الفيلسوف فولتير – قد اختلف معك في كل كلمة تقولها لكنني ساضحي بحياتي كي تقول انت ماتريد –

واما مناسبة كتابة هذا البحث الموجز ، فقد طرح احد الاخوة المحامين رأيا ، وهو ان تفرض عقوبة انضباطية على من يقوم بابطال دعوى لاحد زملائه المحامين كونها تتنافى مع قيم واخلاقية المهنة ، في حين عد احد الاخوان ان هذا الراي لايستند الى حجة قوية ومبرر معقول ودليل ناهض ذلك ان القانون قد اعطى الحق لاحد اطراف النزاع بهذا الابطال اذا لم يحضر الخصم الاخر او انه تاخر عن الحضور .

وكما هي طريقتنا في كل بحث وهو ان نثير مجموعة من الاسئلة ونحاول تحليلها بذهنية موضوعية للوصول الى الاجابة التي نعتقد بانها الافضل لكل تلك الاسئلة ومنها ؟

ماهي قواعد السلوك المهني ؟ ولماذا وجدت ؟ ولمن وجدت؟ وهل هي نصوص آمرة بمعنى عدم جواز مخالفتها ؟ ام ان الفرد يستطيع التحلل منها دون ان يصيبه رادع ؟ وهل الفرد حر مبسوط اليد في خلق واتباع سلوكية معينة داخل مهنته ؟ ام ان يده مغلوله عن ذلك فهو مقيد ؟ وهل يوجد ترابط اخلاقي بين مهنة واخرى بمعنى ان تتاثر كل مهنة بمهنة اخرى ؟ ثم ماهي المحصلة النهائية لاتباع اهل كل مهنة للقواعد والاداب التي تحكمهم ؟ وماعلاقة قواعد السلوك بالقيم الاخلاقية العامة ؟ واخيرا هل ان قواعد السلوك المهني دورا في نهضة الشعوب وازدهارها ام ان ذلك كله من الشعارات البراقة النائمة في احضان الكتب واهل المقالات ؟

ولقد قالوا ان قواعد السلوك المهني ، هي مجموعة من النصوص الادبية والاخلاقية التي يجب ان يتحلى بها صاحب المهنة للارتقاء بمستوى مهنته والحفاظ عليها من الابتذال .

وقواعد السلوك المهني ليست عامة اي انها وضعت لكل افراد المجتمع بل هي خاصة بمهنة من المهن فمهنة المحاماة لها قواعدها الخاصة بها والصيدلة لها اساليبها التي تتصف بها وهكذا هو حال المهن الاخرى كالتعليم والتربية والزراعة والهندسة والطب والاعلام ، فلكل

منها احكامها الخاصة وادبياتها التي يتم التعامل بها سواء بين اهل المهنة الواحدة او بينهم وبين باقي فئات الشعب الاخرى .

وقواعد السلوك المهني تمثل بطبيعتها قواعد آمرة للمخاطبين بها لايستطيع احد اعضائها التملص منها والتحايل عليها بل هي ملزمة له ، اما اساس طبيعة هذا الالزام ومن اين اتت مصادره ولماذا يكون الفرد ملزما بتحمل اعباء هذه السلوكيات دون غيره ، فاننا نستطيع القول ان اساسه يكمن في نظرية اسميناها (عقد المهنة) او (العقد المهني) لكنه عقدا هو اقرب الى الاذعان منه الى العقد المتعارف عليه بين اطراف العلاقة فالارادة الحرة تلعب دورا في خلقه في ان يلزموا انفسهم بهذا العقد او ان يرفضوه او ان يعدلوه ، اما العقد المهني او عقد المهنة كما اسميناه فان احد طرفيه هي الهيئة الاجتماعية وماتمثله من سطوة وتسلط على الفرد واجبار على النزول عند احكامها وماتضعه من اعتبارات على صاحب المهنة ان يقف عندها ولايتعداها ، والثاني هو الفرد وهو الراضخ الضعيف الراضي بهذه الشروط والاعتبارات لايستطيع الانفلات منها وتجاهل احكامها ، وهذه الشروط انما وضعتها الهيئة الاجتماعية تبغي في ذلك تحقيق اهداف عامة في المحافظة على الاواصر الاجتماعية من التفكك وتقيها شر الانحلال والتفسخ ، وخاصة في انها تصبو الى ان تكون المهنة كما اريد لها عامل نفع وخير ونهضة ووسيلة لبث روح الثقة والتعاون .

