إضاءة أولى :
هذا الإهداء ” التجريبي ” ، هو لأيام متناثرة من حياتي ، التي قفزت الآن فوق خيمة الخمسين ، بسنة . أيام وليال ، إستعدتها بصورة عشوائية ، غير محكومة بتسلسل زماني أو مكاني . إنثيالات قوية ، فيها لذائذ وسعادات وبهجات – ربما بسبب من هطيل وتراكم السنوات فوقها – وفيها كذلك ، أوجاع ومناحات ، قد تصل حدّ الأحزان المولودة ، عن موت سبع أمّهات . أكل هذا النص المفتتح مني ، قعدة واحدة ، نامت على عشر ساعات . نبتُّ فوق كرسيّي الراسخ ، من أول المساء ، حتى مطلع شمس الصبحية المبروكة . على يميني ، كأس عرق ، تتطهر وتتمطّق كل ساعة ، وفي شمالي ، إنزرع كوب قهوة ، جدُّ كبير ، يكفي لإرضاء واحد ، كان أُصيب قبل قليل ، بأربع طلقات ، وتوثيّة ، برأسها ، صمّ قير . لم تكن بي رغبة كي أسكر حدّ الثمالة ، من أجل سواد عيون نصّ جميل . أنا أؤمن ، بأن الكتابة ، تستدعي أعلى ذروات الصحو ، وأكاد أتقيّأ ، عندما يخبرني صاحبي الوغد ، بأن ليس بمستطاعه كتابة قصيدة ، إلا بعد أن يسكر – كان أخبرني من قبل ، إنه يمتص الحانة ، ولا يسكر – أظنني – في مكتوب فائت – قد ذهبت مذهب ، أن كأس الخمرة البيضاء الصهباء ، قد تشعل رأس الفكرة ، لكنها لا تبني ولا تؤثث ولا ترقّع ، ثقوب وفتوق النص . ربما فاتتني بعض الأيام والصور ، الجديرة بالإشارة وبالتضمين وبالتمليح . هذا يحدث بسبب النسيان ، أو تدافع الصور والمرائي ، داخل بيت الدماغ ، كما لو أنها رفسات ثور هائج . شوفوا الآن ، هذا الإهداء المبعثر ، مثل مدافن عشوائية ، تنام ببطونها ، جثامين الفقراء ، والله المستعان على ما تقرأون :
إلى :
أول فرجة على بنت الجيران سعدية ، من فوق سطح الدار . سعدية تحضن طشت الغسيل بفخذيها البيضاوين البضّين ، ومع كل عصرة مغسول ، تتناثر رغوة الصابون على الفخذين ، فيهتاج السيف ، ويصنع ثقباَ افتراضياَ على خاصرة حائط الستر !!
إلى :
أول دخلة سينما . كرسي رخيص يكاد يلتصق بدكة الشاشة . كلما قربت الكراسي من حافة الشاشة ، كلما رخص سعرها . كنا نجلس هناك ، غير خائفين ، من رصاصة تائهة ، أطلقها ترانس هيل أو بود سبنسر ، صوب حشد رعاع !!
إلى :
أول ربع صمّونة طامسة في شيشة عمبة ، من عربانة عبد الله ، المزروعة بباب مدرسة ابن جبير الأبتدائية !!
إلى :
أول سفرة مدرسية . ألصف الثالث الابتدائي . ملوية مدينة سامراء . تناهى الى مسمع مدير المدرسة ، أن التلميذ المشاكس طالب ، قد وصل الى اللفة الرابعة من مئذنة الملوية ، ثم هبط الى الأرض راكضاً ضاحكاً مزهواً بشجاعته . كان مدير المدرسة ينطر الفتى على الأرض ، ولما صار بين يديه ، أشبعه راشديات وجلاليق ولكمات وتفلات . كنا نسوّر المشهد وواحدنا يكاد يبلل بنطاله . منذ تلك الواقعة ، لم يتوفق التلميذ النجيب طالب ، في أجتياز درس التأريخ ، خاصة في جزئه العباسي !!
إلى :
أول قبلة من فم معسول ، هدّمت مفهوم ” ألجنس ” في مخيالي البكر !!
إلى :
أول هدف سجلته بمرمى الند ، بوساطة كرة معمولة من جورب عتيق ، محشو بخرق وحضائن فائضة :
إلى :
أول عيدية عيد ، مقدارها ، صعدة بدولاب الهواء ومرجوحة ، وقطعة زلابية محروسة بذبابات الفرح !!
إلى :
أول ” دار ” مستلة من كتاب ” القراءة الخلدونية ” توفقت في رسم حروفها الجميلة فوق سبّورة سوداء . تمسيدة على الرأس من معلم القراءة ، وزخة تصفيق !!
