18 ديسمبر، 2024 11:06 م

الوقت عصراً وكان يستمتع بالجلوس مع صديق قديم على الرصيف مقابل المقهى في وسط القرية. منذ سنوات لم يلتقيا لأن زيارات الصديق كانت عابرة ولا تتقاطع مع تواجده في القرية بسبب انشغاله في وظيفته في المدينة، ولكن التقاطع كان مضموناً هذه السنة بعد أن فرضت عليه سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية في القرية. الصديق القادم في زيارة صيفية من مكان عملهش في الخليج يحدثه عن ظروف عمله، ويتنقل في أحاديثه بين هموم الحياة هناك والشوق إلى الحياة في الوطن واستعداده للعودة والاستقرار إن وجد وظيفة يعتاش منها، ثم يتراجع فجأة مبرراً ذلك بأن زوجته وأطفاله تعودوا على الحياة هناك وربما لن يستطيعوا التأقلم مع حياة القرية. الحديث عن الخوف من عدم تأقلم أطفال صديقه مع الحياة في القرية فتح لهما حديث الذكريات عن طفولتهما، كما يحدث في كل حديث مع صديق من أصدقاء الطفولة والشباب، تدور أحاديث الذكريات وكأنها شريط تسجيل تم إيقافه وما زال في انتظار أن يضغط أحد ما زر التشغيل لينتقل من التوقف إلى الدوران. يدور الشريط بأصواتهما عن اللعب في الحارات، ويوم كانا يلعبان “البنانير” ثم لمحا المعلم فهربا حتى لا يراهما وينالا العقاب في اليوم التالي، فيتنهد صاحبه مترحماً على تلك الأيام ويقارنها بهذه الأيام التي أصبح المعلم فيها دون الهيبة التي كان يتمتع بها في تلك الأيام، فيعارضه بأن تلك لم تكن هيبة وأن التربية بحاجة إلى أساليب أخرى، وأن تلك الشدة لم تكن في محلها. انتقلا للحديث عن بعض الأسماء، عن فلان الذي كان بسيطاً وغير متميز في المدرسة وكيف صار الآن زعيماً ونسي القرية وأهلها، وعن علان الذي ما زال أصيلاً ولا ينسى تلك الأيام ويتواصل معه دائماً، وعن المشاجرات التي كانت تندلع بين أطفال الحارات المختلفة، وتذكرا بعض الأسماء وأين أصبحوا، ومن بينهم الصديق الذي كان يتزعم شلة الحارة الأخرى وأصبح موظفاً في مكتب البريد.

قال له صديقه: جبنا سيرة القط أجا ينط. استدار ليراه مقبلاً باتجاههما وبيده ورقة. قال لصديقه: صحيح القط أجا ينط، ولكن ليس نطة خير، توقع ما الذي يحمله بيده.

وصلهما موظف البريد وحيّاهما، وصافح صديقه الزائر من الخليج وأخذه بالأحضان، ثم واجهه وسلمه الورقة التي يحمل مبتسماً ابتسامته المعتذرة التي اعتاد أن تكون مقدمة للجملة التي يرددها كلما سلمه ورقة من هذا النوع، استدعاء من الحكم العسكري لمقابلة في غرفة رقم كذا في مقر الحاكم العسكري. انتظر الجملة التي سيقولها الموظف، ولكن الأخير لم يقل شيئاً هذه المرة، منقذاً نفسه من ترداد جملته المعهودة بالانشغال بالمجاملات مع الصديق العائد من الخليج. استفزه ممازحاً “مالك ساكت، ما كمّلت اللازمة المرافقة لتسليم الورقة؟”، أجابه “صدقني، أتألم وأنا أسلم هذه الأوراق، شو بقدر أعمل؟”. أجابه مخففاً من شعوره بالذنب “ولا يهمك، تعودنا، راح ييجي يوم نرمي هذه الطلبات في سلة المهملات وليعملوا ما يريدون”.

أخذ الورقة ودسها في جيبه دون أن ينظر إلى تفاصيلها، فهو يحفظها عن ظهر قلب. صورة عن نموذج مطبوع بالعبرية وبفراغات يملؤونها بخط عربي ركيك في مكان الاسم والساعة ورقم الغرفة. سأله صديقه لماذا لم يقرأ ما في الورقة، فأجابه بأنه يعرف هذه الاستدعاءات واعتاد عليها، سيتركها للغد، فقط سيكون المختلف رقم الغرفة، أما الساعة فجميعها تكون الساعة الثامنة صباحاً، وضحك “يحبون أن يتصبحوا بنا، والاحتمالات عديدة، سين جيم وتهديد على السريع، أو حجز طول اليوم بدون سين جيم، أو تحويل للاعتقال كم يوم، لنعد إلى حديثنا، أين وصلنا؟”. ضحك صديقه “وصلنا ذكر القط أجا ينط”.

