في باحة البيت الخارجية يوجد لدينا قفصٌ كبير يضم بين أروقته طيور ,ودجاج وبط وديك رومي هي حيوانات أليفة قسماً منها للزينة وللاستئناس بها ,وقسمٌ آخر يستفاد منها للبيت ,أمرُ عليهم بين الحين والآخر في محاولة للترويح عن النفس من متاعبها ومعرفة ما تحتاجه من أكل ,أثار حفيظتي شيءٌ غريب دققت في النظر ثم قرصت يدي كأن أكون في غير وعي لكني لازلت بوعي ,وجدت نسراً بين هذه الحيوانات البريئة التي لا تعرف سوى النوم والأكل ,نعم كان نسراً يعيش معهم ويبدو منذ زماناً بعيد متطبع بطباعهم وأفعالهم ,نظرت أليه ثم حدق بعينيه لي مطأطأ رأسه ينظر بخجل وحياء يبدو أنه مغلوب على أمره فما باليد حيلة ،أخبرته ما لذي جاء بك لهذا المكان ومن رمى بك هنا ؟؟
أجابني : هي عقوبةٌ لي لما فعلته لأني رفضت البيعة للجلاد ,ولم أتنازل عن فصيلتي الحرة ,فكان هنالك رأيان للتخلص مني ,الأول يُقضي بإصدار حكم القتل بحقي تحت مقصلة الضبا التي كانت تعتاش على جيفة الفريسة العفنة بأن تأخذ ثأرها مني فمخالبي لم تبقي لهم ذرا ,وعلاماتي شواخص وشواهد تحاكي ذاكرتهم ,والثاني هو أبعادي ونفي من المنطقة التي عشت فيها ووضعي بين هذه الحيوانات التي رأيتني فيها لأجل إذلالي والاستشعار بنشوة النصر وهم يروني منكسراً لا أملك حول ولا قوة , بعد خلعوا مخالبي وقصقصوا جناحي .
قلت له : إن هنالك عملية إحباط نفسي تعيشها جراء الظلم الذي لحق بك ,عليك التحرر من قيودك وأغلالك الداخلية الذاتية التي تؤرق ثورتك ,وأن تستعد لمحاولة التحليق في السماء حراً .
ثم سألني ماذا افعل ؟
فقلت له :عليك الصعود لسطح البيت ورفرف بجناحيك وعندما ترتفع شيئا فشيئا لا تنظر للأسفل فهو ماض ٍ مؤلم ,فكل إنسان وحيوان عليه العيش في بيئته المناسبة ,ثم قرأت له بعض الأبيات من قصيدة أبا القاسم الشابي لأشد عزيمته :
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ /كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّـاءِ ,أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً/ بالسُّحْبِ والأَمطار والأَنـواءِ/ لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى /مَا في قَـرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ/ لا يُطْفِئُ اللَّهبَ المؤجَّجَ في دمي / موجُ الأسى وعواصفُ الأَرزاءِ/ فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ فإنَّهُ / سيكون مثلَ الصَّخرة الصَّمَّاءِ/ لا يعرفُ الشَّكوى الذليلَة والبكا /وضراعَة الأَطفالِ والضّعفاء / / أمَّا أنا فأُجيبكمْ مِنْ فوقـكمْ /والشَّمسُ والشَّفقُ الجميل إزائي / مَنْ جَاشَ بالوحي المقدَّسِ قلبُه / لم يحتفل بفداحة الأعباء , ثم حلق عالياً بعد أن كسر حاجز الخوف الذي أمتلكه لسنوات طويلة ونصحته بأن لا يعود لدياره التي قبلت ورضيت بما جرى عليه .