إلى :
أول جثة صرفت عليها نصف دمع العمر . أبي كان ممدداَ فوق دكة مغسل . ألعائلة تبكي وتلطم ، والغسّال الماهر ، يؤدي عمله بوجه مصحوب بنصف ابتسامة !!
إلى :
أول ” عكسيّة ” زرعها المصارع المبهر عدنان القيسي ، فوق ظهر الأسكتلندي الضخم كوريانكو . وقعت الواقعة في مفتتح سبعينيات القرن البائد . المكان : ملعب الشعب الدولي – وفق ذاكرتي الآن – !!
إلى :
أول قندرة محترمة من مصنع ” باتا ” المشهور !!
إلى :
أول محاولة ناجحة لشدّ قيطان القندرة !!
إلى :
أول حانة دخلتها . حانة عشتار ، بصف سينما بابل ، ببغداد . بيميني باكيت سكائر من صنف رائج اسمه ” روثمان ” . ألبيع بالمفرد ، والسكارى كرماء . ثم العودة الى عربانة أبي مع جيب ، تخرخش فيه ، ” خردة ” الغزوة المبروكة ، والبقشيش !!
إلى :
أول فلم سينمائي بالأبيض والأسود ، ترك حسرة عملاقة في قلبي . فلم مصري عنوانه ” نحن لا نزرع الشوك ” وقد انعرض من على شاشة سينما بابل ، أول سبعينيات الدهر الفائت . أيامها ولياليها ، فشلت مسالك ومجاري مياه شارع السعدون ببغداد ، في تصريف دموع الناس ، التي كانت تبكي على مناحة المطربة المدهشة ، شادية وهي تغني وتتناوح ” والله يا زمن ، وألله يا زمن ” !!
إلى :
أول كأس عرق ، زعت بسببه ، كل مفردات معدتي ، وبعض هيبتي !!
إلى :
أول رسالة حب ، تركت فوق عيني اليمنى ، كدمة زرقاء تهلهل بشماتة !!
إلى :
أول وقوف متقنفذ ، لشعر الرأس ، بسبب عوية مباغتة ، من كلب أسود اسمه المنغّل ” لاسي ” بزقاق معتم . كلب ابن سطعش كلب ، عاقبته العناية الإلهية ، بقطعة لحم مسمومة ، نزلت اليه ، من يمين موظف حكومة أجهم ، لا يقطع وجهه سيف !!
إلى :
أول خمس قطط بعتها للحكومة بنصف دينار ، خلال الحملة الوطنية الشاملة للقضاء على تلك المخلوقات المسالمة الوديعة – سبعينيات أيضاَ – !!
إلى :
أول صورة بالأبيض والأسود . في حديقة الأمة برصافة بغداد . قميص جوزي وياقة بطول أذن فيل هندي كسول ، ومن تحت ، بجامة مقلّمة ، ونعال أبو إصبع ، طال عمره ، بدنبوس شيلة . أما الخلفية ، فكانت جدارية خشبية ضخمة للعندليب الأسمرعبد الحليم حافظ . ظلّ حليم الرائع ، يرن في رأسي حدّ الآن !!
إلى :
أول رواية قرأتها عشر مرات . ” في بيتنا رجل ” لأحسان عبد القدوس . صارت الرواية فلماً سينمائياً من بطولة عمر الشريف ، وأم العيون الزرق ، زبيدة ثروت . ألآن ، كلما أعادت شاشة ما ، عرضه ، أشاهده بنفس اللهفة والتوجع والحماسة !!
إلى :
أول محاولة لمسك رأس مال خاص وسمين . دكان فلافل وعمبة ، بحجم زنزانة ، ينولد من بناء ” جامع المدلل ” في منطقة العطيفية الأولى بكرخ بغداد العباسية . كنت إستأجرت الدكان من رجل اسمه أحمد ، وتسميه الناس الضحّاكة هناك : أحمد ريكا بطل أمريكا . بعد سنة ، فشل الدكان ، بسبب سكرات سعد عجيمي !!
إلى :
أول مساهمة في حملة ” تبرع من أجل فلسطين الحبيبة ” . باكيت تايت ، وصابونة رقّي ، وشيشة معجون طماطة ، وأنشودة وطنية !!
إلى :
أول فائدة من فعالية ” معونة الشتاء ” في مدرسة ابن جبير الأبتدائية . قمصلة وبنطرون وقندرة نايلون تجعل رائحة القدم ، مثل مشمّة تسع فطائس ، وقميص أزرق بمقاس جسم أخي الأكبر !!
