26 فبراير، 2025 2:17 م

نصر الله… درس مابعد الشهادة

نصر الله… درس مابعد الشهادة

في مشهد اقرب مايكون لمليونيات الوفاء الحسينية، خرجت الجموع لتشارك بتوديع سيد المقاومة وشهيدها، معلنة النفير العام في جميع الطرقات المؤدية لمدينة كميل شمعون الرياضية بالعاصمة اللبنانية بيروت، لترسم خارطة من الحزن الذي تجدد بعد خمسة اشهر على إغتيال السيد حسن نصر الله ورفيق دربه هاشم صفي الدين.
نعم.. استخرجت الوديعة من الأرض وحان وقت حملها على الأكتاف لتمر بسلام أمام المحبين الذين قطعوا المسافات وعبر العديد منهم الحدود لإلقاء نظرة الوداع على الأجساد التي اختارت تحمل أطنان المتفحرات حتى لا تركع او تخذل “المستجيرين بها” في مواجهة الكيان الغاصب ومشاريعه التوسعية، فقدمت في سبيل الالتزام بالكلمة والتعهدات بنصرة غزة وأهل فلسطين، ماعجز عنه الآخرون، وهرب من تأديته اصحاب الشعارات القومية والوحدة الإسلامية، فلم ترعبها التهديدات ولم تغريها المساومات، وكان الثبات في الميدان عنوانها، والبحث عن الخلود بإختيار الشهادة غايتها، لتؤكد بان النصر لا يتحقق من دون أثمان غالية وقرابين تعبد الطريق للسائرين على نهجهم، لتكون مواقف ابو هادي خير تجسيد لما قاله الإمام الحسين (عليه السلام) حينما أرادوا إقناعه بمبايعة يزيد بن معاوية بالخلافة، “وما دين المرء سوى كلمة، ما شرف الرجل سوى كلمة”.
وبحسب إحصائية شبه رسمية صدرت من جهات متعددة بينها حكومية وأخرى أمنية فان مليونا واربعمئة الف شخص شاركوا بتشييع نصر الله ورفيق دربه وخليفته هاشم صفي الدين، بينهم وفود شعبية ورسمية يمثلون اكثر من سبعين دولة بمقدمتهم العراق وإيران وتركيا والكويت والبحرين وتونس، في رسالة وصلت للجميع مضمونها بالخط العريض وحدة ساحات المقاومة، المشروع الذي اجتهد نصر الله لتثبيته في حياته، تجسد على أرض الواقع خلال توديعه إلى دار البقاء، فهذا العدد الكبير من المشيعين لم تتحمله مدرجات ملعب المدينة الرياضية الذي يتسع لنحو تسعة واربعين الفا وخمسمئة متفرج، ليكون عدد الواقفين اضعاف الجالسين، بينما غصت أرضية الملعب ومحيط ساحته الخضراء بأعداد إضافية من المحبين، براياتهم الصُفر وأخرى تحمل أعلام بلدانهم والتي كانت للعراقيين الأكثرية منها، وبسبب كثرة المشيعين لم يستوعبهم الملعب المخصص لوداع سيد المقاومة، فاختارت الحشود المتبقية التجمع خارجه والانتشار على طول الطريق المؤدي لمكان مواراة الثرى لجثمان نصر الله قرب مطار بيروت.
ومع تلك الأجواء المشحونة بالعاطفة وألم الفراق، والوصول إلى لحظة إدراك شهادة السيد حسن نصر الله ورحيله من عالمنا، التي كان العديد يشكك بحصولها ويعتقد بأن سيد المقاومة سيظهر بشكل مفاجئ ليصدم الأعداء ويعيد الامل لنفوس انصاره، اختار الكيان الاسرائيلي ممارسة الاستفزاز لجمهور المقاومة، والتي بدأها بقصف جوي لأكثر من منطقة في الجنوب اللبناني، واختتمها باستعراض بطائراته الحربية التي إخترقت جدار الصوت وانخفضت لمسافة قريبة فوق جموع المشيعين بهدف “إرعابهم” لكن فعلتهم ارتدت عليهم بهتافات اطلقها المشاركون بوداع الامينين الاثنين ووصلت لأسماع وسائل إعلام العدو بكلمات “الموت لإسرائيل”.
بالمقابل.. لم يسلم حسن نصر الله حتى في هذه اللحظة التاريخية بحياة المقاومة، من السن “الشامتين” وأدوات الكيان الغاصب فانطلقت بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لممارسة هوايتها بالإساءة لسيد المقاومة وبث سمومها لخلط الاوراق من خلال الاستعانة بمقاطع فيديو قديمة عن الاحتفالات في بيروت بمناسبة تشكيل الحكومة اللبنانية، واعادة تدويرها بعناوين مغايرة، لإثارة المحبين وتقديم خدمة مجانية للكيان، لكن الحضور المليوني قدم البراهين والادلة على مكانة حسن نصر الله التي لا يمكن لمنصات مأجورة او نفوس مريضة بالطائفية حجبها، ولعل مانقله الخطيب البغدادي في كتابه “تاريخ بغداد” مثالاً لا يقبل الشك عن الدرس الذي قدمه نصر الله حتى بعد شهادته، من خلال سرد البغدادي لقصة اصحاب الإمام احمد بن حنبل، عندما ابلغوه، إن بعض الناس يعيبونهم ويتكلمون ضدهم بالسوء فأجابهم “بيننا وبينهم الجنائز”.. وكان يقصد إن مقامنا عند الناس تكشفه جنائزنا وكثرة المشيعين لنا، ويكمل روايته، قائلاً.. بعد وفاة ابن حنبل كانت جنازته أعظم جنازة شهدتها بغداد في حينها.
الخلاصة… ان توديع نصر الله لمثواه الأخير ليست النهاية لمشروع المقاومة.. على العكس، تلك هل البدايات التي تولد بإستشهاد القادة ومرحلة جديدة ستأخذ قوتها من دماء سيد المقاومة ورفاقه لتكون إنطلاقة أخرى بمواجهة الكيان الغاصب ومشاريعه، وصفحة من سجل المقاومة تستند في شريعتها للجماهير التي شاركت بتجديد العهد وأثبتت صعوبة انكسارها، ومنحت البراهين على تجددها… اخيراً.. السؤال الذي لابد منه.. هل سيندم قادة العرب على خذلانهم لمشروع المقاومة؟.

أحدث المقالات

أحدث المقالات