اما لماذا يكون صاحب المهنة ضعيفا ويٌغيب ارادته ويستسلم لشروط الهيئة الاجتماعية بينما هو القوي دائما وهو المهيمن غالبا ؟

ان الاجابة على هذه الفرضية ، في انها تتضمن معنى النزول عن قسما من ارادة الفرد لاجميعها وفي مقابل هذا التنازل فان صاحب المهنة يعوض عنها بما يصيبه من غنم تارة ومن مكانة اجتماعية وهيبة شخصية ومن الذين يشارون اليه بالبنان تارة اخرى ، فان قيمة التنازل يساوي ويوازي بما يحصل عليه من مكاسب فالذي يصبو الى شيئ يٌسلم باشياء كثيرة والذي يطلب عظيما علية المخاطرة بعظيمته كما تقول الحكمة المعروفة ، لكن الذي يمعن جيدا في التنازل الذي يبديه صاحب المهنة يجده في اخر المطاف عائد بالخير عليه ، لذا فان التنازل لايمثل عامل انتقاص وهدرا لارادة الفرد ، بل هو خيرا له من جهة وذودا عليه من جهة اخرى ، الا ترى ان الفرد عندما يقبل راضخا بالشروط المسبقة التي نادت بها الهيئة الاجتماعية يجدها شروطا جاءت لتربية النفس وتهذيبها مما يلاحقها من استغراق في اللهث حول المادة ويشذبها من عادات الجري نحو سقط المتاع .

ويبقى السؤال الاخر وهو من اين اتت الهيئة الاجتماعية بهذه القوة والباس الشديدتين بحيث تكون القوية دائما وتفرض ما تشاء من قواعد على صاحب المهنة ؟

ان الهيئة الاجتماعية انما تستمد قوتها من قوة السلطة الممنوحة لها وهذه الاخرى هي ايضا في واقعة تحت مظلة العقد الدائم بينها وبين صاحب السلطة وان من شروط عقدها هذا ان صاحب السلطة مكلف بالمحافظة على عمل المؤسسات كافة ولايسمح لاي فرد كان ان يمثل هذه المؤسسة او تلك مالم يٌرغم على احترام ادبياتها وسلوكياتها ، وهذا الاحترام هو الذي يوفر المساحة الكافية لتقييد حرية الفرد صاحب المهنة في الوقوف عند النصوص ولايتعداها

والمهنة اذا امكن ان نضع لها تشبيها فهي اشبه بالمكان الجميل لكن المشكلة فيها انه لايتاتى لكل فرد ان يدخله طائعا مختارا ، وان من يريد ذلك ماعليه الا ان يقبل مرغما ويرضخ مستسلما بالشروط المسبقة التي وضعت للسماح بدخوله وان يبقى محافظا على هذه الشروط مادام ساكنا في ذلك المكان الجميل . اما لماذا وضعت هذه الشروط ولماذا لم تترك هكذا مباحة يلج فيها من يشاء من الناس ؟ لقد اجابت الهيئة الاجتماعية على هذا الاشكال بقولها ان هذا المكان الجميل ليس ملكا لفرد من الناس ولا حكرا لمجموعة منهم بل هي للكل ، وان كل فرد يمثل ركنا من اركان ذلك المكان فعلى الجميع ان يحافظوا عليه بل يجاهدوا في المحافظة عليه خشية من تعرض ذلك المكان للخطر فتتعرض الهيئة جميعها الى الخطر ومن ثم الى السقوط والانحدار، غاية المشكلة في هذا المكان ان له اعتبارات وعلى الفرد ان يستشعرها ومن ثم يلهم نفسه في التصبر عليها ثم يجعله جزءا من نظامه اليومي .

