لم تبدأ حقبة سياسية جديدة في العراق دون أن تكون قد عمدت بالدم.
مقولة قد تكون صادمة للبعض، وقد تكون مبالغ فيها للبعض الآخر، وقد يكون فيها من الاطلاق وعدم الموضوعية لدى شريحة كبيرة من القراء. ومهما حاولنا تخفيف حدة المقولة، فان الحقيقة تبقى قائمة ولا يمكن تغييرها أو زحزحتها. فهذه هي الحقيقة المرة كما عاشها وعايشها العراقيون على مر العصور.
هكذا درجت الأمور في تسلم مقاليد الحكم في العراق: أن يجتث اللاحق السابق من جذوره، وأن يغسل عرش السلطة بدم الغريم.
لنبدأ من حيث نحن الآن: فالسلطة القائمة الآن، سلطة الحرية والديمقراطية والقانون والعدالة وال.. وال…الى آخر التوصيفات الهلامية لم تجلبها الملائكة من السماء. بل شقت طريقها على ظهور الدبابات بين الجثث وأنهار الدماء المسفوكة لتعتلي مقاليد سلطة هشة محاطة بأشواك الألم وأشباح الانتقام التي تلمع أسنانها في ظلام الواقع المزري الذي يعيشه العراق الآن بين حجري رحى الانتقام والانتقام المضاد.
وقبلهم جاءت سلطة البعث، سلطة الحرية والديمقراطية والاشتراكية، السلطة التي أفرغت هذه الكلمات من معانيها، وجعلتها مدعاة للتندر وحولت العراقيين الى كيانات بشرية ممتهنة لا كرامة لها. وهم جاءوا على أصوات ضرب الطبول والاحترابات الداخلية في أدغال الصراعات الايديولوجية. ولم يستقم لهم الحكم حتى عمدوه بقرابين الدماء انتقاما من حقبة حكم “الديكتاتورية”التي سبقتهم.
وقبلهم جاء “الثوار” من الضباط الأحرار ليبدأو صفحة حكمهم بمجزرة دموية لرموز الحكم الملكي تخجل البشرية من مجرد الحديث عنها.
وقد استوفى الحكم الملكي حقه من دماء العراقيين من خلال الاعدامات، بل ان الطريق الى السلطة كان معبدا بدماء العراقيين الثائرين على الاحتلال البريطاني.
وحين حكم البريطانيون العراق فانما حكموه من خلال الحديد والنار واراقة الدماء في عموم العراق لانهاء وجود العثمانيين في العراق.
ولم يكرس العثمانيون حكمهم إلا من خلال أبشع أنواع القمع ومسخ الهوية الوطنية للعراقيين.
……
كل هذا جرى في التاريخ الحديث الذي مازالت بعض الأجيال شاهدة عليه.
اما في التاريخين الوسيط والقديم فلم يكن العراقيون بأفضل حالا:
فالحروب بين الاتراك والفرس كانت تدور رحاها على الأرض العراقية ووقودها الدم العراقي المهراق.
وحين وطد المغول حكمهم في العراق فانما كانت من خلال كارثة انسانية وحضارية لا تتسع لها الكتب، من استباحة لبغداد وتفكيك عرى قوتها، لانهاء الحقبة الهزيلة من حكم العباسيين.
وحين جاء العباسيون الى الحكم اجتثوا الحكم الأموي من جذوره ليقيموا على أطلاله عرش الحكم العباسي.
ولم يوطد الأمويون عرش الحكم وبسط السلطة في العراق دون اراقة الكثير من الدماء.
………….
اما في التاريخ القديم:
فقد كان الدم العراقي مراقا بحالة من ثلاث حالات:
حين يكون الطامع في السلطة من داخل العراق، وبهذا لا بد من معارك طاحنة تنتهي في الغالب بانتصار الحاكم الجديد الذي سيشرع في تأسيس سلالة حكم، ستجد من يتحداها في المستقبل وهكذا دواليك….