***

نزل من السيارة في موقف المواصلات العامة في وسط المدينة، شم رائحة فلافل طازجة من مطعم قريب، كانت رائحتها ومنظرها في المقلى الكبير مغرية جداً. قرر أن يتناول رغيف ساندويش فلافل على الرغم من أنه قد تناول فطوره، وأن يعمل ذلك باستمتاع وعلى مهله، فالوقت المكتوب على الورقة ليس مقدساً، وكذلك قد يمارسون معه الأسلوب المقيت بإبقائه حتى الغروب لمجرد الإزعاج والتنكيد عليه، فتكون هذه الوجبة الإضافية احتياطاً لصيام إجباري. طلب مزيد من أقراص الفلافل في الرغيف وعدم إضافة شيء سوى الملح وقليل من الشطة، فطعم الفلافل الساخنة يجب ألاّ تفسده أية إضافات أخرى. طلب فنجان شاي ليحتسيه أيضاً. انتهى من تناول الساندويشة واحتساء الشاي ومضى نحو مقر الحكم العسكري.

أظهر طلب الاستدعاء للجندي الواقف على البوابة الرئيسية فسمح له بالدخول.

وصل البناية ودخل ليجد قاعة الانتظار ممتلئة، توجه إلى الغرفة المذكورة في الطلب، قدم الورقة للعسكري الجالس خلف المكتب فتناولها هذا ووضعها على طاولة جانبية، وطلب منه بطاقة الهوية واحتجزها عنده، وطلب منه النزول إلى قاعة الانتظار ريثما يتم المناداة عليه.

الجو المألوف، المنتظرون أغلبيتهم من الشباب، المقعدان الخشبيان الطويلان لا يتسعان للعدد الموجود، على مقعد منهما جلس رجل أشيب وبجانبه صبيتان. على المقعد الثاني جلس بعض الشباب، بينما توزع بقية الشباب بين واقفين وجالسين على الأرض. حاول أحد الشباب الجالسين أن يعطيه مكانه بعد أن عرفه بنفسه، شكره وفضّل الوقوف والحديث مع أحد الشباب الذين عرفهم في اعتقالات سابقة.

بعد ساعتين ناداه جندي، دخل المكتب فطلب منه العسكري أن يدخل إلى باب داخلي.

 

قال له الضابط الكبير، كما تبين الرتب على كتفه، الجالس وراء المكتب: هل تعرف من أنا؟

هز رأسه نافياً المعرفة مع علمه أن الجالس وراء المكتب هو الحاكم العسكري للواء.

أسرع الضابط: أنا الحاكم العسكري، هل تعرف لماذا طلبتك؟

أجاب: ربما بخصوص طلب الحصول على تصريح للسفر إلى الخارج الذي قدّمته قبل فترة.

أسرع الضابط: لا، هذا شغل المخابرات، أنت تكتب في الجرائد وتزعجنا، نريد منك ألّا تكتب وإلاّ…..، ماذا تقول؟ أريد منك جواباً الآن.

فكّر بالأمر قليلاً.

“لا أستطيع أن أعطيك جواباً الآن، ربما أشعر بالخوف الآن وأقول نعم سأتوقف وتعود إليّ شجاعتي فأعود إلى النشر، أو ربما أقول لن أتوقف، سأنشر، وأشعر بالخوف بعد ذلك فأتوقف، أقول لك راقب الصحافة”.

لم يعلق، أعاد تحذيره، وصرفه. ناوله العسكري في الغرفة المجاورة بطاقة الهوية، ضحك في سره، إذن لن يضيع اليوم في غرفة الانتظار كما في المرة السابقة.

ما أن أصبح خارج مبنى الحكم العسكري حتى نضجت قصيدة كانت ولادتها مستعصية منذ فترة ليست قصيرة، بقيت سطورها الأولى تتردد في ذاكرته دون أن تفضي إلى اكتمال، حتى حفظ تلك السطور من تكرار المحاولات. مرّ على مكتبة في طريقه، اشترى ماعوناً من الأوراق المسطرة وقلم حبر، وتوجه إلى مقهى قريب، طلب فنجان قهوة، وبدأ يرتشف رشفات قصيرة من القهوة ويكتب، تدفقت الكلمات كمياه محجوزة بحجر في وسط قناة. أنجز كتابة القصيدة، راجعها، لم يجد غير كلمة واحدة تربك الانسياب الشعري فيها، شطبها واهتدى للبديل سريعاً. توجه إلى صديقه مراسل الصحيفة الذي يرسل من خلاله المواد التي يكتبها إلى الصحافة، سلمه القصيدة وطلب منه أن يرسلها بالفاكس إلى الصفحة الأدبية الأسبوعية للجريدة التي يراسلها. شكر دعوة صديقه الصحفي للجلوس وخرج يتلمس آثار القيود على معصميه.