فالمكان الجميل هنا هي مهنة المحاماة والفرد هنا هو المحامي والهيئة الاجتماعية هنا تمثل المصلحة العامة او النظام العام ،فالمحاماة مهنة نبيلة شريفة مستقيمة ، فاولى بالذين يريدون الانضمام اليها ان تكون تصرفاتهم من سنخ سمات هذه الهيئة بل عليهم ان يكونوا خير انعكاس لها ، فالمهنة خرساء لاتتكلم وصماء لاتسمع لكن الذي يخرجها الى الوجود ويجعل منها خلية حية تدب فيها الحياة ، هي اثار المنضمين اليها بان يكونوا ذات شرف ونبل واستقامة ، فشروط المهنة انما وضعت لحماية المهنة لا للمنضمين اليها فهي الرادع من جنوح الافراد وهي المانع من استفحال شهوة التعدي عليها ، فالناس يختلفون في انصياعهم للسلوكيات العالية فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومن الناس سابق بالخيرات ، والفرد بدافع النفس الامارة بالسوء يتعدى ويستاثر ثم يتسلط ويستكبر بغير حق ، ويريد ان يتحايل ويراوغ ويتمدد ومن ثم يريد ان يثري على حساب المهنة ، وهذا كله يحصل لولا وجود تلك العقبات النبيلة الشريفة المتمثلة بالشروط التي وضعتها الهيئة الاجتماعية كما ذكرنا اعلاه .

اما لماذا وجدت قواعد السلوك المهني ؟

؟ فالحياة اجمع قائمة على نظام واحد متناسق لايصل اليه الميل ولايصيبه اعوجاج ولايدركه الخطا والانحراف ، او لنقل انه اريد للحياة ان تكون كذلك ، وهذا الحال هو نفسه في المجتمعات المقسمة قهرا الى مؤسسات ، فالمؤسسة جزء من مجتمع وهذا الاخير جزء من تلك الحياة فالذي يصيب المؤسسة يصيب المجتمع وهذا بدورة ينعكس سلبا على الحياة فالعلاقة بين الحياة الواسعة الرحبة الفسيحة وبين المؤسسة الصغيرة علاقة وجود من جهة وديمومة من جهة اخرى ، فالحياة لاتستقيم الا بمجتمع صالح وهذا لاينهض الا بمؤسسة سليمة ، وان الصلاح والسلامة في مجموع تلك المؤسسات هي النتيجة المسبقة المؤدية الى النفع العام والتي يستشرف افاقها المتابع لحركة المجتمعات في سيرها الى بناء دولة المشاركة والمشاورة مادامت تلك المؤسسات تسير او هي سائرة في خط متواز مع مااريد لها من قيم واداب وثوابت واعراف .

