23 ديسمبر، 2024 5:23 ص

نسق العنف بين اللغة والشعر والمجتمع

نسق العنف بين اللغة والشعر والمجتمع

ربما كان العنف سمةً ملازمة للإنسان، حين تضيق به مساحة التعقل والحكمة، وحين يفقد قدرته على التكيّف مع ما حوله، وحين يشعر بالعجز إزاء التحديات التي تواجهه. كما إن العنف منتَج سلبي عرضي من منتجات التطور الحضاري التائه في صحارى لا حدود لها من التعقيد التكنولوجي المادي المفرَّغ من القيم الروحية الموجِّهة. وذلك يشكل حالات فردية طارئة من العنف، لا تتجاوز أن تكون لطخة سوداء في صدر ثوب أبيض. أما حين يبرز العنف ويتعالق بتفاصيل الإنسان وفكره وسلوكه اليومي، من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، فعندئذٍ نحتاج لإعادة النظر بموروثات ومرجعيات تشكل ثقافة هذا المجتمع أو ذاك. فالعنف حالةً فرديةً مسألةٌ فطريةٌ. أمّا العنف نسقاً خفياً، يتجاوز الظاهر، ليتغلغل في دم الإنسان، ويحتلّ خلاياه، ليتسرب لاحقاً، من مكامن لاوعيه إلى فكره وسلوكه وممارساته، فلاشك هو مسألة ثقافية بحتة.
وفي مجتمعنا الشرقي المسلم العربي، يظهر العنف نسقاً ثقافياً متوارثاً متحكماً، دمغ جباهنا بسمة لا تمحى، مهما رفضنا واستنكرنا. ومهما حاولنا التزيّي بجلابيب اللياقة واللطافة المصطنعة، إلا أنه يتسلل خفياً من مساماتنا، ليعلن لنا على الأقل: أننا أولاد هذه التركة الثقيلة من بداوة جاهلية، وسوء فهم للدين، وما يترتب على ذلك من قيم نسقية، راحت تتحكم بطرائق تفكيرنا، وأساليب حياتنا، واتجاهات ممارساتنا، بما لا يؤثر على حاضرنا فحسب، بل على مستقبل وجودنا أيضاً.
لا أقول أن هذا النسق المضمر يتسرب في مواقف الاختلاف، حين تتحول أداة التفاهم والحوار إلى زعيق وصراخ يحمل دلالات الشتيمة والانتقاص والتسقيط، ولا حين تتحول اللغة إلى حركات جسدية، تدمي الأنوف، وتكسّر الأسنان. لأن هذه مواقف طبيعية يلجأ فيها الإنسان إلى العنف، ويتساوى فيها العربي والأعجمي، والقرشي والحبشي. فهذه مواضع العنف الطبيعية. لكن العنف المتخفي يكون نسقاً مسيطراً ومتحكماً حين يتسرب في غير موضعه وفي غير زمانه، لا لأن الموقف يقتضي عنفاً، بل ليعبر عنّا وعن خصائصنا التي لم نتقصد الاتسام بها.
في اللعبة الطريفة ( الكاميرا الخفية ) تتجلى ردود أفعال الأنسان حين يعرضونه متعمدين لموقف مذهل او مخيف أو مربك..والملاحظ أن ردود الأفعال هذه تختلف من فرد إلى آخر.. لكن هناك سمات عامة تجمع أفراد كل جنس أو ثقافة، وتجعلها مختلفة عن ردود أفعال جنس أو ثقافة أخرى.. فردود افعال أفراد المجتمعات الغربية في هذه المواقف غالبا ما تتسم بالاستغراب او اللامبالاة مما يشير إلى برود الأعصاب وتنتهي بالضحك  .. عكس ردود أفعال أفراد المجتمعات الشرقية المسلمة العربية أو العراقية.. التي تتسم غالباً بالتفاعل مع الحدث والتوتر والانشداد العصبي .. أو قد تؤدي أحياناً إلى ردود عنيفة لم يحسب لها القائمون على البرنامج، وتنتهي بالانفعال وربما البكاء في بعض المواقف… ونفهم من ذلك أن أفراد مجتمعنا غالباً متحفزون منشدون متوترون، يحسبون لكل طارئ، يتوقعون اعتداءً في كل ما يحصل لهم.. وهم جاهزون للرد العنيف.
