قرات مقالا نشر على صفحات الصالون الادبي النقدي قبل يومين -نشرته أخت لنا من بنات الأدب والشعر- ولاقى استحسانا ممن قصدهم ، ولأن فكرة المقال عندي -غير موفقة ومعكوسة الأثر- ومن باب الإختلاف الصحي اورد فكرته مع اختلافي معها .
ينصح صاحب المقال الشعراء -وهو شاعر منهم كما يبين- أن لايستعجلوا في النشر وان يتركوا القصيدة تنضج حتى “لايندموا عليها”! ، ولعل الكاتب اراد -في قصده- شيئا ولكنه اعطى امثلة لشيء آخر ، فالتاجيل والتريث عنده هو لأجل ان لايندم الشاعر لاحقا بسبب خطا الموقف من الحدث او المناسبة ، ولم يتطرق الى انضاج القصيدة فنيا كما كان يفعل زهير او ذو الرمة وإلا لقبلنا رأيه.
وهنا انبه الزلل الذي وقع فيه والذي سيقع فيه من يتبعه من الشعراء او المبدعين ، فالقصيدة ومثلها المقالة او المسرحية هي بنت اللحظة او بنت الحدث و افضل وقت لقولها هو وقته ووقت هبوطها على وجدان الشاعر -الحقيقي اقصد- وخياله وقريحته ، فهذا الشاعر يهزه الحدث ويؤثر فيه الجو ويستفزه الشعور فيقول ويوثق ويتاثر فيبدع ، اما ماتبقى من تنقيح وتشذيب فلا باس ان ياخذ وقتا لا يتعدى وقت غياب الحدث عن وجدان الجمهور وعن قريحته لأنهما لا يعودان ، والا فقدت القصيدة معناها وفقد الشاعر موطن ابداعه ،
ولذلك فان كاتب المقال المعني ان قصد ما اقصد فإني أؤيده ولكنه ايضا يكون اخطا في المثال ، فقد اكد رايه بأن الجواهري-مثلا- مدح فلانا ثم ندم عليه لانه اشتراكي وذاك رأسمالي ،أو لأنه لايحسب موقفا له يوافق ماينادي به ، او انه خالف مبداه .ثم ماذا اخي!
المتنبي امتدح كافورا بتحف القصائد وخلده وهو لايستحق الذكر -عنده- ولكننا دهشنا بالشعر العظيم وحفظنا القصائد الرائعة التي لاتتكرر ،ثم ندم فقال اجمل من ذلك في ذمه .ويقول الشاعر في الحب والغزل ثم تغدر المراة فيقول اجمل في طبعها وغدرها وتقلبها . اين الخطا ؟ بل ان كل قصائد جرير والفرزدق الهجائية ندما عليها بعدما كبرا ، ولكننا لم نندم على قراءتها وحفظها ، إنما هو استدعاء الشاعرية.
على العكس ،، الخطا -عندي- هو ان يخنق الشاعر ابداع اللحظة ويفوت على نفسه توثيقها ، ويفوت علينا الاستمتاع بالشعر .اما امر الندم وتغير المواقف فهذا بسيط ، ولن يغير الشاعر وصف الله تعالى فيه مهما حاول ان يكون متانيا او حريصا أو مثاليا، بل كلما حاول ذلك قلت شاعريته وإن زادت تقواه ،
فالشعراء “يقولون مالا يفعلون” ، فلم يكن المتنبي “متنبي” لو تحرى كل موقف وتجنب القول إلا فيما يعنيه حقا ، فان اجمل ماقاله من مديح هو ما ندم عليه واحلى ماقاله من غزل هو ماكذب فيه ، ولم يكن الجواهري ليكون “جواهري” لو انه تجنب ماقاله وكتمه خوفا من “زعلنا” او من ندمه ، فان اجمل ماحفظناه هو مالم يكن مصيبا فيه . وكذلك ابو نؤاس لم يكن ليصلنا لو لا خمرياته التي نرددها -وهي حرام- ولو ان قيسا المجنون راعى كرامة “الرجل” ومحّص في قوله لما صار مضربا لشعر الحب ، ومثلهم جرير الذي ضعف شعره ايام الخليفة عمر بن عبد العزيز لانه -رحمه الله- كان يحاسبهم على الكلام .
فالشعراء “في كل واد يهيمون” ولولا ذلك ما تميزوا ، اما “إلا الذين آمنوا” فهؤلاء قلة ونخبة في كل فن وعلم وزمان ، وليتك تكون منهم ، ولكن إعلم ان الشعر اعذبه أكذبه واجمله مرسله واحلاه ماندمت عليه ، فانشر شعرك طازجا رعاك الله ، أما اذا كان نظما أو شعرا إرشاديا فهذا بحث آخر.
فاتركوا نصيحة الرجل جزاه الله خيرا واتّبعوا إلهام الشعر إن كنتم شعراء بارعين، وهذه نصيحتي .