ودور الفرد أي صاحب المهنة هنا يمثل خير ترجمة واقوى اثر لكيان المؤسسة فالصلابة

والثبات ماهي الا لبنة من لبنات المؤسسة بل هي اقواها ان لم تكن اعظمها ، فعمل الفرد في مؤسسته وان كان صغيرا لكنه كبيرا عظيما في مدارج الحياة الواسعة الفسيحة ، وبناء الفرد في المؤسسة ومن ثم المجتمع وبعدها الحياة وثباته لايتاتى لكل فرد ان ينهض باعبائها وينوء بحملها ، بل هي خالصة للذين يريدون ان يرتقوا بها وهذا الارتقاء لامعنى له من دون ان يكون الفرد مقيدا غير حر وان البناء انما يكون من التقييد لا من الحرية غير المنضبطة وان الانطلاقة في بناء المؤسسة بادئ ذي بدء انما يكون بالخضوع لما ارادته الهيئة الاجتماعية من مستويات عالية من الاخلاق الخاصة بكل مهنة ، وحسنا فعلت هذه الهيئة عندما خلقت النصوص الامرة ومن ثم طلبت من الفرد ان يعكس اثارها ، فالتجربة الانسانية وعلى طوال عصور مضت انتهت الى ان الرادع هو طريق الاستقامة وهو طريق الابداع والتفكر والابتكار.

يقول الله تعالى لنبيه الكريم – ص – في سورة هود (فاستقم كما امرت) بمعنى ان غايتك هي الله تعالى وهذا لايتحقق الا بالاستقامة وهذه الاستقامة هي الاخرى لاتكون الا بان تطبق مااوصاك به الله تعالى ، فالاستقامة لاتاتي عن طريق الهوى وغلبة الظن واعمال النوازع والركون الى المشتهيات ، بل هي اوامر رائعة اوجدها من عنده علم الساعة ويعلم مافي الارحام ، ونظير ذلك قول الله تعالى في سورة الاحقاف (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) أي السير على جادة الحق من خلال الاحكام التي اوجدها ذو الجلال والاكرام( وهذا الاثر كرره الرسول الكريم عندما ساله احدهم يارسول الله قل لي قولا في الاسلام لااسال احدا غيره ، فقال الرسول – قل امنت بالله ثم استقم) أي اؤمن بالله اولا ثم اتبع تعاليمه المنزلة ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله .

وقواعد سلوك المحامين لاتتعدى هذه الصورة الجميله الأخاذة ، بل هي عامة تشمل كل قواعد المهنة لاي شريحة من الناس كقواعد سلوك الاطباء والاعلاميين والحقوقيين والصيادلة والمهندسين والقضاة المحاسبين الخ ، انما تتلخص بعبارة تختزل معها كل تلك التعاليم والقواعد الا وهي (اؤمن بمهنتك اولا ولاتتعدى ادابها) والايمان بالمهنة هنا هو تهيئة النفس لكل مايلقى اليها ، وان يستفرغ الفرد كل جهده في ان يعكس اخلاقه التي يؤمن بها على واقع مهنته اولا ثم ليتممها بالنصوص التي وضعت لتذكيره بانه الانسان بما يملكه من مشخصات الانسانية اولا ، وصاحب المهنة بما تمتلك هذه المهنة من اداب واحكام ثانيا .

وعن علاقة اداب المهنة باداب المهن الاخرى والدور الذي تلعبه في النهضة والرقي .

فيمكن القول ان الترابط قائم بل يجب ان يقوم هذا الترابط بين كل المهن ، ذلك ان بناء الدولة لايمكن ان ينهض الا باخلاقيات معينة وهذه لاتأبى الانفكاك ولايقدر لها ذلك ، فهل من الجائز ان تكتفي الدول بان يكون خط السلوك المهني للمحامين سائرا على وتيرة الخير والاستقامة بينما سلوك الاطباء المهني قد اصابه العطل في بعض من جوانبه ، او ان سلوك اعضاء نقابة المهندسين وصل اليه التشويه والخطل , ان المنطق السليم يرفض هذا الطرح ويقرر ان الدولة لايشترك في بنائها فرد بعينه او مؤسسة بذاتها بل ان الكل هم عماد البناء وان الخلل في هذا المجال او ذلك وان كان البعض يعتبره هينا الا ان اثاره السلبية سوف تطفح بل تتمدد ليشمل احدى هذه المؤسسات ابتداءا ، ثم تتسع رقعته ليصل الامر الى مؤسسسات الدولة جميعها عند ذلك يتيقن الجميع ان الهفوة البسيطة نتيجة لسلوك سيئ من احد المحامين او

الاطباء او المهندسين قد استشرت واستفحل امرها واستطار شرها بعدها يمكن الاشارة بالبنان الى تلك الدولة بانها سائرة في طريق الضعف ومايولده هذا الضعف من اثار اقل مايمكن وصفه بانها دولة نخر فيها الفساد فهي على جرف هار ، واعلى وصف يمكن ان تصف به انها دولة شارفت على الانحلال وفي طريقها الى الزوال .

