إسقاط تركيا للطائرة الروسية في الأجواء السورية واقتحام قوة مدرعة للأراضي العراقية يثبت انتهاج المخططين الاتراك لسياسة المواجهة والتدخل المباشر بعد تخليهم عن ستراتيجية المصالح والاستيطان الاقتصادي والعمل الاستخباري لفشلها الذريع في تحقيق امن الحدود التركية والحفاظ على المصالح الاستراتيجية في دول الجوار وبالذات سوريا والعراق ولبنان طيلة السنوات الخمس الماضية.
وبعيدا عن دوافع واسباب هذه التحركات ، وهل جاءت بتحريض من الغرب في إسقاط الطائرة الروسية او من اطماع ونزعات الموروث العثماني الذي لا زال يعتبر الموصل ولاية عثمانية في ادخال القوة المدرعة لشمال العراق وبشكل مفاجيء.. فان ما يهمنا هو رد الفعل العراقي الذي تمخض عن دخول تلك القوات بعيدا عن المقارنة مع رد الفعل الروسي الذي جاء سريعا بعد اسقاط الطائرة بتعزيز أنظمة الحماية الجوية وزيادة التواجد البحري في المتوسط واتخاذ سلسلة اجراءات عقابية ضد تركيا؛ سياسية واقتصادية ودبلوماسية.. فماذا فعل العراق تجاه الاعتداء السافر والانتهاك الواضح لسيادته؟؟
لقد جاء الموقف الرسمي بداية؛ ضعيفا وضبابيا وواهنا مع تضارب التصريحات السياسية حول حقيقة ووقت تواجد القوات التركية ، ثم تقلب ولأكثر من مرة بين التهديد العسكري بمهلة الثمانية واربعين ساعة والتراجع عنها ومن ثم الذهاب بالشكوى الى مجلس الأمن والتراجع عنها ايضا بعد لقاء مباشر بين سفيري البلدين في المنظمة الدولية بما أعطى مجالا لتركيا بالتمادي بوجودها العسكري واعتباره ” حقا ” للدفاع عن مدربيها في معسكر بعشيقة من تهديدات إرهابية محتملة ، وأخيرا عادت الدبلوماسية العراقية لسلوك الشكوى على تركيا في المحافل الدولية بعد سحب جزء من تلك القوات.. وهو الإجراء الطبيعي الذي كان يفترض ان يجري من بداية الامر.
فما الذي غير الموقف التركي اذن ودفعه الى سحب تواجده العسكري ان لم يكن الموقف الرسمي العراقي هو السبب في ذلك؟؟.
ان ما لم يحسب له الاتراك حساب في مغامرتهم البرية في شمال العراق ، هو التالي:
• الموقف الشعبي الذي جاء موحدا بالاستنكار والشجب والتظاهر الحاشد قرب السفارة التركية وفي ساحة التحرير وسط بغداد.. والذي ايدته المرجعية الدينية وتوحدت خلفه كافة الطوائف العراقية انتصارا للسيادة المنتهكة.
• الموقف السياسي الصلب؛ الرافض للوجود الاجنبي على الارض العراقية والذي جاء مخيبا لآمال تركيا بالمراهنة على الانقسامات السياسية الداخلية ، ولا يغفل ان بعض الاصوات النشاز كانت تغرد خارج السرب السياسي ولكن لم يكن لها تأثير هذه المرة كما في الأزمات السابقة.
• التهديد الاقتصادي والذي لم يأتي حكوميا مثل الموقف الروسي او كما اعتادت عليه الدول ، بل شعبيا بمقاطعة المنتوجات التركية والتهديد باستهداف مصالحها وشركاتها مستقبلا ، وان كان هناك عدة تحفظات على التهديدات غير المنضبطة الا انها كانت؛ شئنا ام ابينا؛ بيضة القبان في تغيير بوصلة الموقف التركي ميدانيا.
وان كان ما تقدم هو السبب الرئيسي وبشكل أكيد في تقهقر القوات التركية وانسحاب جزء كبير منها الى معبر ابراهيم الخليل الحدودي مع العراق ، فانه رسالة لكل من يفكر مستقبلا بانتهاك سيادتنا بان هناك شعب ينتصر ويدافع عنها ان تلكأت حكومته او تقاعست عن ذلك… وما اعلان تركيا سحب جزء من قواتها او اعادة انتشارها الا تأكيدا لذلك النصر.