رحيل الكاتب الصحفي محمد كامل عارف
توقف محمد كامل عارف قبل اكثر من عامين عن الكتابة لأنه لم يعد يبصر الحروف ولا الصور لكن بصيرته ظلت قوية وذاكرته مورقه.
انزوى الصحفي والكاتب المهووس بالعلوم وبرامج التنمية، المولع بالعمارة حدا أصبح المتحدث باسم زها حديد يحول هندستها الشامخة في مختلف قارات العالم الى حروف وجمل وعبارات وقصص تحكي إبداعات واحدة من اشهر المعماريين في العالم، البغدادية ابنة سياسي عاش مرحلة التحولات العاصفة في العراق وساهم في إدارة دفة السفينة التي غرقت في بحور من الدماء والعنف والانقلابات.
رحلت زها حديد في غير موعدها وأصاب موتها المفاجيء قلب محمد كامل عارف بألم لم تسعفه عضلات راكب الدراجة المتفرد بين العرب في شوارع لندن، آخر ملاذ في غربة تجاوزت عقودا أربعة.
كنا، سعود الناصري وأنا، غادرنا الوطن نحو الاتحاد السوفيتي،بعد نهاية سنوات الأمل في العراق حين أوقفت جريدة الجمهورية خدماتنا مع نخبة من صحفييها وفي المقدمة محمد كامل عارف وسهيل سامي نادر الاسمان اللذان لا ينطقان إلا ثلاثيا وكأنهما منذ الولادة جاءا كاملين عارفين نادرين. ليجعلا مع سلوى زكو وآخرين من جريدة الدولة، أفضل مطبوع عراقي يومي في سنوات الأمل والازدهار.
” الجمهورية” حقبة تألقها الذهبي، عقد السبعينيات من القرن الماضي؛ توصف بانها تقرأ من صفحتها الأخيرة وتنتهي بصفحة ” أفاق”؛ المنصة المفتوحة لأهم وأكثر الأقلام دراية ومعرفة بالقضايا العلمية والفنية والأدبية، وكان يشرف على تحريرها محمد كامل عارف، يساعده، الروائي، الناقد التشكيلي، سهيل سامي نادر.
كنا نتسقط اخبار من علق في العراق، واستعصت عليه الحدود فلم يعبرها نحو ارض الله الواسعة.
كان محمد كامل عارف وسهيل سامي نادر تعرضا الى العسف كالاخرين، لكنه لم يبلغ درجة الملاحقة أو الاعتقال؛ أما لان عالم الثقافة الواسع العميق في صفحة ” آفاق ” لم يشغل بال الأجهزة المعنية، خلافا للاخبار والتقارير والتحقيقات في صفحة الجمهورية الأخيرة وكان يرأس تحريرها الشيوعي الراحل سعود الناصري، أو لأن محمد وسهيل التحقا بالوظيفة في وزارة خدمية بناء على مرسوم جمهوري و انزويا في ركن قصي بعيدا عن حادلة القمع والملاحقة.
سمعنا ان سهيل عبر الحدود نحو الكويت وان محمد في الطريق إلى موسكو.
لم يلبث خريج جامعة لينينغراد زمنا طويلا في موسكو السوفيتية، وكانت تعيش اسوأ سنوات الجمود تدهورا في مختلف المجالات وصولا إلى انهيار الدولة الشيوعيه الأولى في العالم وكان مدويا وصادما سجل محمد عارف بحرفية عالية بعضا من فصوله في أعمدة ازدهت بها مطبوعات عربية تصدر في لندن. ووجد في العاصمة البريطانية ملاذا عاش فيه كاتبا لأجمل المقالات وأكثرها سلاسة في صحف خليجية على رأسها ” الاتحاد” الإماراتية التي ظلت وفيه لكاتبها الألمعي في ظلمة المحجرين بفضل رئيس التحرير السابق محمد الحمادي رئيس جمعية الصحفيين الإماراتية.