وانك اذ تضرب بطرفك حيث شئت من الدول التي تعرف بالفساد فستجد ان سببها سلوكا سيئا لم يصحح ثم تجمع سلوكا اثر اخر حتى اصبح سُنة قائمة على غض النظر واللامبالاة وهذا الامر لايمكن ان تصف له دواء لان الداء سار الى الركيزة التي يقف عليها الكل الا وهو عالم الاخلاقيات ، فالصور الخاطئة الاخرى قد تصحح في عام او عدة اعوام لكن مجال الاخلاق قد يحتاج الى اجيال عدة حتى ننتهي من سلوك معين وتقضي عليه .

وعن العلاقة القائمة بين قواعد السلوك المهني أي بين اخلاقيات المهنة والاخلاق بصورة عامة .

فان الهيئة الاجتماعية بتقريرها لقواعد السلوك المهني لم تاتي بعظيما او ان تخلق جديدا في عالم الاخلاق أي انها لم تنشا قواعد للسلوك ومن ثم ترغم الفرد على الانصياع لنصوصها بل هي جاءت بماتعارف عليه الناس وارتكز في ضميرهم مجتمعين ، غاية الامر انها اعادت صياغتها بصورة تتوائم مع المهنة ونبلها أي انها جزاءت الاخلاق ثم صبتها في قوالب تتوافق مع اخلاق المهنة ، فوعاء الاخلاق اكبر واعظم من تحيط بها قواعد سلوك معينة ، كونها تراكم عظيم اوجدتها نصوص منزلة تارة ، واخرى خلقتها الفطرة الانسانية والعقل السليم تارة اخرى .

وتاسيسا على ذلك ان صاحب المهنة لايقف عند القواعد عند اتيانه سلوكا معينا لقلتها وعدم احاطتها ، بل ان القواعد تمثل عند صاحب المهنة الانطلاقة والحافز لان يستلهم باقي القواعد ، وان الارتقاء بالمهنة ورسم الصورة الرائعة لها في اذهان الباقين انما تقع مساحتها في ان يخلق صاحب المهنة صورا جديدة رائعة من الاخلاق غير المسطرة في القواعد وان آية الرجل النبيل الحريص هو ان يبادر بفعل الخير اينما وجد الى ذلك سبيلا ولايجعل من القواعد منطلقه الى التماس الذكر الجميل والاحدوثة الطيبة وبعدها الثناء الحسن عند الناس ، فالمعدم او الفقير الذي يطرق باب المحامي طالبا الانتصار له فاولى بالمحامي ان لاينتظر قواعد السلوك لتنبئه بماذا يفعل ، والمحامي الذي يتاخر زميله او لايحضر للمرافعة لايتعجل التصرف ليقرا قواعد السلوك هل يثاب على فعله ام يعاب فيما سيفعله لاحقا ، فليس الامر هكذا وانما تكون مبادرته كما قلنا انفا هو ان يعرض الامر على قيمه المغروسه في ضميره والمحموله في وجدانه لسنوات قد خلت من قبل ، فما وافقها فهو الخير كل الخير وماخالفها فليضرب قواعد السلوك عرض الحائط .

