23 ديسمبر، 2024 5:16 م

نصفان لإمرأة واحدة

نصفان لإمرأة واحدة

لم أقلع عن المرور في هذا المنعطف رغم أنني ابتعدت عن التركيز بوضع قطعة النقود في يد المرأة ليتجلى صوتها الذي كان يشي عن اكتمال نفس تخبأ جمالآ يأبى إلا ان يحتجب خلف خمار ينشر سلطانآ صامت لكائن عاقل تعلقت به فترة مظلمة ذات تاريخ متذبذب وطويل. وكنت ارجو ان تستنتج غايتي وتفسر مااريده بالفعل رغم انني كنت اطلق اهاتي في كل مرة قربها وانا احدق في صحنها الفارغ , ذلك الذي يوفر لي وسيلة الاتصال بها يوميآ . ولكن ذلك لم يثمر عن شيء وانتهى الأمر لأن إمرأة كهذه تحتاج الى لغة اخرى تكون من صميم تركيبتها وهذا يتجاوز لغتي فأخترت لطريقي رفقة أخرى ضمن ثوابت تقليدية .

الساعة الآن السابعة والشمس تواصل خلع ثيابها فوق الأرض لتظهر الأشياء ثانية . وعند حافة الرصيف الذي يلتوي نحو اليمين , مازالت تجلس إمرأتان مثل كفتي ميزان . لم يتبدل شيء , فالبيت الذي يشكل هذا الركن مع التفاف الرصيف مازال يحجب المرأتين الواحدة عن الأخرى ويضللهما رغمآ عنه . أما أنا فكأن من الجنون تجنبهما أو حتى نسيانهما . أتكهن أحيانآ إنهما تجلسان على طرفي معادلة تعرض شيئآ وتخفي شيئآ آخر لم يخطر على بال مرتدي الملابس المختلفة الألوان .

– ” تبآ لهذا الرجل .. انه يقترب ثانية . كم اتمنى لو يبقى بعيدآ عن هذا المنعطف , إذ لا داع حتى أن يكون محسنآ روتينيآ , أرغب أن يضع قطعة نقوده في الصحن من دون ان يلمس يدي و يمضي مع نفخاته وحيرة النظر اليّ , وأظن ان معادلة كفتي الميزان ليست ضرورية أحيانآ ” . تمتمت المرأة الجالسة عند يسار المنعطف .

أحسست أن شيئآ يدور في ذهن هذه المرأة , فقد دارت رأسها نحوي قبل عشرين خطوة من وصولي الى صحنها الفافون البائد الذي يصعب على المرء لمسه بسبب سنوات خدمته الطويلة على مايبدو ليذكرني باللجوء الى التقاعد , فأنا لن اقدر على ذلك غدآ . وضعت قطعة النقود في الصحن هذه المرة وأبتعدت مقتربآ لإجابة الطرف الثاني من المعادلة وأنا أخطو أربعة خطوات نحو يمين المنعطف .

مازالت المرأة الثانية تجلس على مبعدة خطوات من يمين المنعطف ايضا وهي تضع قرصآ أزرق ذو خمسة ثقوب داخل صحنها الذي بدا خصبآ هذه المرة بالنقود المعدنية . كانت هادئة كأنها في أمان دائم . أودعت بقطعة النقود الأخرى داخل الصحن مبتعدآ بخطواتي المسرعة دون ان يتسرب منها شيء من الكلمات . لم أطق ما أفعل لأنني لاأرغب في تأويل ثان غير الصدقة لله لأنني فقدت حقيقة الاستجابة منذ زمن وانا مازلت اتردد وخوفي ان فيه نوع من الخلط على نفسي لما كانت تفكر فيه . فعاهدت نفسي أن لا أمرق بهذا الطريق ثانية , وأحسست ان هذا المكان هو الأكثر ضجرآ مما كنت أشبهه الى حد كبير بضجر الجلوس في صالة انتظار لمختبر للتحاليل المرضية .

في صباح اليوم التالي أسرعت خطاي حتى اتيت الى المنعطف لأروي لهما حلمي الذي حلمته البارحة كأنني افعل ماأمرت به . دب الملل في قدماي حتى تصلبت عضلات ساقيّ . اقتربت من مكان المرأة ذات الصحن البائد فلم اجدها فأكملت سيري نحو الثانية ذات الصحن الذي يضم القرص الازرق فوجدتها جالسة مثل كوكب ثابت في مكانه . رميت قطعة النقود

في الصحن وانا انبس لها بأنفاس متقطعة : اختاه .. حلمت بكما ليلة امس , فأنا لم أغمض عيني منذ ساعات كي لاانساه .

رفعت المرأة رأسها الملفوف بعبائتها السوداء قائلة :

– قل الحق إن كنت من أهله وسأفرش لك أذنيّ وأقول لك مثله . ثم أردفت :

– الأحياء يحلمون بمصائرهم أحيانآ . ثم تابعت .. ليكن حلمك قد قرر شيئآ لطيفآ !

– أسمعي إذن : كأن نملآ أسود يحيط بصاحبتك ويرشقها باليرقات . بينما انت تلوذين خلف اطفال خمسة يبكون خوفآ . فتقدمت نحوكما ليواجهني وجه صفيق تتدلى منه عيناه وأذناه وهو يقول : اترى في هذا احسن عملك ؟ فكف نفخك في الريح فقد بطشت بي , ولا توقظني غدآ .

وضعت المرأة يدها على رأسها كأنها تبحث عن التعبير الدقيق وهي تقول :

– بدا حلمك واضحآ ثم تحول نحو الغموض , ويبدو انك انكسرت , فالحلم لايقدم المعنى الذي نريد بالتمام بل نفترض له معنى على الأغلب .

– هذا شأن الأنسان في معالجته للأمور . قلت لها ثم أضفت :

– وكلامك هذا لايحظى بزوايا نظر متعددة فحسب , بل هو يؤول من ناحيتي لصياغة اسئلة اجد اجوبتها عندك ! فأني أرى الآن انكما نصفان لأمرأة واحدة !

– صدقت فالذي اعرفه عنها لاتعرفه انت لأنها أختي التي اعجبتك وهاهي الآن تقلقك , لكنها بالنهاية فهي لاتمت بأية صلة مع الملائكة فأختر لك طريقآ آخر فطريقك هذا سيبلغك مالقيت اعوامآ والذي يرقب الطرقات يحصد الحسرات .

ادركت ان القدر لم يرغب ان انتسب الى هذه المرأة منذ الوهلة الاولى رغم انني كنت اعيش داخل نفسي فأتخذت طريقآ غير طريقي .

تركت المنعطف نحو عالمي الخاص وانا اخاطب نفسي :

– آه .. حقآ .. كيف اكون واحدآ منهم ؟!