23 ديسمبر، 2024 10:47 ص

نظرة إلى مصر قبل وبعد التغيير

نظرة إلى مصر قبل وبعد التغيير

إعداد ..
طيلة القرن الماضي وفي كل حدث جرى في منطقتنا العربية نجد أن لمصر دائماً دوراً أساسياً فيه، هذا إذا لم تكن هي بطلة المشهد، وحتى بعد أن قاطعها العرب بعد اتفاقية كامب ديفيد كنا نجدها قوية في افعالها وردود افعالها، حتى إجتاح العراق الكويت والذي مثل الفرصة المناسبة لمصر للعودة إلى قيادة العمل العربي المشترك والتأثير في القرارات السياسية التي تصدر عن المنطقة.
وما ان هبت رياح التغيير على المنطقة العربية حتى كان لمصر النصيب الوافي منها فانتفضت على نظام حسني مبارك واسقطته في مشهد رائع يعكس الروح الوطنية وحب الأرض لأبناء أرض الكنانة، ولما كان الأخوان المسلمون والجماعة الاسلامية هم الأكثر تنظيماً والأكثر تأثيراً في الشارع المصري فإنهم اداروا رياح التغيير المصرية لصالحهم ونجحوا في التأثير على الناخب المصري وصولاً إلى فوزهم في الانتخابات الرئاسية بمرشحهم السيد محمد مرسي.
شهدت فترة حكم الرئيس محمد مرسي تقلبات سياسية واقتصادية وثقافية لم تعتد أم الدنيا عليها، تخللتها انسحابات واستقالات في مؤسسة الرئاسة ومؤسسات مهمة اخرى مما دفعه الى الاعتماد على البعض من اركان حزبه لادارة البلاد ولكن بلداً مثل مصر يحتاج إلى قائد بمؤهلات وبمواصفات أخرى وليس لشخص يدير البلاد فقط مما ترتب عليه النتائج التالية :-
1. الجانب السياسي: فعلى الصعيد السياسي الداخلي ورغم التأييد والترحيب لنظام الحكم الجديد الا ان طريقة ادارة الدولة تعكس ان محمد مرسي وجماعة الاخوان المسلمين لم يواكبوا التغيير الحاصل فأداروا الدولة بعقلية المعارضة، وانهم لم يدركوا ان فوزهم في الانتخابات الرئاسية جاء بفارق ضئيل عن المرشح الأخر والذي يعني ان شرائح كبيرة في المجتمع لم تكن راضية أوعلى الاقل لم تكن مؤيدة لهم، فحاولوا الاستئثار بالحكم اوكما يطلق عليه أخونة مؤسسات الدولة، بالاضافة إلى سوء ادارتهم للأزمات المتعاقبة التي مرت بها مصر وخلق خلافات مع مؤسسات عريقة مثل المؤسسة العسكرية والشرطة والقضاء.
 أما فيما يخص سياسة مصر الخارجية فانه وعلى الرغم من التحركات على محاور عدة مثل الزيارات الخارجية لبعض الدول لتحسين العلاقات وجذب الاستثمار للنهوض بالاقتصاد لكنه جاء في اغلبه كردة فعل دون تخطيط مثل الموقف من المناوشات الإسرائيلية على الحدود الشمالية الشرقية لمصر، وقضية قتل الجنود المصريين على تلك الحدود، وطريقة تعامله الضعيفة في موضوع سد النهضة الذي عده الخبراء فقدان لهيبة مصر، وتسرعه في قطع العلاقات الدبلوماسية المصرية السورية بصورة غير مدروسة، والذي عرض أمن مصر القومي الى خطر كبير.
2.  الجانب الاقتصادي : على الرغم من أن الاقتصاد من أهم الجوانب التي تؤثر على الشارع المصري بل أن رغيف الخبز والعدالة الاجتماعية كانا من أهم مطالب ثورة 25 يناير، نرى أن الاخوان تجاهلوا حقيقة أن نظام الرئيس حسني مبارك في العقد الأخير اعتمد بصورة كبيرة على رجال الأعمال المصريين بل ان حكومة رئيس الوزراء أحمد نظيف كانت في الغالب حكومة رجال أعمال، وعلى الرغم من أن نظام مبارك قد سقط إلا ان المصالح الاقتصادية لأركان حكمه لم تسقط لأنها متغلغة بصورة كبيرة داخل مفاصل الاقتصاد المصري، وهي حقيقة تجاهلها الاخوان المسلمين فحاولوا خلق اسواق جديدة لهم تنافس ما كان موجود مما ادى إلى منافسة شرسة انعكست على المواطن المصري وادت إلى نقص كبير في المواد الاساسية وخاصة مادتي البنزين والسولار، مما سبب استياء شعبي واسع ضد الأخوان، هذه العوامل جميعها اوصلت ديون مصر الخارجية في عهد الرئيس محمد مرسي إلى أكثر من 45 مليار دولار.