ثم ليس كل مايباح في مجال القانون هو متاح في مجال الاخلاق ، لان ذلك كما نوهنا سابقا ان الجراة على الاخلاق يكون بداية لفساد النفس وسوء الطوية وخبث السريرة ، ولو بنسبة قد لايستشعرها الفرد لكن منسوب هذه النسبة قد يعلو خطها البياني ثم تستقر في النفس حتى تصبح شيئا اشبه بالعادة لايقوى المرء على مغالبتها في كل حين ، فالاتيان بفعل معين

والمداومة عليه حتى يصبح كالنظام الثابت يُضعف المناعة اتجاه مقاومة ذلك الفعل الذي يعرض للفرد بين الحين والاخر وبالمحصلة النهائية لكل ذلك هو ان تكون القيم والثوابت امرا ثانويا عرضيا لايلتفت له الا عند الحاجة اليه ، عندها تتوسع الجراة لتشمل في ما بعد مجال القانون نفسه لان الرادع النفسي والاخلاقي قد انتهى ولم يبقى الا الرادع القانوني ، لكن المحامي ومن خلال الممارسة المتكررة يكون قادرا على الافلات من هذا الرادع لقدرته على تسخير النص لمآربه النفعية ، بعدها تكون الصورة واضحة المعالم ، شخصا ليس له رادعا اخلاقيا ولامانعا قانونيا ، فكيف تريد بعد ذلك من مؤسسة يمثلها هذا الفرد ان تساهم مع باقي المؤسسات في بناء دولة المشاركة والمشاورة التي ذكرناها سابقا .

والاثر الاخر الذي يولده التصرف السيئ في مجال القانون او الاخلاق هو خلق حالة من الشياع السلبي لدى العامة ثم يكون اللجوء الى صاحب المهنة من قبل هؤلاء العامة اقرب الى القهر منه الى الاختيار لعدم ايجاد البديل النافع ، لذا فان المهنة يخيل اليك في بعض الاحيان انها اصبحت في عزلة وانها المتهمة دائما ، وانها اخذت تتآكل شيئا فشيئا ولاندري قد يصيبها يوما سهما في ذات مقتل وان القاتل ليس دخيلا غريبا بل هو احد المنضمين اليها ، لذا فان استخدام الحزم والشدة اتجاه كل تصرف سيئ قد يعيد لتلك المهنة حياتها والا فان الكل يتحملون مسؤولية مقتلها من حيث لايشعرون .

وعن علاقة الزملاء فيما بينهم . فاجدر ان لاتكون وقتية تنتهي بغياب احدهم عن العين ، وليتذكروا بان اعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان واعجز منه من ضيع من ظفر بهم ، او مصلحية سرعان ماتنتهي بانتهاء المصلحة ، وليعلموا ان حالهم في المهنة حال ركاب السفينة ، ينبري احدهم لخرق هذه السفينة وينادي انا حر فيما اصنع ، ولايجول في خاطره ان غرقها هو غرق للكل وان سلامتها سلامة للكل .

ولانريد ان نكرر من ان علاقة الزملاء فيما بينهم يجب ان تقوم على استحضار كل قيمة عالية وان يبتعدوا عن كل ماينزل بالانسان الى الاسفاف والرخص ، وان يعلموا ان خالقهم واحد ورازقهم واحد فعلام ذلك التهافت العجيب على اساليب لاتجر على صاحبها الا الويل والثبور والدعاء عليه في ظهر الغيب ولعل دعوة من تلك التي يختلي بها المظلوم مع ربه يفقد بها الظالم كل ماجناه من غٌنم لسنوات مضت ويقول مثلما كان يقول عبد الملك بن مروان حين حضره الموت ، ليتني كنت غسالا لثياب المسلمين ولم اتولى خلافتهم .

بقي موضوع الاحاطة باصول المهنة والعلم بها ، أي علمية القائمين على المهنة ومدى الالمام بقواعدها ، فهل هو الاخر يرتبط بموضوع الاخلاق ام انه لاعلاقة بهذا الامر .

