استغرقت عملية نقل من تبقّى من سكان من البلدات الأربع السورية أسبوعاً، وكان التغيير الديموغرافي هذه المرّة علنياً وشبه «مشرعَن». قالت الأنباء أن الزبداني ومضايا عادتا إلى «الدولة»، أي الدولة السورية، التي أفقدت نفسها منذ 2011 إمكان أن يكون لها وجود في أي مكانٍ، إلا في حالين: أن يكون السكان مبايعين لبشار الأسد «إلى الأبد»، أو أن يكونوا قد هُجّروا بالقوة العسكرية أو أُجليَ مَن حوصر منهم متى تتوافر جهات مستعدّة لعقد «صفقة» في شأنهم. وحتّى اللحظة الأخيرة كانت هناك ممانعة لدى سنّة الزبداني ومضايا مع علمهم بأن البلدتين «ساقطتان عسكرياً»، إذ عاشتا منذ نحو عامَين حصاراً كشف لا أخلاقية «حزب الله» في منع الغذاء والدواء، بل كانت هناك ممانعة أكبر لدى شيعة الفوعة وكفريا الذين عاشوا حصاراً أقلّ شدّة، لأن البلدتين متاخمتان من جهة لمنطقة يسيطر عليها الأكراد ولأن فصائل المعارضة في الجهة الأخرى لم تكن مصرّة على اقتحامهما.
وجاء التفجير في حي الراشدين في حلب، حيث توقفت حافلات المغادرين من الفوعة وكفريا، ليُنزل خسائر بين قتلى ومصابين أكثر مما فقدته البلدتان طوال الأعوام الماضية، وقُتل أيضاً عدد من جنود «الجيش الحرّ» الذين يحرسون الحافلات بموجب اتفاق التبادل، ولم يتبنَّ تنظيم «داعش» ولا أي تنظيم آخر هذا التفجير. لكن تحليل الخبراء ملابسات الحادث، ومسارعة إعلام النظام إلى تقديم فرضيات لظروفه، وإشارة مصادر الأمم المتحدة إلى أن المنفّذين المفترضين «قالوا» قبل التفجير أنهم «موظّفو إغاثة» ثم اختفوا، وكذلك انسحاب أو هروب عناصر «الهلال الأحمر السوري» (هيئة تابعة للنظام) وقت مسّت الحاجة إلى جهودهم، إضافة أخيراً إلى حدس السوريين في المكان… كل ذلك أدّى إلى اتهام جهة أو جهات في النظام بتدبير العملية التي لم يثبُت أن انتحارياً نفّذها، أما لماذا استهداف موالين له فيما كان بإمكانه استهداف الحافلات التي تنقل معارضين بينهم مسلّحون، فهنا تتعدّد الاحتمالات.
يلاحظ مصدر على اتصال دائم بعدد من ضباط النظام أنهم أعطوه انطباعاً قوياً بأنهم كانوا يعرفون ضمناً مَن دبّر العملية، لكن استنتاجاتهم راحت في اتجاهات ثلاثة. فمنهم مَن قال أنها ردّ على تهميش النظام من جانب حلفائه في الغارة الكيماوية على خان شيخون، ومنهم مَن اعتبر أن الهدف من التفجير إبعاد الأضواء عن الضربة الأميركية لمطار الشعيرات، ومنهم أخيراً مَن قدّم تفسيراً غير متوقّع إذ أكّد أن أطرافاً في النظام استاءت من إقصائه عن مفاوضات التبادل التي تمّت بين إيران و «حزب الله» اللبناني و «كتائب حزب الله» العراقية من جهة وقطر وتركيا و «حركة أحرار الشام» و «هيئة فتح الشام» من الجهة المقابلة، ولم يُشرك النظام إلا في الجزئية المتعلّقة بإطلاق معتقلين وقد تلاعب بها ولم ينفّذ ما تعهّده. وكما ندّدت المعارضة السورية بالتفجير، كذلك فعلت عواصم كثيرة ومنها طهران التي ألقت مسؤوليته على إرهابيين «تكفيريين» من مثل الذين فاوضتهم على «صفقة التبادل».
لكن، هل هذه الأسباب الثلاثة مجتمعة، على افتراض أنها صحيحة، تشكّل دافعاً كافياً للتخطيط لعملية إرهابية تستهدف موالين وحلفاء؟ لا بدّ من التذكير أولاً بأن للنظام خبرةً وسوابق في العمليات الملتبسة التي تكون بمظاهرها الأوليّة بعيدة منه ولا تقدّم أي اشتباهات تقود إليه، لكنها تحقّق ما هدف إليه. ثم التذكير ثانياً بأن النظام يمر منذ الضربة الأميركية، وللمرّة الأولى منذ بدء الأزمة، بمرحلة تشوّش وعدم يقين انعكست أيضاً على أنصاره القريبين، إذ شعروا بأن الضربة والمواقف الأميركية تبعث إليهم برسالة مفادها أن لا مستقبل لرئيسهم. لذلك، أُريد لاستهداف حافلات المهجّرين في حي الراشدين بكمّية كبيرة من المتفجرات أن يزيل أثر تلك الضربة، وأن يلفت الأنصار والموالين إلى أن النظام لم يضعف ولا يزال قادراً على الإيذاء، وعليهم ألا يعوّلوا على أي مفاعيل للضربة.
