( بيروت : الدار العربية للعلوم ناشرون، 20012)
تكمن اهمية هذا الكتاب في كونه محاولة اكاديمية نادرة الحدوث، مستوفية لشروط البحث العلمي الجاد، فالباحث يذكر لنا منذ البداية مخططه المبني على ثوابت راسخة، فيحيط بالموضوع ويعرف مصطلحاته، ويبين منهجية البحث ويقدم فرضياته، ويستعين بكم مهم من المراجع .. انه وهو يدرس نظام الابداع الوطني يأتي بموضوع جديد والجدة هي احدى اهم مقومات البحث العلمي.. والى جانب منهجيته الواضحة يستعين الكاتب بالمراجع والمصادر العربية وهي قلة في هذا التخصص، والاجنبية وهي الطاغية من كتب ودوريات وتقارير مستقاة من وثائق وبحوث ومواقع الكترونية، الى جانب ذلك يعدد لنا اتجاهات الدراسة ونتائجها وينتهي بعدد مهم من الاستنتاجات والتوصيات .. وتلك لعمري كل ما يحتاجه البحث الاكاديمي، لكي يصل الى الابداع المنشود .
ينطلق الدكتور محمد جمعة في كتابه الابداعي هذا من الحرص الوطني على الاستخدام الافضل للمعرفة .. ومن هنا نراه يقدم مفهومه لما اسماه الابداع الحقيقي حين يشير الى ان الدول الحديثة وصلت الى قناعة ان الاهمية ليست بوجود المعرفة فحسب، ولكن في امتلاك القدرة على توظيف وتوليد المعرفة من جديد .. تماما كما وصل القدماء من علماء العرب عندما اعتبروا الإبداع ليس أن يأتي المبدع بشيء جديد منقطع عما قبله فقط ، بل أن يبني الباحث على ما سبقه ويأتي بالمزيد، وهو ما ندعوه بالتواصل المعرفي التراكمي .
يؤكد لنا دكتور جمعة في فصله الاول ان الابداع الحقيقي الذي يسير عليه العالم في عصر اقتصاد المعرفة اصبح هو المقياس الحقيقي لمكانة الامم، فعن طريقه وبواسطته نحكم بضعف الدولة المعنية او قوتها، وذلك لكونه يعبر عن مدى امتلاكها القدرة على التوظيف والتوليد للمعرفة من جديد ..
وإذا اردنا العودة لتعريفات من خارج ما توصل اليه جمعة في كتابه القيم، فسنرى في كتابات العرب والغربيين الترادف القائم القائم ما بين الإبداع والابتكار، فالابداع باللغة الفرنسية مثلاً هو (création) بمعنى الخلق او الابتكار وهو – كما يقرر المتخصصون- النشاط الذي يقود إلى إنتاج يتّصف بالجدّة والأصالة ويمثل قيمة مهمة بالنسبة للمجتمع . وعناصره الأساسية هي : المرونة والطلاقة والأصالة والعصف الذهني .. وكل تلك توصيفات معرفية للابداع تضمنتها البحوث وهي قابلة للنقاش .
يقسم جمعة كتابه الى خمسة فصول اولها “نظام الابداع الوطني” وفيه يدرس ككل الباحثين المنهجيين مفاهيم الابداع ونظام الابداع، ويعطينا نماذج ومكونات لادارة نظام الابداع في عدد من الدول المتقدمة مثل: كندا واوروبا والولايات المتحدة .. وفي الفصل الثاني يبحث “في استراتيجية التكيف والسيطرة” وهنا ايضا يقرب جمعة مفاهيم الاستراتيجية والتكيف لقارئ الكتاب بنحو جلي وعلمي . وفي الفصل الثالث يقدم لنا الكاتب “منهجية البحث” ويعرض لنا فرضيات الدراسة .. وفي الفصل الرابع يسرد لنا المؤلف الاتجاهات والنتائج العامة للدراسة .. اما الفصل الخامس فيخصصه لذكر الاستنتاجات النهائية التي توصل اليها وهي على قدر كبير من الاهمية ويسرد عددا من التوصيات ..
ومن الملفت للنظر ان الباحث جعل استنتاجاته اكثر شمولية حين ضمنها الجانبين النظري والتطبيقي ، كما وضع توصياته بنحو جلي لكي يستفيد منها الطالب الباحث والخبير في الدراسات البحثية والاستراتيجية .. وربما يكون افضل ما جاء به هذا الكتاب هو في هذا الفصل الذي جعله خلاصة مبدعة لنظام الابداع الوطني ..
ونظام الابداع الوطني، كما اسلفنا سابقاً واتفق على تعريفه بعض الباحثين، هو مجموعة من مركبات منظومة العلم والتكنولوجيا وعلاقات التفاعل فيما بينها، والجمع بينها يؤدي إلى توليد ونشر واستعمال معرفة جديدة يجري استثمارها اقتصادياً أو دفاعياً أو اجتماعياً ضمن حدود الوطن. وهو ما سنجد الكاتب يصل اليه والى اكثر منه باستخلاص معرفة جديدة من المعارف المتوفرة وهذا هو الابداع بعينه .
وباختصار توصل الباحث الى الاستنتاجات التالية : تحقق المعرفة ضمن الاقتصاد المعتمد على المعرفة الجزء المهم من القيمة المضافة ، ومفتاح المعرفة هو الابداع والتكنولوجيا .. إذ تتكامل منظومة الابداع وتتفاعل فيما بينها لكي تنتج لنا الظاهرة الابداعية، وشروط هذه السيرورة تكمن توافر ادارة ناجحة ورشيدة . وقد اضحى الابداع عبر منظومته اساسياً ويؤدي الى بناء المؤسسات والدول النشطة ..
ومن هنا نجد انفسنا في عالم متغير ومتطور، بحيث فرض اقتصاد المعرفة ادارة ونشر وتوليد الابداع وجعله قضية استراتيجية تبني الدول الحديثة الراسخة معرفياً وتولد قدرتها وقوتها .. الامر الذي جعل من الابداع آلية استراتيجية تمارس من خلالها الدول دورا اكبر على صعيد المنافسة في الميادين التكنولوجية والاقتصادية وانعكس ذلك، بطببيعة الحال، على العلاقات الدولية ..