قد تختلف مهنة المحاماة عن باقي المهن الاخرى نوعا ما ذلك ان المحاماة لايقيدها تخصص معين حتى يكون الامر واضحا للعيان امام العامة من الناس حين يوكلون امرهم الى المحامي ، فالمحامي عنوان عام عند الغير ، واذا سلمنا بهذا الامر فنكون امام مشكلة ، واصل هذه المشكلة مردها قائما في ان علم القانون واسعا عريضا متشابكا في تطور وتجديد وهو كل يوم في شان ، فالاحاطة من قبل المحامي عسيرة بل عسيرة جدا ، والعامة عندما تيمم شطر وجهها الى المحامي لاتعرف منه الا انه عارفا مطلعا بصيرا باصول مهنته ، ملما بها قادرا

على الخروج من مآزقها ، قويا في تكليفه باي مهمة من المهام ، او ان المحامي نفسه يٌشعر العامة بذلك ، دون ان تعي ان ذلك خلاف الواقع فلقد مضت العقود الطويلة على احدهم دون محاولته التغيير من واقعه المهني ولو بدرجات بسيطة ، فهل نلقي باللائمة على المحامي ام على العامة من الناس ام على الاثنين ؟

وحقيقة الامر ان الطرفين يشتركون في صنع الخطا ولو بدرجات متفاوته ، لكن بالتاكيد ان وزرها الاكبر انما يقع على المحامي لان عليه الاحاطة باصول العمل وان يرتفع بعلميته كلما مرت عليه الايام ، فيطالع ويسال ويناقش ويلم بجزئيات الدعوى المعروضة عليه ويراقب الاجتهادات الجديدة في مجال القانون ، فالعامة تريد منه غاية ولاتعرف في تعاملها الوسيلة الا ماشذ وندر ، والذي يراقب المشاكل التي تعتري المحامين مع العامة يرى ان اغلبها ان لم يكن جميعها لاتتعدى هذا الاطار ، فعدم الالمام هو جزء كبير من المشكلة ، كذلك فان العامة عليها ان ترتفع بشيئ من ثقافتها القانونية – المعدمة عند هذا الشعب – فعليها ان تسال وان تمعن نفسها جيدا بالمحامي الذي تختاره ومدى امكانيته على صنع الابداع والاحاطة بالدعوى المعروضة عليه ، وهي ان فعلت ذلك فانه قد بغنيها من ان تندب حظها العاثر لانها اختارت الطريق الخاطئ ، وتغني المحامي كذلك عن مشاكل كثيرة يتعرض لها .

اذن العلمية هي جزء من الاخلاق فالصادق عليه الوقوف عند حدود امكانيته ولايتعداها وان يعرف قدر نفسه ، وان يكون قبوله للدعوى مرهونا بهذا الاطار ، والنصيحة هي اساس الصدق في هذا المعنى وقوامه ، وعلى المحامي ان لايكتمها اتجاه موكله ومن يكتمها فانه آثم قلبه ، وهذا الامر يشكل عامل قوة له لاعامل ضعف ذلك ان الناس وماجبلت عليه من فطرة في انها تحترم الصادق وهي ستعاود الرجوع اليه في قضية جديدة ولو بعد حين ، لعلمها ان الذي عليه بالامس هو غيره في هذا اليوم .

وعن علاقة المحاماة بالحق والعدل والقضاء واوجه الربط الفلسفي بين هذه العناوين .

فاعتقد واتمنى ان يكون هذا الطرح صحيحا مقبولا ، وهو ان المحاماة جاءت من (- يحامي – الحامي – الحِمية – الحِمى -) وهي غير المدافع ، فالذي يحمي شيئ هو غير الذي يدافع عن شيئ ، فالحامي اوسع معنى ، واكثر عمقا ، وابعد اثرا ، من المدافع ،(فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر والاخ الدافع عن اخيه) فالمدافع عن شيئ يستلزم لكي ينهض بالدفاع ان يكون هنالك خطرا هم به يريد ان يقصيه او يفنيه او يحدث اثرا فيه ، أي عندما ينهض الخطر ينهض الدفاع عنه ، كما انه موقوتا بهذا الخطر ، ومن جانب اخر قد تشتبك مع الدفاع عناوين اخرى تفرغ عنوان الدفاع العام من محتواه الاصلي فقد يشترك معه حب الظهور والرياء والسمعة والصورة الحسنة لدى الناس ، كما ان الدفاع قد يكون عن الباطل كما يكون عن الحق .