محمد كامل عارف، اعتزل الكتابة منذ أزيد من ثلاثة أعوام؛ بعد عقود من تدبيج مقالات الهمت أعمدة لامعة في صحف ومجلات عربية ودولية مرموقة؛ إثر الهجرة القسرية من العراق عام 1979. ولايمكن لباحث جاد فِي تأريخ صحيفة الجمهورية، الا ويفرد فصلا وربما فصولا ، لصفحة ” آفاق” ليس لتفردها بين الصفحات الثقافية في الصحافة العراقية والعربية، حسب، وإنما أيضا لأنها تؤرخ ، لبداية ونهاية الحقبة الديمقراطية المتنورة في حياة الصحافة الحكومية العراقية، وانتهت بقرار رئاسي مجحف؛ أمر بنقل محمد كامل عارف وزميله سهيل سامي نادر مع الكاتبة النشطة سلوى زكو؛ الى وزارة خدمية، تعبيرا من السلطات آنذاك عن كراهية الأفكار الحرة ، وشمل قرار النقل التعسفي؛ صحفيين
” جمهوريين” آخرين، بينهم كاتب السطور.
نزح محمد كامل عارف مع آلاف المثقفين والمبدعين الآخرين، واستقر به المطاف، بعد رحلة عناء مع الغربة، في لندن.
ولعل البغدادي ” أبو العباس” بإيقاعه المتميز الهاديء المؤطر بالفخامة، كان أكثرنا، إحساسا بالقهر من عوادي أزمنة الغربة. فقد حجبوا عنه آفاق بغداد.
بيد ان المثقف الموسوعي، وكان يوقع مقالاته باسم محمد عارف “مستشار في العلوم والتكنولوجيا” كافح الغربة بسيل عذب،متفرد، جارف من المقالات في كبريات الصحف والمجلات العربية والاجنبية تناول فيها مختلف الموضوعات بما فيها المذاق المتميز اللذيذ للمطبخ العراقي باسلوب يتناغم مع شهية الصحن العراقي و” برابيق” الماء العذب فوق
” التيغة” العراقية ليالي الصيف.
لم يترك مؤلفا عراقيا متميزا ألا وأفرد له صفحة او عمودا؛ ولاحق العالمات والمبدعات وكتّاب المذكرات لمئات العراقيات؛ بزغن في أرض الله الواسعة بدءا من ” انثروبولوجيا الطعام العراقي” لنوال نصر الله، مرورا ” بفوح العنبر” العراقي بمناسبة اليوم العالمي للبذور صعودا نحو البناية الشاهقة، زها حديد التي أصبح احد أبرز الخبراء في تحليل أعمق زوايا مدرستها المعمارية، وكاتب سيرتها.
تقول سلوى زكو، الزميلة في العمل الصحفي وفي الدراسة بالاتحاد السوفيتي، عن محمد كامل عارف في مقدمة كراس صدر عن “دار نوّار للنشر”يضم مجموعة من مقالات عارف عن روسيا بإشراف أستاذ الأدب الروسي ضياء نافع؛؛؛
” هو ابن تلك الأم التي تتلو الشعر وتروي الحكايات والأمثال …لعله ورث عنها سحر السرد أو تعلمه منها أضيفت له ثقافة شديدة التنوع فأصبح لدينا واحد من أهم كتاب المقال الصحفي وأكثرهم تنوعا في موضوعاته”.
كانت مدرسة الجمهورية الصحفية، تميزت بسياسة براغماتية تعامل بها رئيس تحرير الجريدة انذاك، سعد قاسم حمودي، سليل أسرة عريقة احترفت الصحافة، مع العاملين بأريحية نادرة قياسا مع القيادات البعثية، ما أتاح أجواء الحرية وأطلق كتاب الصحيفة العنان لابداعاتهم دون تدخل من مقص الرقيب،الذي كان سعد قاسم حمودي نفسه، لكنه مقص من يفصل ثوبا أنيقًا يكحل كل صباح عيون آلاف القراء داخل وخارج العراق؛ اذ كانت الجاليات العراقية والبعثات الدبلوماسية تتلقف
” الجمهورية” كالخبز الحار؛ حين تصل على متن الطائر الاخضر للخطوط الجوية العراقية الى مختلف بلدان العالم، ومن خلال آفاقها وصفحاتها، وبشكل خاص منوعاتها في ” الصفحة الأخيرة ” ينظر أبناء العراق ” بعيون” الجمهورية الى حياة مدنهم الزاحفة نحو النمو العمراني والاجتماعي والثقافي عبر ” خطة انفجارية” تشظت نهاية السبعينيات بفعل عودة القمع ؛ والنكوص نحو سياسة الهراوة وتكميم الأفواه وكسر الأقلام الجريئة وسطوة الانتهازيين والوشاة والمتسلقين على الحياة في البلاد وصولا الى مغامرات الحروب وضياع المنجزات.