3. الجانب الثقافي : على الرغم ان مصر هي رائدة الثقافة والفنون في العالم العربي بل انها الدولة العربية الوحيدة التي حصل اربعة من ابنائها على جائزة نوبل( السادات، البرادعي، توفيق الحكيم واحمد زويل)، الا ان نظام حكم الاخوان أدخل نفسه في حرب ثقافية مع مثقفي وفناني واعلاميي مصر، ولم يحاول ان يجذبهم اليه بل قدم انصاره عدد من الدعاوى القضائية بحق بعض المثقفين والفنانين بحجة ازدراء الاديان فحول هؤلاء الى جبهة معادية لسياسات الاخوان عامة .
ان نظام الرئيس محمد مرسي لم يستطع جذب معارضيه وتشكيل حكومة وحدة وطنية، فتمسكه بحكومة هشام قنديل رغم ضعفهاجعلت معارضيه يحشدون انصارهم والرأي العام المصري ضد الاستفراد بالسلطة، على النقيض مما فعله اسلاميو تونس الذين تحالفوا مع حزبين علمانيين وحكموا باسم التروكا .
جميع تلك الاحداث خلقت الاجواء لحشد جهود كل المعارضين من شباب واحزاب وجمعيات ورموز دينية وكتاب واعلاميين ومثقفين وقضاة وعبر الوسائل الاعلامية المؤثرة خرج الملايين للشوارع في اكبر حشد جماهيري عرفته البشرية وصلت التقديرات الى 30 مليون متظاهر . نزلت الملايين الى الميادين تنادي برحيل الرئيس مرسي ونظام الاخوان عن دفة الحكم، وسرعان ما انظم صوت قوي الى صوت الشعب وهو صوت المؤسسة العسكرية العريقة التي قامت بعزل الرئيس محمد مرسي في الثالث من تموز/ يوليو نزولاً عند رغبات الشعب المصري وتشكيل حكومة مدنية ورسم خارطة جديدة لمستقبل مصر .
إن ما حدث في مصر لم يكن ثورة ثانية بل استكمالاً لثورة يناير التي خطفتها الأحزاب الاسلامية من ايادي الثوار الشباب، فالاخوان لعبوا على وتر الشرعية ولم  يتنبهوا الى ان الشرعية لاتعني صندوق الانتخابات فقط بل ان هذا الصندوق هو احد وسائل الشرعية والديمقراطية، والمرحلة الأهم تأتي بعده وهي تطبيق الوعود وتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي اقنعوا الناخب به ليوصلهم إلى السلطة وهو ما أخفقوا في تحقيقة. ربما يكون الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أكثر كتاب مصر معرفة بطبيعة الاحداث فهو يصفها في احدى مقابلاته: “أن ما حصل في مصر ثورة للتغيير والتي اثبتت ان مصر وان كانت اسلامية فهي عاشقة للمدنية، كما انه ليس انقلاباً عسكرياً لأن الانقلاب يعني سيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة وهذا الذي لم تفعله المؤسسة العسكرية بل سلمت الحكم الى نظام مدني وفقاً لصلاحياتها”.
وكما اشرنا في بداية هذا المقال ان لمصر دائماً دور محوري في الاحداث عالمياً واقليمياً وأنه من الطبيعي ان يجد مثل هذا الحدث صدى كبيرا بين مؤيد ومعارض لسقوط نظام محمد مرسي والاخوان المسلمين وكلٌ من منطلق مصالحه الوطنية والشخصية فتعاقبت ردود الافعال وازدادت حدتها بعد 14 آب، بعد فض السلطات المصرية لاعتصامي رابعة العدوية والنهضة، حيث ان ما جرى غير خارطة التحالفات الاقليمية والدولية، فنجد ان دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء قطر والأردن رحبت بالتغيير من أول يوم وساندته بقوة سياسيا واقتصاديا بعد ان كانت جميعها في موقف واحد من الاحداث في سوريا وليبيا وتونس واليمن والبحرين، وعبر العراق عن مساندته للتغيير وترحيبه بحكومة البيبلاوي.. اما السلطة الفلسطينية والمغرب وليبيا ولبنان فكانت مؤيدة لإجراءات السلطة فيما اتسم موقف تونس وحركة حماس بالضد من هذه الإجراءات.