يقول مَن يرجّحون هذا الاستنتاج أن مَن لا يزالون يجهلون طبيعة نظام الأسد، بعد كل ما حصل من مجازر وقتل في السجون وقصف بالكيماوي وتدمير منهجي وتصنيع وتوجيه للتنظيمات الإرهابية التي تجهر أحياناً بالتحرك لمصلحته، يمكن أن يعتبروا تفجير الحافلات نموذجاً لما هو عليه هذا النظام. بل إن لديهم لائحة بتفجيرات كبيرة في دمشق وحمص والساحل يقولون أنها نُسبت إلى إرهابيين لكن مصدرها هو النظام نفسه، وقد حصلت في مراحل شعر فيها بأن هناك تشكيكاً في قوّته أو بأن بعض أمراء الحرب من أنصاره قد يحاولون الاستقواء عليه باستغلال نقمة الموالين على الأسد وعائلته. وإذا افترضنا أن طبيعة النظام اتّضحت فيمكن القياس عليها لتحديد إمكان/ أو بالأحرى عدم إمكان الرهان عليه بالنسبة الى أي «حل سياسي» أيّاً تكن صيغته، وللفصل في أهليّته أو عدم أهليّته لتفاوض جدّي وهادف، فهو يرفض أي حلٍّ لا يكرّس سلطته. ففي بداية الأزمة لم يكن النظام في حاجة إلى تشجيع إيراني كي يتوحّش ضد شعبه، إذ كان شبّيحته مدرّبين وجاهزين ومستنفرين، وبعد ذلك شكّل الدعم الإيراني ثم الروسي إضافتين منفلتتين تزكّيان توحّشه وتعزّزان منطقه بأن الحرب تنتهي بدمار وتهجير شاملين وحسم عسكري كامل.
كانت ميوعة الإدارة الأميركية السابقة زادت النظام رسوخاً في اقتناعه هذا، وأتاحت له وللإيرانيين استغلال غموض التنسيق الأميركي – الروسي وعقمه للدفع بالإجهاز على حلب، مثلما يحاولون الآن استغلال اللاتنسيق بل التوتر بين موسكو وواشنطن سواء بإحراق ريف حماة أو بالتمهيد المتسارع لإشعال معركة إدلب. وعندما التقى وزراء خارجية روسيا وإيران ونظام دمشق، بعد القصف الأميركي مطارَ الشعيرات، كان كلٌّ منهم يكتم مرارة خاصة لا يعبّر عنها أمام الآخرين، بعدما استشعر الحدث في شكل يثير التلاوم بينهم، إذ إن الصفعة الأميركية كشفتهم جميعاً وينبغي الردّ عليها، على رغم أنها لم تغيّر شيئاً في أوضاعهم الميدانية إلا أنهم اكتفوا بالتطمين الروسي الذي يؤكد أن الضربة لن تتكرّر، علماً أن الجانب الأميركي أوضح أنها لن تتكرّر إذا لم يتكرّر ما دفع إليها، أي ظهور السلاح الكيماوي، ومع أنه هدّد أيضاً بردعٍ للبراميل المتفجّرة إلا أنه لا يبدو متعجّلاً في شأنه.
قد تكون الضربة الأميركية ثبّتت معطيات عدة: 1) حاجة موسكو إلى مقاربة جديدة لدورها في سورية، فكلّما تمكّنت من توجيه الأزمة إلى حل تفاوضي جدّي، شجعت واشنطن على التعاون معها بعيداً من أي مساومات. 2) تصميم أميركا على أن يكون لها وجود على الأرض شمالاً وجنوباً، بما يعنيه من تحدٍّ لإيران وللنظام. 3) تأكيد أميركي أن «عائلة الأسد» لن تكون مقبولة في أي معادلة مقبلة، وفي ذلك مخاطبة للحلفاء والموالين، خصوصاً المعارضين والدول الداعمة لهم. 4) صعوبة تعاون الروس والأميركيين ما لم يتوصلوا إلى توافق على تحجيم النفوذ الإيراني باعتباره شرطاً لازماً وضرورياً لأي حل في سورية.
أكثر من كرة في ملعب روسيا، فهي لا تخشى تدخّلاً عسكرياً أميركياً لتغيير النظام، لكنها بمواجهة سياسة أميركية لم تعد تغطي دورها في سورية كما في السابق. ثم إنها تعتمد على حليفَين، الأسد وإيران، منبوذَين دولياً ولا يريدان للصراع السوري أن ينتهي ما لم يضمنا مصالح غير قابلة للتحقق على المدى الطويل. وعلى رغم التنسيق الواسع الذي أقامته روسيا مع إسرائيل إلا أن مواجهة «الخطر الإيراني» تجتذب إسرائيل أكثر نحو أميركا، خصوصاً أن التطوّرات في جنوب سورية تشير إلى أن إيران لم تتخلّ عن إشعال جبهة الجولان. وهذا الهدف الاستراتيجي هو ما دفع إيران إلى السكوت عن سلسلة من الاستهدافات سواء بغارات إسرائيلية على مواقع وقوافل لـ «حزب الله» أو باغتيالات لضباطه أو بتفجيرات غامضة كتلك التي استهدفت الحجّاج العراقيين في دمشق، ثم المهجّرين قسراً وبإصرار إيراني من الفوعة وكفريا.
نقلا عن الحياة