ثمّ أليست خشونتنا في التعامل، وجفافنا اليومي مع الآخرين، قريبين وبعيدين إلّا مظهراً لاواعياً من تحكم نسق العنف بشخصياتنا!! فبعيداً عن أساليب اللياقة واللطافة ولين الجانب يعامل الأخ أخاه وأخته، ويمارس رب العائلة حياته الأسرية مع زوجه وعياله، بتسلط وقسوة غير مبرّرَين، لتنعكس لاحقاً على سيرته في المجتمع بحبه للسطوة والهيمنة وروح الغَلَبة والتنافس اللامشروع، مستنداً لشيوع قيَم الذكورة والفحولة إنموذجاً أعلى ينبغي احتذاءه لتحقيق الذات. والأنكى من ذلك كله أن هذا النسق يتسرب من المكامن العميقة في نفوسنا لينزّ قيحه في أرق اللحظات حميمية، وأدقها صميمية، لحظات تقتضي استنزاف المشاعر، وسفح الوجدان على أرائك الغزل أمام المرأة.. وإذا بالذي يقود المودة بيننا سباب وشتائم كما يقول جميل بن معمر:
          وأولُ ما قاد المودةَ بيننا      بوادي بغيضٍ يا بثينُ سبابُ
وإذا بالعيون الجميلة الحالمة سيوف فتاكة أو سهام قاتلة، وإذا بالمرأة الجميلة قاتلة ذبّاحة تسفك دماء العاشقين:
    إن العيون التي في طرفهـا حـوَرٌ      قتلننـا ثـم لـم يحيين قتلانا
    يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به      وهنّ أضعف خلق الله إنسـانا
وإذا باللحظات التي تثمل الإنسان ذكراً وأنثى نشوة ولذة، تتحول إلى معركة دامية حامية الوطيس، فيها غالب ومغلوب، ومنتصر وآخر في خسران مبين. يكثر فيها الضرب والطعن:
           فإذا طعنت طعنت في لبدٍ   وإذا نزعت يكـاد ينسدُّ
ولغتنا هي الأخرى تمنحنا الفحولة والغلبة، فالفاعل المنتصر هو الذكر الفحل، والخاسر الخائر هو الأنثى. وليس الأمر مشاركة وتفاعلاً…
وفي حديث اللغة ونسق العنف يمكننا المرور بجملة من الظواهر الدالة في هذا المقام، فهل هناك تفسير معقول لظاهرة (التغليب) غير نسق العنف والفحولة، حينما نخاطب جمعاً عمالياً يشتمل على (25 ) عاملة و ( 5 ) عاملين.. فنقول أيها العمال الأعزاء وكأننا نلغي العدد الأكبر لقيمة العدد الأصغر.. ولا نمنح الفعل تاء تأنيثه إذا عطفنا على فاعله غير العاقل الذكر مئة أنثى عاقلة!! فنقول ( حضر الكِتَاب والطالبات )!!  وظاهرة الطلب بأسلوب الأمر هي ظاهرة أخرى تشير إلى إسهام لغتنا في تعزيز نسق العنف ولا أريد أن أقول صناعته، فعلى الرغم من امتلاك لغتنا لأساليب أمر مختلفة كثير منها ( أمر تلطفي )، إلا أننا نميل بطبعنا لأسلوب الأمر الحقيقي وبصيغة فعل الأمر، وبصيغة الأمر الصريح: ( إفعل )!! والغريب في ذلك إنها صيغة يجوز لنا أن نخاطب بها الأعلى رتبة والمكافئ والأدني مع تخريج بسيط في التسمية الاصطلاحية لكل حالة. لا أزعم أن لغتنا المجردة لغة عنيفة طوى رقتها نسق العنف.. أبداً فلغتنا ككل اللغات تشتمل على دلالات العنف كما تشتمل على دلالات الرقة التلطف .. المشكلة في خيارات متكلميها الذين يميلون بطبعهم إلى انتخاب وتفضيل مفردات ودلالات ترشح بطريقة لا واعية لتشير من قريب ومن بعيد إلى تمكّن نسق العنف من استعمالاتهم اللغوية.
فهل اللغة هي التي تعكس خصائصها العنفية على مجتمع متكلميها؟ أم أن مجتمع المتكلمين هم الذين يعكسون خصائصهم العنفية على اللغة التي يتكلمون؟ سؤال يحتاج لإجابة علمية دقيقة، لا نزعم الإجابة عليه بهذه العجالة.. لكن يمكننا رصد تفاعل نسق العنف الاجتماعي ونسق العنف اللغوي، في إنتاج العنف في الأدب والشعر .. ليكرسه لاحقا في تفاصيل الحياة الشرقية.
 [email protected]