أو ان يكون الطامع في حكم العراق من خارج العراق فيشن حربا شعواء على العراق تنتهي باستباحته وحرق أخضره ويابسه وابادة ساكنيه.
وفي الحالة الثالثة تكون قوتان متصارعتان من الخارج على حكم العراق، لكن ساحة المعارك والحروب ستكون على جثث العراقيين.
…………..
هكذا جرت العادة: ان يحمل الحكم الجديد في العراق لعنة زواله بين قوائم كرسي الحكم. كل قطرة دم تسفك من أجل السلطة هي خلية سرطان ستنمو وتكبر وتنتشر حتى تستشري في جسد الحكم وتهد عاليه سافله.
…………
لا بد من تغيير هذا النظام الذي يجري مجرى القانون الطبيعي.
لا بد من التخلص من عقيدة اغتصاب السلطة التي تقابل عقدة إراقة دماء البكارة في تقاليد هذه المنطقة من العالم.
على العراقيين ان يفهموا ويعوا هذه الحقيقة وان يقدموا من أجل تغييرها الكثير من التنازلات.
ليتفقوا على نقطة بداية غير دموية.
عليهم ان يبدأوا تاريخا جديدا غير مخضب بالدم.
صفحة بيضاء تحمل تواقيع اتفاقهم على المضي معا في اتجاه واحد هو اتجاه المستقبل.
المستقبل النظيف الذي يضمن للاجيال القادمة ماضيا يفخرون به.
…..
عمر هذا العراق يزيد على عشرة آلاف عام.
قضى ثلاثة أرباع هذا العمر في حروب الداخل والخارج والانقلابات الداخلية والخارجية وكوارث الغزو والاحتلال والأوبئة والمجاعات والحصارات.
وفي الربع المتبقي من عمره كان له شرف الريادة في كل الأشياء العظيمة التي تنعم بها البشرية الآن.
ففي العراق القديم تعددت انجازات العراقيين في حقول: الأخلاقيات، الجماليات، القانون، الرياضيات، العلوم، الفنون، الفلك، الزراعة، الري وغير ذلك.
في العراق تم ابتكار العجلة وتعبيد الطرق والمحاريث ونظم الكتابة وشرائع القانون والزقورات والتقاويم ومساحيق التجميل وصياغة المجوهرات ونظم المجاري تحت المدن ونظم الري في الزراعة.
العراقيون هم أول من ابتكر المقلاة وشفرات الحلاقة والمزامير والقيثارات وأفران شي الطابوق والفخار ومقابض البرونز لبعض الأدوات والآلات مثل المطارق والفؤوس ومحاريث التربة ومحاريث البذار والعربات والزجاج والخناجر والرماح والسفن الشراعية والأختام الأسطوانية.
وهم مؤسسي أول مكتبة ومبتكري الكبش وهو آلة حربية تشبه الدبابة الحالية وكانت الكبش تستعمل لدك الأسوار والحصون.
……………
نرى أنه من الضروري ان يصير العراقيون الحاليون الى صياغة ميثاق شرف ملزم، قد يتجسد في صيغة دستور دائم: ينبثق بموجبه نمط جديد من الضوابط التي تنظم العلاقات بين الحاكم والمحكوم. ضوابط تحدد مسؤوليات الفرد تجاه الدولة ومسؤوليات الدولة تجاه الفرد. ضوابط تضمن الحد الأعلى من الحقوق للمواطنين. ضوابط تقنن سلطات الحاكم وتؤطر صلاحياته بمفاهيم جديدة تتلخص في اخضاع الحاكم والموظف الحكومي العام، وبغض النظر عن الموقع الوظيفي؛ لمبدأ أن القانون وحده فوق الجميع، وأن لا أحد فوق القانون. وكذلك إشاعة وممارسة مبدأ أن القوانين تسن لتطبق لا لتنتهك.