صمد محمد كامل عارف بوجه العسف مع آلاف المثقفين العراقيين فيما غيبت السجون والمقابر والاعدامات أعدادا لا يعرف حجمها الى اليوم، لكنها كانت فادحة قطعا، ووجد الكاتب المؤسس لاهم الصفحات الثقافية مسربا في ليل العراق الداكن، ليلف أوروبا والعالم العربي بمقالات ميزتها التنوع والأسلوب الساحر المطرز بالمعلومات المدهشة، والنكات البغدادية، والتلميحات الذكية.
صحيح ان المقال يقرأ من عنوانه، لكن عناوين محمد كامل عارف؛ غالبا ما تتستر على تفاصيل في المتون، مثل أعمال تشيخوف، تفاجئنا وتثير فينا الرغبة في المزيد، حتى أن القارئ يتمنى ان لاينتهي من القراءة كانه يتابع مشاهد مشوقة.
يختار محمد كامل عارف مواضيع مقالاته بعناية، ويحضر لها، منقبا عن معلومات لم يطلع عليها عموم القراء وفي أحيان أخرى حتى أصحاب الاختصاص وبالتالي فقد أستحق عن جدارة لقب ” مستشار في العلوم والتكنولوجيا” ولو سمحت المساحة لأضفنا وفي علم الاجتماع والنفس والفنون الجميلة والآداب ووو..
توقف قلم محمد كامل عارف المقيم منذ العام 1981 في عاصمة الضباب عن الكتابة؛ لأسباب صحية، وكان على مدى أربعة عقود من الغربة أعد مئات الدراسات وكتب الاف المقالات ويقدر معدل كتاباته بنحو نصف مليون كلمة سنويا خلال عمله محررا علميا في ” الحياة ” اللندنية، واستمر يتابع التطورات العالمية في العلوم والتكنولوجيا الى ان توقف عن الكتابة قبل ما يزيد على العامين .
نال محمد كامل عارف شهادة ماجستير آداب بالإعلام من جامعة بطرسبورغ بروسيا وماجستير علوم باقتصاديات العلوم والتكنولوجيا من أكاديمية العلوم الروسية بموسكو ولم يبتعد الكاتب اللامع عن التغطيات الميدانية لأهم الأحداث العلمية العالمية؛ مثل الإطلاقات الفضائية من مطار كنيدي الفضائي
” كيب كانيفيرال” في فلوريدا بالولايات المتحدة والقاعدة الفضائية في ” غويانا” الفرنسية باميركا الجنوبية، والمركز الفضائي الأوربي فِي تولوز بفرنسا وغيرها.
أهتم محمد كامل عارف بالنهضة النسائية العربية واعد دراسة مرموقة للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن ” نهوض نساء العلم في البلدان العربية”.
ساهم بانشاء مطبوعات ودور نشر ومؤسسات علمية وجمع بين التأهيل الأكاديمي والكتابة الصحفية في توليف لا يقدر عليه الا موسوعي مثل محمد الكامل العارف.
ظل محمد كامل عارف وفيا للقيم الوطنية، معارضا لاحتلال العراق، جارحا بقلم لاذع خدنته.
حين توفي عرّاب الاحتلال أحمد الجلبي، عنون محمد عارف مقاله بالمناسبة” مات اللمبچي …”!
ستذكر الأجيال إسم الكاتب الطليعي ويخلد في تأريخ الصحافة العراقية على انه صاحب أجمل عمود سردي يعلّم القاريء ما لم يعلم لان كاتبه العارف هو الذي رأى تماما على خطى كلكامش وكل التراث العراقي الموغل في القدم الذي نهل العارف محمد من ينابيعه على مدى ستة عقود وأزيد.
توقف محمد كامل عن الكتابة قبل سنتين ونصف تقريبا واخر مقالة أرسلها إلى ” الاتحاد” الإماراتية كانت في يوليو /تموز 2021 بعنوان “العشاء الاخير “! عن فشل قمة الدول السبع في كورنوول بانكلترا حول الوباء والبيئة.
كان مهتما برصد خطر كورونا والتلوث في سماوات العالم ليس بالعوادم فقط. بل بفعل السياسات الدولية الظالمة قبلا.