لكن المحاماة أي الحامي هو المدافع اصلا عن الحق ، وان سمو الحامي ورفعته وقدسيته انما تاتي ليس بفعل الحماية المجرد أي ذلك الفعل الخارجي المادي البحت ، وانما تشترك معه عناوين اخرى هي اكثر سموا ورفعة الا وهي الاحساس الجياش الكامن في الصدور ، الاحساس المرهف المستقر في الوجدان ، فالحامي يحمل بين جنبيه صفة المدافع مع صفة

الشعور بدوام هذه المدافعة أي انه في دفاع مستمر لاينتهي مادام الصراع قائما بين من يريد دوام الباطل وبين من يبغي ازهاق هذا الباطل ، كما ان المحاماة تاتي من – الحِمى – وهو المكان المحمي ، وبالتالي فكأن المحاماة هي عبارة عن مكان للقيم الصالحة ، مكانا للنبل والاستقامة وان هذا المكان الذي يحوي جميع تلك المفاهيم هو – الحِمى – وان المحامي هو الحامي لها من كل عدوان يًغير عليها ومن كل سوء يريد ان يبطش بها ، فهو في استنفار مستمر لايهدا روعه ولايستقر ضميره الا ويرى ان جولة الحق هي الرابحة وان ماعداها في خسران مبين .

واذا صح هذا الذي افترضناه فان المحاماة تمثل حماية للحق وصونا له ودفاعا عليه ، لذا فان الذي يدافع عن باطل لايكون مشمولا و لايستحق وصف الحامي ، وبالتالي فهو غير جدير بوصف المحامي ، لان المحاماة في هكذا وصف هي الرديف للحق والعدل والانصاف ، وهي الصنو الدائم للقضاء ،لان القضاء غايته انصاف الناس ، وان اصدق بيان للذي عرضناه ، ان الناس توجه عبارات النقد للذي يراوغ عن الحق ويستهين به وتصفه بعبارات لعل اقساها قولهم (انت المحامي وتفعل هذا ! ) وهي اشارة فيما يبدو الى ان المحاماة عنوان لصون الحقوق والذياد عنها ، وان المحامي صائنا لتلك الحقوق ، وان الجناية منه عظيمة بخلاف غيره عند الناس لانه نصب نفسه مجاهدا عن مفاهيم هي الاشرف بين كل المفاهيم المطروحة .

وبعد ، فهذه هي اهم الامورالتي جاءت بها قواعد السلوك المهني للمحامين الصادرة من نقابة المحامين في 16- 6- 1987- وهي لاتخرج في مفهومها العام عن هذا الاطار ، كلها جاءت لصنع الشفافية وفك الارتباط مع القيم الهابطة ، وخلق الذوق المصفى والادب الرفيع ، والتهذيب الوجداني العميق ، والترابط الانساني الوثيق ، وحسن التعامل مع النفس والغير ، وخلق حالة من الكياسة لدى صاحب المهنة ، كما انها ترتفع بالمحامي ان يقف عند حدود المحاماة بل هي طريقا للمواطنة الصالحة والتعايش القائم على الثقة وحسن الظن بالاخر، ،وقد تعرضنا الى هذه القواعد ليس بالشرح لها كما هو الغالب ، وانما من خلال رؤية تاصيلية ترابطية بين المفاهيم والاصول التي جاءت منها – مع التقدير

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب