يوم أمس اقترح عليَّ زميلي وصديقي الاستاذ أركان رشيد أن أجيب على فرضية فيما لو قام هو بجمع قادة القوى السياسية الكردية، ماذا يمكن أن أقدم أنا لهم من نصيحة؟ في البداية كانت تلك الفرضية مفاجئة بالنسبة لي، ولكن طلبت منه التفكير في الموضوع، فأحتاج بعض الوقت للتأمل لتقديم أي رأي حول هذا الموضوع. ولكن ظل يراودني المقترح عن ماذا يمكن أن أقدم أي نصيحة للقوى السياسية الكردية في مثل هذه الظروف السياسية والاقتصادية الضاغطة التي يعيشونها في المنطقة ككل وليس في العراق فحسب. فقبل يومين دخلت القوات التركية مدينة عفرين وأنسحبت الأكراد بالآلاف منها أهالي ومقاتلين، كما أن العملية العسكرية التركية سائرة في طريقها للسيطرة على كامل المدن الرئيسية التي تقع تحت سيطرة القوات الكردية في الشمال السوري. كما الوضع الاقتصادي في كردستان العراق ما زال منهكاً وصعباً للطبقات المتوسطة والفقيرة منذ أكثر من عام نتيجة عدم الوصول الى اتفاق لإنهاء الخلافات بين المركز والاقليم. فالاكراد في وضع لا يحسدون عليه في الوقت الحاضر. فما هي النصيحة التي يمكن أن تقدم لهم من أخ مواطن لهم في العراق. يمكن تلخيص رؤيتي ونصائحي حول ثلاثة محاور:
أولاً، أن لا يصبح الأكراد أداة يراد منها تحقيق مكاسب غيرهم.
لقد صاحب تقسيم الإرث العثماني بعد الحرب العالمية الأولى تكوين جميع دول الشرق الأوسط والبلقان. ومع أن الرئيس الأمريكي ولسون كان قد وعد بإنشاء دول قومية لجميع أقليات الامبراطورية العثمانية، إلا أن هذا الأمر لم يشمل أعطاء الأكراد دولة قومية خاصة بهم. فقد تقاسم الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون) أراضي الامبراطورية العثمانية ورسمت الحدود بينهم قبل وعد الرئيس ولسون وكانوا قد بسطوا نفوذهم على منطقة الشرق الأوسط قبل إنتهاء الحرب.
ظل هاجس إقامة دولة قومية للإكراد يرواد القوى السياسية الكردية، فكان هذا الحلم هو الهدف الأعلى لكل حركات الصراع والكفاح المسلح للإكراد في القرن العشرين. وقد استغلت الدول الكبرى الاقليمية منها والدولية هذا الدافع السياسي لدى الأكراد في زعزعة الاستقرار السياسي الهش في الدول حديثة التكوين بعد الحرب العالمية الأولى. فمثلاً ساعد الروس الأكراد بإقامة دولة لهم في مهاباد – ايران في اربعينيات القرن الماضي، ولكنها إنهارت بعدما تخلوا عنهم؛ وإنهار التحرك العسكري الكردي في شمال العراق في منتصف السبعينات عدما أوقفت ايران دعمها العسكري لهم بعد اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام؛ وتخلت الولايات المتحدة عنهم عندما ضرب صدام القرى الكردية في حملة الأنفال واستعمال السلاح الكيماوي ضدهم في حلبجة؛ وتخلت سوريا عن دعم حزب العمال الكردستاني في صراعه ضد تركيا، فجرى إلقاء القبض على الزعيم الكردي أوجلان ونهاية الحركة المسلحة الكردية في تركيا. وهذا غيض من فيض. وها نحن نعيش أيام التخلي التدريجي للدعم الامريكي لقوات الحماية الكردية في شمال سوريا. وقد قالها من قبل سفير امريكا السابق لدى دمشق، مستر فورد عندما سأله الأكراد عن استمرارية الدعم الامريكي لهم، فأجاب بما معناه بأن الولايات المتحدة سوف لن تسفك دماء أبنائها من أجلهم.
