لايخفى على القاصي والداني أن الإعلامي والصحفي العراقي وضع روحه فوق راحته، وجعل نصب عينيه إيصال كلمة حق، او بث شكوى، او إبداء رأي، او الحث على تقويم اعوجاج، او طرح حلول لمشاكل، وليس له في كل ذلك مأرب إلا كمآرب باقي المواطنين الذين لايصل صوتهم الى مسؤول أخطأ بحقهم، او تجاوز صلاحياته مستغلا منصبه، او لم ينصف في قرار ما -وما أكثرهم اليوم في عراقنا-. ومع كل هذا، نرى الصحفي العراقي يحتفي بعيده كل عام، نائيا بنفسه -اعتدادا بها- عن بهرج الأعياد الباقية، يائسا من قدوم بابا نؤيل، محملا هدايا وعطايا ومزايا، تغدقها عليه حكومات بلده، بل هو على يقين تام أن سلطات بلده تحتفي معه على مضض، ويعلم جيدا أن هلال عيده تخسف به القوانين الجائرة، وتعصف بمستقبله المهني عواصف الإهمال والتهميش والضدية والعدائية. فمنذ إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة عن اليوم العالمي للصحافة عام 1993، والصحفي العراقي يعاني التنكيل والتكبيل والتكميم. فقديما كان القائد الضرورة السبب والمسبب في وضع الصحافة والصحفيين المتدني، أما اليوم، فلم يتبدل الحال إلا الى الأسوأ، ولم يتغير المآل إلا نكوصا وترديا وساء سبيلا.
يسمونها “مهنة المتاعب” فيما هي مهنة لذيذة لمن يحب مزاولتها، ويعشق خوض فنونها، فيستسهل فيها الصعب، ويستعذب بعمله مرارة التحديات، ويستطيب بمنجزه ما يكدر المزاج ويخدش الخاطر، فنراه صبورا، حمولا، مؤثرا المنفعة العامة على الخاصة، مضحيا بالأنا العليا والدنيا مرضاة للحقيقة وإظهارا للوقائع كما هي، وبالتالي فهو سعيد قانع بأدائه، راضٍ بدوره ورسالته فيما يؤديه، تلك هي مهنة الصحافة. وعلى هذا فإن الصحفي أقرب مايكون لقول لبيد بن الأعوص:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
قانون حقوق الصحفيين العراقيين، أرى ساستنا ونواب برلماننا يتعاملون معه كطفل غير شرعي، او لقيط يتوجب عليهم التوقيع على شهادة ولادته بأب وأم مجهولين، ناكرين بموقفهم هذا رسالة الصحفي، لعلمهم أنه فاضحهم وشاهرهم، وناشر حبل غسيلهم أمام الملأ. فالخوض في تفاصيل مواد القانون يتطلب مقاما اوسع من منبري هذا، ليصل صداه إلى القارئ والسامع على حد سواء.
سأستعرض نزرا يسيرا ويسيرا جدا من مواد هذا القانون، والتي أشكل علي فهم فحواها ومغزاها، وأثارت استغرابي في تناقضها مع الواقع والحق والمنطق والذوق والأخلاق. إذ أن بعض مواده تنأى عن الأهداف والغايات السامية المنشودة من الصحافة والإعلام، بشكل يذكرنا بسياسة القمع والكبت وتكميم الأفواه وتسييس الإعلام وتسخيره، وجعله بوقا يزمِّر ويتغزل بأخطاء المسؤولين وتجاوزاتهم وظلمهم شعبا وجدوا في مناصبهم لخدمته.
لقد ورد في المادة 4/ اولا من القانون مايلي: (للصحفي حق الحصول على المعلومات والأنباء والبيانات والإحصائيات غير المحظورة من مصادرها المختلفة وله الحق في نشرها بحدود القانون). فكيف يحق لمسؤول ما ان يقوم باعمال هي (محظورة وخارجة عن القانون وتخالف أحكامه وتضر في النظام العام)، وفي ذات الوقت لايحق للكاتب والإعلامي والصحفي ان يعبر ويصف ويحارب باسم الحق والشعب هذه السلبيات الـ (محظورة) بل من حقه حصريا تناول التجاوزات (غير المحظورة فقط وله الحق في نشرها بحدود القانون). وبذا يجوز للمسؤول ان يسرق ويرتشي ويتواطأ ويقصر أنّى شاء، ولايجوز للصحفي الإشارة الى ذلك.
اما المادة 5/ ثانيا فانها تتيح (للصحفي حق التعقيب في حدود احترام القانون) بينما تتيح للمفسدين العيث والعبث وفعل ما لايمت الى احترام القانون بصلة دون رقيب. كما تجيز المادة 6/ اولا للصحفي (حق الاطلاع على التقارير والمعلومات والبيانات الرسمية، بما لايشكل ضرراً في النظام العام) هذا يعني ان الضرر لو بدر من وزير او مدير او موظف او رئيس وزراء او رئيس جمهورية، فهو سر من أسرار المنصب لايحق للإعلامي الإطلاع عليه، وإعلام المواطن بما يحدث خلف الكواليس.
إذن، المتاعب بمهنتنا لم تولد معها، ولم تكن يوما قرينتها إلا بوجود ثلاثة: الحاكم الجائر، والسياسة الخاطئة، والإدارة السيئة، والثلاثة الأخيرات متوافرات في الشخوص الماسكة زمام البلاد بعد 2003 جملة وتفصيلا، وبهم وبسببهم غدت المهنة مهنة متاعب ومنغصات ومجازفات، بل باتت مهنة السجن والإهانة والموت.