قال لي صاحبي و هو يحاورني..عليك أن تنزع ثوب التشاؤم الذي ترتديه ، فمنذ سنوات عديدة و أنت تتحدث عن العراق و لم أسمع منك تعليقا واحدا متفائلا و المطلوب منك اليوم أن تتوكل على الله أكثر…!!
قلت لصاحبي المتفائل ..علينا أن نرى المسائل بأحجامها الطبيعية و أن نحسن تقدير العواقب فليست الحكاية تفاؤلا أو تشاؤما بقدر ما هي السعي لقراءة الموقف بصورة سليمة …ولا اعتقد أن من حسن التوكل على الله أن يهمل المرء الأخطار التي تحدق بوطنه و أن يتغافل عنها..
منذ عقدين من الزمان و أنا أتمنى أن تكذب الأحداث توقعاتي…و أن تخيب ظني ( المتشائم..) لكنها مع الأسف لم تفعل ..و اليوم كم أتمنى أن تسير الأحداث بصورة تخالف ما يدور في ذهني من توقعات هي أقرب إلى الكوابيس..!!
البدايات التي نشاهدها اليوم باتت معروفة النهايات ..و المسارات التي يحث العراق الخطوات عليها واضحة الخواتيم..ما لم يتداركنا المولى برحمته..التصعيد في الخطاب لدى إطراف النزاع الداخلي..و الدخول الإقليمي الواسع على الخط العراقي..و ربط الحدث في بلادنا مع ما يدور في المنطقة و خاصة في سوريا ..ينبئ بما ستسير نحوه الأمور في وطننا إذا لم يتدارك العقلاء و المخلصين الأمر و هؤلاء مع الأسف باتوا في وضع لا يحسدون عليه.. أقل القليل هو الذي يصغي إليهم .. و أصواتهم خافتة وسط حشرجات الطائفية المتعالية و قعقعات السلاح و المواجهة التي يلوح بها البعض ..صيحات ( وين يروح المطلوب إلنة) و ( أخبطها و أشرب صافيها ) صارت هي الإستراتيجيات المعتمدة لحل المشكلة القائمة.
من حقنا أن نضع أيدينا على قلوبنا ..و نحن نرى شعبنا يسير نحو ( المحرقة)..و أمتنا تهرول نحو ( الهاوية ) … أنه ( الإنتحار) بعينه ليس إلا ..و الأمر الذي يدفع إلى الحزن هو تلك ( الغفلة) التي تطبع تفكير الساسة و قطاعات واسعة من الرأي العام الذي يبدون جاهلين أو متجاهلين للنتائج الكارثية التي ستنجم عن إندلاع الحريق و كأنهم لم يشاهدوا ما يحدث في سوريا اليوم ،و ما ابتليت به أمم كثيرة أصابتها لعنة الإنقسام و التشرذم ..أمم حل عليها غضب الله ..خسرت ابنائها و ثرواتها و خسرت مستقبلها و صار قادتها و زعمائها ( مجرد بيادق) في لعبة تدار لصالح دول خارجية..و هؤلاء القادة الذين تمتلئ حساباتهم بالمال الحرام بقدر ما تمتلئ المقابر بالجثث و ترتفع ارصدتهم مع إرتفاع رصيد الدم و المعاناة.
صوت الجهالة في وطننا لا زال هو الأعلى ..و الإستسلام لأحقاد التاريخ و مرارات الماضي هو الذي يهيمن على النفوس ..و كل طرف يستخرج من الكتب الصفراء نبواءته التي تقول أن ساعة الفرج قد أزفت ..و أن قيامة الخصم باتت قاب قوسين أو أدنى ، الكل يتحدث عن ( كسر الإرادات) ولا أحد يجهد نفسه من أجل ( توافق الإرادات).. الكل يطمح للنصر و سحق الخصم و نظرة واحدة إلى أساسيات الصراع و القوى المنخرطة فيه و حسابات التاريخ و الجغرافيا تجعلنا نستنتج بأن معركة كهذه ستطول..و تطول ..و أن زادها و وقودها سيكون عشرات و مئات الآلاف و خسارة المستقبل بالكامل..نحن نقترب من ( داحس و غبراء) العراقيين حيث يفنى القوم بعضهم البعض و حيث القتيل و الضحية هو أخ شقيق و أبن عم.
غدا..أو بعد الغد ..بعد سنة أو عشر سنوات من الصراع..بعد أن يتسع بحر الدم و يصعد جبل الجماجم .. و تسعى بعض القوى التي تدير الصراع إلى غسل أيديها من الدماء العراقية..سيعقد مؤتمر للصلح و للتسوية و توضع ترتيبات لحلول و تقسيم مناطق النفوذ..و إذا كان الأمر هكذا فلماذا لا نوفر هذه الدماء..و تلك الأموال..و يجلس العراقيون منذ الآن ليحلوا مشكلتهم بأيديهم و يبعدوا التأثيرات الخارجية عن رسم ملامح مستقبلهم.