إلى :
أول زيان رأس معضعض . كنت جندياً كسولاً في منطقة الأثل بالبصرة . لم أستجب لصفارة رئيس عرفاء الوحدة . بقيت نائماً متمارضاً . قدموني الى آمر الوحدة ، منزوع النطاق ” المحزم الغليظ ” ، ومنه الى سجن الجينكو ، القريب من مرحاض الجند . حلاقة رأس من درجة صفر ، وإنصات منتظم لبولات الصحب ، وظرطاتهم المهينة ، ونهوض صباحي ، لشطف المرحاض ومقترباته !!
إلى :
أول تكليف بصبحية رفعة العلم وتحيته . تقدمت نحو السارية العالية . فككت الحبل وسحبته بقوة ، كي يرتفع العلم ، بالتقسيط المريح . حدث عطب تقني ، سببه سوء الحظ فقط . إلتفّ الحبل كما أفعى أم رأسين ، على وسط العلم . أعدت المحاولة ففشلت . تقدم صوبي مرشد ومعلم الصف العصبي ، استاد رزاق ، وعاونني على فك اشتباك الحبل بالعلم المقدس ، فنجح . سعدت بالأمر ، ونويت إكمال الجزء المتبقي من الفعالية ، الذي هو أداء التحية ، للعلم العالي الغالي المرفرف ، وقراءة :
عش هكذا في علوّ أيها العلمُ … فأننا بك بعد الله نعتصمُ .
رفض المعلّم الغاضب ، أن أكمل الأمر . نهرني بهمس قائلاَ : عد الى الإصطفاف يا غبي يا أثول . عمتْ عينك وموت الكرفك ، وشوف اشراح أسوي بيك اليوم !!
إلى :
طعم أول نشر خاطرة سخيفة ، في زاوية مظلمة من مجلة مشهورة !!
إلى :
أول عصا شتائية موجعة على قفا الكف . كانت عصا معلم الحساب . لم أعد أذكر السبب ، لكنني أحدس الليلة ، أنه وقع على خلفية ضربي الرقم ثلاثة ، بالرقم ستة ، وكان الناتج صبحيتها الباردة، أربعطعش – قد أثبتُ هذا لاحقاً – !!
إلى :
أول تظاهرة عفوية أساهم في زيادة حشدها كعازف منفرد . كنت أركض خلف أخي الأكبر . أخي كان شيوعياً قحّاً . ثمة هتافات تتردد ، لم أفهم نصوصها ومغازيها ، لكنني كنت ألوّح بيميني المنتشية بقوة . كانت ليلة تأميم نفط بلاد الرافدين ، بصوت الرئيس أحمد حسن البكر – سبعينيات حلوة –
إلى :
أول تطريب ووجد خاشع . سورة يوسف ، مجوّدة بصوت عبد الباسط محمد عبد الصمد – وإني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون – . حزن كاسر على يوسف وأبيه ، ورائحة الدم الكذب المرشوش فوق قميص يقين ، كان قُدّ من دبر ، حتى حصحص الحق بباب الغرفة ، وبانت البائنة !!
إلى :
أول حرشة بالغة . عرس شعبيّ بمدينة الثورة . صوت المغني المجيد مثل صوت سلمان المنكوب . ثمة راقصة مذهلة ، هيّجت الجمهور ، وعاونت العريس الغض ، على سفك دم البكارة ، في أول عشر ثوان ، من ليلة الدخلة العظيمة . كان بالمقدور ، ملاحظة الساقية المميتة النازلة بين ثدييها . تركتْ الراقصة الرعّاشة ، الحشد كله ، وقامت برمي وشاحها الأحمر اللماع ، صوب وجهي الملتهب . سعدتُ بهذا الإنتقاء المبهج الذي سيرفع رأسي بين صحبي الحاسدين ، لكنني فشلت في فك الشفرة . لم تكن الراقصة إمرأة . كانت رجلاً مخنثاً يسمّونه ” زبيري ” !!
إلى :
أول فهم لمعنى الطير الشارد من محبسه ، المرسوم أسفل جدارية فائق حسن – بوابة حديقة الأمّة ، من جهة ساحة الطيران – !!
إلى :
أول فهم ، لمعنى المرأة السعيدة المنحوتة على نصب الحرية لجواد سليم – بوابة حديقة الأمة من وجه جسر الجمهورية – طارت المرأة بقوة الفرح ، ففقدت ساقيها – فقدان إفتراضي – !!