العبرة من كل هذه الانتكاسات العسكرية وحركات الاستقلال السياسي الفاشلة هو أن الإعتماد على الآخرين، وخاصة على الدول من خارج المنطقة (حتى وإن كانت دول عظمى) إنما هو وهّمٌ وسراب، وسوف يتخلى عنهم الأعوان حالما يتحقق للطرف الدولي الداعم أغراضه ومصالحه. فمن الأفضل أن يرسم الاكراد استراتيجية جديدة مبنية على التعايش مع شعوب المنطقة. هذه الشعوب باقية، بينما مصالح الدول الكبرى الداعمة لهم هي وقتية وطارئة. والاكراد جزء من منظومة الشعوب التي عاشت في ربوع هذه الأوطان وعلى جبالها وفي وديانها منذ عشرة آلاف عام. فإستراتيجية التعايش وإيجاد القواسم المشتركة بين الشعوب هي استراتيجية افضل من استراتيجية الإنفصال والعزلة والإرتباط بالغير عبر تحالفات غير دائمة.
ثانياً، الاستفادة من التجربة اليهودية
كان قيام اسرائيل كدولة قومية لليهود على أرض فلسطين هي الإنموذج الحي الذي رواد الأكراد وقياداتهم أنه بإمكانية أقامة دولة قومية للأكراد في الشرق الأوسط. فإذا استطاع اليهود المهاجرون من كل بقاع الدنيا من إقامة دولة لهم وهذه الدولة لها ديمومة البقاء اقتصاديا وقوية عسكرياً ومعترف بها دولياً، فمن الأجدر أن يتمكن الأكراد وهم من شعوب هذه المنطقة من أقامة دولتهم على أراضيهم ومدنهم وقراهم، لا أقل ولا أكثر. فإذا كان المجتمع الدولي يعترف بكيان دولة اسرائيل، فمن الطبيعي أن يتمكن الأكراد من الحصول على الاعتراف الدولي بكيان دولتهم، طالما أن هنالك دعم دولي في الوقت الحاضر لتطلعات الأكراد السياسية وحق تقرير المصير الذي يقره القانون الدولي لكل شعوب العالم.
ولكن تجربة إقامة دولة اسرائيل ليست بهذه السهولة، فعلى الرغم من كل الحروب بينها وبين جيرانها العرب، لم تستطع حتى الآن بعد أكثر من سبعة عقود من الزمن من نيلها الاعتراف العلني بها من دول المنطقة. بالنسبة للدول، إن عدم حصول الاعتراف من الدول المجاورة يسبب حالة عدم الاستقرار الأمني والقلق السياسي، ولهذا بقيت دولة اسرائيل بكل امكانياتها العسكرية والدبلوماسية والدعم الدولي لها تعيش العزلة في محيطها الجغرافي. فمثل هذه التجربة قد لا تكون إنموذجاً يحتذى به بالنسبة للأكراد أن ساروا على نفس خريطة الطريق الاسرائيلية هذه، فسيبقى مثل هذا الكيان (الكردي) منبوذا في محيطة الجغرافي معزولاً في واقعه السكاني ومحاصراً من قبل أربع دول قوية تحيط به من كل جانب وليس لها من منفذ كما هو لإسرائيل المتمثل في ساحلها على البحر المتوسط.
ولكن تجربة الشتات اليهودي هي الأجدر بأن تكون نموذجاً عملياً يحتذى به بالنسبة للأكراد. فالأقليات اليهودية في العالم (وخاصة في أمريكا وأوربا وروسيا) لها تأثير فاعل في الحياة السياسية ومشاركة كبيرة في الحياة الاقتصادية ودور هام في الحياة الثقافية والعلمية لتلك الدول والأمم. فاليهود جزء أصيل من أمم وشعوب تلك الدول، وهم ضمن نسيج تلك الشعوب. ولهذا فإن تأثير يهود بروكلين عالمياً هو أعظم من تأثير يهود تل أبيب بكل المقاييس. فمن يحفظ حقوق اليهود في العالم هو ليست دول اسرائيل وإنما تلك الأقليات التي تعيش متفاعلة في العملية السياسية لتلك الدول وتشكل الركن القويم لاقتصاديات تلك الأمم ومبدعة في ثقافات تلك الحضارات. فالشتات اليهودي هو مصدر قوة وليس حالة ضعف.