بغداد العزيزة التي لم تشف من جروحها بعد..و التي أنشب الجهل و الفساد و الاحتلال أظافره في وجهها ستكون ( بؤرة صراع قادم) لا محالة..هكذا يراد لها ..سيقتتل فيها التاريخ و الجغرافية..و تتنازع هوية الأمس مع هوية اليوم .. هناك ستكون( ذروة المأساة) بحق.
الدستور ..العملية السياسية ..رمزيتها و احترامها تأتي من قدرتها على تأسيس وضع مستقر و حالة راسخة يشعر فيها الجميع بالكرامة و العدالة و الثقة بالمستقبل..أما إذا لم يتحقق ذلك فلا رمزية ولا قدسية لها ..و هي بالقطع ليست نصوصا مقدسة لا يجوز المساس بها أو الإقتراب منها ..و هي أيضا ليست ( فرصة) إقتنصها البعض بالأمس في ظل ظروف معينة لا يجوز التفريط بها ..أنها حالة تعاقدية بين أبناء الوطن الواحد تنشأ بأرادتهم و تلغى أو تعدل بأرادتهم كذلك ..الدستور..و العملية السياسية ..ليست بالقطع أثمن من دماء العراقيين ..ولا أغلى من وحدة وطنهم و تماسك مجتمعهم..ولا ينبغي أن تتحول ( طوطما ) يتعبد له الفاشلون..
في العراق ( حقائق كبرى ) ..هي كملامح الوجه و لون البشرة ..هذه ( الحقائق) اما أن تتعايش ..أو أن تصطرع ..أنها حقائق التاريخ و الحضارة و الهوية و الثقافة منذ أن ظهرت كلمة العراق في ( القواميس)..الحقيقة الشيعية و الحقيقة السنية و الحقيقة العربية و الحقيقة الكردية و الحقيقة الوطنية العراقية ..كلها راسخة الجذور عميقة التأثير ..أنها ملامح الوجه التي يصعب تبديلها ..و لون الجلد الذي يستحيل تغييره ..هذه الحقائق قد تصبح في حالة ( إنزواء) في ظل ظروف معينة و لكنها تبقى في حالة ( كمون) لا تلبث أن تبرز و تعبر عن نفسها بصور و صيغ متجددة ..هذه الحقائق لا مفر لها من التعايش ..و التكامل ..و الإتساق في الإطار الوطني العراقي..و حذار من التوهم بأمكانية شطبها أو تحجيمها.. حذار من الضغط على الحقائق الكبرى …لأن مثل هذا السلوك ليس له سوى نتيجة واحدة ..الصراع المدمر أو الإضطراب الموجع.
ظاهرة خطيرة بتنا نواجهها اليوم …فالحرب الأهلية و التقسيم .. صار لها منظرون و دعاة يتحدثون عن دول و كيانات ستنبثق من بين ركام العراق المدمر و على انقاضه دول تحمل العدل و الرخاء لأهلها و تنهي هذا الشقاق و النفاق في أرض العراق..ولا يدري هؤلاء أن هذه الدول التي يحلمون بها لن تكون سوى ( محميات ) لدول الجوار و أن حاكمها لن يعدوا أن يكون ( سركال) أو ( باش كاتب) لتلك الدول في أحسن الفروض .
هذه الكيانات الهزيلة الموعودة لن تتجاوز حالة ( جمهورية أرض الصومال ) ..أو ( دولة جنوب السودان) حيث الفقر و الجرب و التخلف …نفط و خيرات هذه الجمهوريات الإفتراضية سيصبح مرهونا ( للدول الراعية و الحامية) ..و هذه الكيانات الممسوخة لن تكون سوى مرتع للجهلة و الأميين… المشعوذين و المتعصبين ..أصحاب الثقافة المتخلفة من ذوو الوجوه الصفراء و العقول الخاوية الذين لا يملكون سوى معادلة أو معادلتين يفسرون كل حوادث الكون و تفاعلاته بها ..هؤلاء ممن حرموا نعمة الثقافة و التحضر و استداروا نحو الماضي ينهلون من احقاده و يمضغون سمومه صباح مساء ..شطبوا مفردة ( المستقبل) من قواسهم و أسقطوا حساباته من عقولهم …و هم على هذه الضفة أو تلك ..لا فرق .. و الأمر سيان.
الزمن استدار دورته ..و التاريخ يكرر نفسه ..نحن اليوم بأنتظار دولة ( الخروف الأسود ) و ( دولة الخروف الأبيض) و أدعو العراقيين لقراءة تاريخ تلك الحقبة المظلمة ليستنتجوا الكثير من الدروس..و ليعلموا أية هوة سحيقة أنحدر إليها العراق آنذاك ..فهل نسلم مصيرنا لامراء الظلام ..سواء أكانوا من أتباع دولة الخروف الأبيض أم أتباع دولة الخروف الأسود..؟؟
* وزير التخطيط السابق
[email protected]