إلى :
أول فراق طويل لبغداد ، والهجيج صوب عمّان . كنت اشتريت من الصديق سمير الخالدي ، صاحب تسجيلات أنغام التراث ، بساحة معروف عبد الغني الرصافي ، شريطاً لقارىء المقام المجيد ، عبد الرحمن خضر ، وهو يؤدي رائعة ابن زريق البغدادي ، المخذول بباب السلطان ، ومنها تلك الآهة :
أستودعُ الله في بغداد لي قمــراً بـالـكــرخ مـن فـلك الأزرار مـطـلـعُـــهُ
ودّعـتــهُ وبــودّي لــو يــوُدّعُـنـي صـفـوُ الـحـيـــاة وإنـــي لا أودّعُــــهُ
كان السفر – سنوات الحصار الأمريكي الهمجي الوحشي – تتم ترتيباته من كراج علاوي الحلة بكرخ بغداد . ركبت سيارة مشهورة اسمها ” جت ” ومن خلف زجاجة حارنة لا تنفتح ، كنت ألوّح للمودعين ، الذين هم عبارة عن نصف العشيرة !!
إلى :
أول تقليد أعمى وفطير وماصخ ، لا يخلو من حمق ورقاعة . ساندويجة شاورما ، صحبة كأس كبيرة من شراب بيرة درافت . كان المطعم بشارع سينما سميراميس ، الذاهب الى شارع أبي نؤاس . عضضت اللفّة عضّة أولى ، وتبعتها بشفطة عظمى من قدح البيرة ، التي أظن أن اسمها كان ” فريدة ” . لم استسغ طعم تلك الخلطة المنفرة . وددت وقتها ، لو أن الشيطان ، يهبط في كأسي ، فيشرب بقيا ماء الشعير المر . كان المطعم مكتظاً بزبائن الظهيرة . ربما شعر النادل المخلوق وجهه ، من رحمة ونور ، بورطتي التي رحت اليها برجلي . تجرعت الأمر ، خوفاَ من إزدراء الناظرين ، وحيث صرت على مبعدة ضحكة من باب المطعم ، كان عليّ أن أزرع رأسي في سطل زبالة بائتة !!
إلى :
أول طردة من دار أبي العتيقة . ذهبت الى الملاذ الممكن ، لولد غضّ : بيت خالي . خالي طيب ورحيم وكريم وضحّاك ، ومن المؤمنين بعقيدة أنّ ” ثلثين الولد على الخال ” . مكثت هناك عشرة أيام . لخالي ، إبنة جميلة إسمها ايمان . إيمان الآن ، هي زوجتي العزيزة منذ ربع قرن !!
إلى :
أول حضنة في صدر أمي المبخرة ، بعد أن جرفتني الحشود المطوفة حول مرقد رجل صالح . كنت أصرخ بقوة كتيبة من أطفال تائهين ، وكانت يدي الغضّة ، تتعرّق بيمين رجل من أهل الله ، ما انفك ينادي : رحم الله والديه من يدلّ هذا الطفل المسكين على أمّه !!
إلى بلادي التي جارت عليًّ ، ثم أبكتني على ظهر منحوتة مذهلة من عبد الرزاق عبد الواحد ، مستلة قدحتها ، من مسموع شعبيّ يفيد ، أنّ مخرزاً قد نُسي تحت حمل جمل بضاعة : ليلتها ، تصوّف أبو خالد ، وتدروش ، وناح – وناحت معه الناس – :
قالوا وظلَّ ، ولم تشعر به الإبلُ
يمشي، وحاديهِ يحدو ، وهو يحتملُ
ومخرزُ الموتِ في جنبيه ينشتلُ
حتى أناخ َ ببابِ الدار إذ وصلوا
وعندما أبصروا فيضَ الدما جَفلوا
صبرَ العراق صبورٌ أنت يا جملُ
إلى :
أول فلم روسي عشقته – من أيام الإتحاد السوفيتي – أسم الفلم كان ” ديرسو أوزالا ” وقد عرض من على شاشة سينما بابل ببغداد – إسبوع الفلم السوفيتي – . كان الجمهور – جلّه – من شيوعيين وشيوعيات حلوات من النوع الذي تغزّل به ، المطرب العظيم سعدي الحلي فقال للحبيب : خدودك شيوعيات . أيضاً ، من زمان الميني جوب والجارلس ، والكعب العالي ، ومشط الخشب . كانت عربانة أبي هناك ، تبيع الثلاثية الطيبة الذائعة : حَب .. سكائر .. علك ، على حافة منتصف السبعينيات الجميلة !!
وإلى :
مقطورة العائلة :
إيمان : معزوفة الصبر الجميل ،
عمر ،
طيف ،
نؤاس ،
علي الثاني ،
علي الأول ، ألذي هو أنا !!
** من مفتتحات كتابي الجديد ” مكاتيب عراقية … من سِفْر الضحك والوجع ” ألمجلد الثالث ، الذي صدر بعمّان عن الدار الأهلية للنشر .
[email protected]