يمكن أن يستلهم الأكراد بأن يصبح لهم دور أساس في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات التي يعيشون فيها. والتجربة الكردية ما بعد 2003 في العراق هي خير شاهد على ذلك النموذج الناجح. فأصبح الأكراد على الرغم من حجمهم السكاني القليل (من 12-17%) هم الرقم الصعب الذي يحدد اختيار “الملوك” في العملية السياسية في العراق، وبدا يشكل اقتصاد إقليم كردستان ما يقارب من ربع اقتصاد العراق. ماذا لو أصبح للأكراد دور أساس مشابه في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لتركيا (الدولة العملاقة الصاعدة في المنطقة)، أو أن يشكل الأكراد القوة السياسية الفاعلة والضاغطة التي تحفظ كيان الدولة في سوريا، عندها سيشكلون القوة السكانية الثانية بعد العرب في تكوين النظام السياسي هناك.
واخيراً، الشعب الكردي يعيش في القرن الواحد والعشرين
من الملاحظ أن القيادات الكردية ما زالت تحمل رؤية وأحلام إقامة الدولة القومية التي كانت من أساسيات الحراك السياسي في القرن العشرين، والذي كان جل الصراع السياسي فيه هو حركات التحرير والمقاومة والكفاح المسلح من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير وإنشاء كيانات الدول القومية. ولكن حركة التاريخ في القرن الواحد والعشرين منصبة على توحيد الدول الصغيرة والمتفرقة (والمتنافرة) في منظومات دولية جامعة، وما الإتحاد الأوربي منا ببعيد. فالدول الصغيرة المعزولة ليس لها ديمومة البقاء مستقبلاً إلا بالوحدة في اقتصاديات متنوعة وتجمعات سكانية كبرى.
كما أن الجيل الجديد للأكراد والمولود في القرن الواحد والعشرين يمثل الأغلبية الكبرى للشعب الكردي، بينما قياداته هم من أبناء القرن الماضي. وهذا الجيل الجديد له تطلعات وأمال وطموحات تختلف عن آبائه الذين سبقوه. فالقيادات الكردية التي ما زالت تنادي بآديولوجيات القرن العشرين سوف لن يكون لها صدى وتفاعل بين جيل الواحد والعشرين، الذي ينظر بأن مستقبله هو في بيئته ومحيطه الجغرافي طالما أنه يطل على العالم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي السريعة الآنية، فنافذته مفتوحة على العالم، ولكن مستقبله وحياته الاقتصادية والمعيشية مرتبطة ببئته وجغرافيته. فهذا الجيل يتواصل مع أبناء جلدته من الأكراد في ناشفيل وألمانيا والإمارات والصين، ولكن عليه أن يتحدث اللغة التركية والفارسية والعربية لأنه يتاجر مع الأتراك ويسوّق للعرب ويتعامل مع الفرس فلغته نابعة منهم؛ فإذا أراد أن ينجح ويتنافس في محيطه عليه أن يتفاعل معه، شاء أم أبى. فلا يمكن لقيادت الاحزاب الكردية أن تسوق رؤى وآيديولوجيات القرن الماضي لأن لا أحد سوف يشتريها – كما يقال – من أبناء جيل القرن الواحد والعشرين. وكما قال الإمام علي: لا تقصروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم.
ومن هذا العرض الموجز يمكن تلخيص هذه التوصيات للمجمع المفترض لقيادات القوى الكردية بما يلي:
– أن نتذكر دائما ما قاله السفير الامريكي السابق لدمشق، مستر فورد – فهو يوجز كنهه علاقات الدول الكبرى مع الآخرين
– أن نستفاد من تجربة الشتات الحية لليهود في بقاع الأرض – فهي تجربة جديرة بالدراسة والإمعان
– أن جيل القرن الواحد والعشرين سوف يستبدل قيادات القرن الماضي ويمحي آديولوجياته ليحل محلها تطلعات وتحديات هذا القرن.
فأعبتروا يا أولي الألباب.