اما دولياً فاختلفت المواقف امريكا تعارض باستحياء وتتبعها بريطانيا، وقد عزا المؤمنون بنظرية المؤامرة ذلك الى ان جماعة الاخوان وامريكا عقدت اتفاقاً سابقاً يقضي بتأييد امريكا لوصول الاخوان الى السلطة في مقابل حث الاخوان حركة حماس الى عقد هدنة مع اسرائيل ولهؤلاء دليلهم فطيلة حكم الاخوان لم يهدد أمن اسرائيل، وسقوط الاخوان جعلت ادارة الرئيس اوباما وحزبه في حرج وفي موضع اتهام من قبل الحزب الجمهوري، وفي موقف يعكس الأهمية الكبرى لمصر ضمن سياسات الولايات المتحدة الامريكية الخارجية قطع الرئيس الأمريكي باراك اوباما عطلته التي يقضيها في ماساسوتيش واصدر بياناً صوتياً للتعليق على احداث فض الاعتصامين قرر فيه الغاء المناورات العسكرية المشتركة بين مصر وأمريكا تحت أسم “النجم الساطع”  والتي تعد اهم تجليات التعاون العسكري بين البلدين.
 اما بريطانيا فقد استدعت السفير المصري في لندن واعربت له عن قلقها الشديد حيال العنف والاضطرابات، وقامت المانيا بالاجراء ذاته، اما الموقف الفرنسي فكان في البداية موقفاً شديداً ضد السلطات المصرية وإدانة واضحة لفض الاعتصامين كما جاء في بيان وزير الخارجية لوران فايبوس، لكن الموقف الفرنسي تطور وتغير بعد لقائين مع وزيري خارجية قطر والسعودية، حيث دعا وزير الخارجية الفرنسي بعده الى الحوار بين جميع الاطراف في مصر، وصرح الرئيس فرانسوا هولاند بعد جلسة مباحثات مع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بأنه اذا كان يتوجب احترام حرية التعبير والتظاهر فأن الأمن ايضاً لابد من احترامه، هذا التغير في الموقف يبين لنا قوة وحجم مصر الحقيقي، اما الموقفين الروسي والصيني فكانا مؤيدين لإجراءات السلطة المصرية ووقفتا بالضد من قرار كان سيتخذ في مجلس الأمن لمناقشة الاوضاع في مصر، أما اقليميا فنرى ان تركيا وايران ادانتا تحركات السلطة وفض الاعتصامين من منطلق مصالحهما وتحالفاتهما مع جماعة الاخوان المسلمين، وحتى اعلامياً فالحدث المصري ادى الى انقسام واضح بين أهم محطتين عربيتين وهي قناتي الجزيرة والعربية.
وفي مقابل هذا كله قابلت السلطات المصرية كل الردود العالمية القوية بموقف واحد وثابت يعكس إدراك المصريين لعمقهم التاريخي ودورهم المؤثر عالمياً في التأثير والتأثر بالاحداث الاقليمية والدولية ورفض التدخلات والإملاءات الخارجية، واستطاعت الحكومة المصرية المؤقتة ان تبرر سياستها للقوى الدولية عبر عقد المؤتمرات الصحفية أضافة إلى دور وزارة الخارجية والدبلوماسية المصرية في التشاور والتباحث مع سفراء ووزراء خارجية الدول الأخرى واستدعاء وسحب بعض السفراء في موقف يعكس قوة مصر الحقيقية، هذه التحركات الثابتة والموحدة أسهمت في أخر المطاف في اقناع الرأي العام العالمي بموقف الادارة المصرية الجديدة لأنه ينبع من موقف وطني ثابت، كما ان الاحداث المصرية استطاعات ان تعيد فكرة القومية العربية ولو بصورة جزئية بسيطة، فنرى جسوراً من المساعدات العربية بدأت تنهال على مصر في مشهد تعاون اقتصادي عربي كان قد غاب لفترة طويلة، ولعل أبرز المواقف العربية صدرت من السعودية التي شعرت بارتياح كبير لما جرى في مصر انطلاقاً من حرصها على أمنها القومي.
وبعيداً عن الداخل المصري وقريباً من الداخل العراقي نجد ان رئيس مجلس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي قد أبدى تأييد العراق لإجراءات السلطات المصرية بضرورة فرض الأمن وهيبة القانون وهو موقف جيد يؤازر الموقف العربي ويقويه، هذا من جانب ومن جانب أخر فإن العراق مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى لتقوية علاقاته مع مصر بمواقفها الجديدة المتطابقة مع موقف العراق في العديد من القضايا .