من الصعب إيجاد تعريف محدد للزمن ، هل هو مجرد إيقاع محتم للحياة ؟ أم هو الناموس الخفي الذي يرسم مسارات حركة الكواكب وما ينتج عنها من ليل ونهار ؟ ، هل هو قانون للوجود كالجاذبية ؟ الزمن ، عجلة تدور بإتجاه واحد ، تاركة أثرا في الذاكرة ، إيقاف هذه العجلة أو عكسها ضرب من ضروب المستحيل حسب مفاهيمنا على الأقل ، لكنه ليس كذلك في الفيزياء النظرية ، لطالما تمنينا من كل أعماقنا أن يعود هذا الزمن للوراء عند خطب ما ، أو لتلافي حادثة أو خطأ ، أو موت ، أو لتلافي ذاكرة أليمة ، كم هي هشة هذه الحياة ، حيث يتآكلها مهما طالت ، شبح لامرئي وغير ملموس إسمه الزمن ، ففي لحظة قد ينهار كل شيء بعد جهد ، كم وددنا من الأعماق ، أن نبيع نصف أعمارنا مقابل عودة ثانية واحدة ، قد تجنّبنا الندم لبقية العمر بسبب قرار خاطئ ، أو منعطف حياتيّ لا نتمناه ، ونفس هذه الثانية أو أجزاءٍ منها ، قد تغيّر مسار حياة بأكملها ، كما يتمنى أحد معارفي ، لأنه حرك سيارته للخلف ، دون علمه أن طفلته كانت تلعب قرب الإطار فقتلها ، فاجعة أليمة لم تستغرق سوى أجزاء الثانية ! .
مفهوم الزمن يختلف من شخص إلى آخر ، مفهوم قد تمليه علينا الحاجة وطريقة إنغماسنا في الحياة وتعاطينا لأحداثها ، فالطبيب ينظر إليه كنبض للقلب وجدولا زمنيا للعلاج ، المهندس ينظر إليه حسب جدول العمل وتطور البناء وإكتماله ، الموظف الذي لا يحب عمله ، نراه يرمق ساعته كل حين ، وفي قرارة نفسه يتمنى لو يحترق هذا الزمن بسرعة ، الزمن في نظر الفلّأح ، هو المدى الذي بمقتضاه يرى زرعه ينبت ويخضرّ ويَينَع ، يتمنى لو يختصر هذا الزمن ليصل لوقت حصاده ، دون إدراك منا ، أن هذا الزمن يأخذ مأخذه من أجسادنا أيضا ، على هيئة ضريبة عمر لا رجعة فيها بعد فوات الأوان ! ، هكذا يصبح الزمن عزيزا عند الشيوخ ، حيث تضعف الحواس والإحساس بالحياة ، تصبح منزلة الوقت لديهم كبيرة لأنهم تأكّدوا ، أن الكثير منه قد مضى على هذه الأرض ، ولم يتبقى أمامهم إلا القليل وهم يقتربون من لحظات الوداع ، يعلمون أن الموت هي النبوءة الوحيدة الحقيقية والراسخة في هذه الحياة ، نراهم يقتصدون في الوقت بعد طول تبذير في الشباب ، ترى أحدهم يعتصر ذاكرته ليَجرِدَها ، عسى أن ينضح منها ما يجيب على تساؤله ، متى وكيف انفق وقته ؟ ، لكنه لا يجد حقا إلا (عشية أو ضحاها) ! ، يتغنى بالجمال ويمعن النظر في الطبيعة وكأنه ضيف سيرحل عنها قريبا ، وكأن صور هذا الجمال لم يكن لها وجود في شبابه ، وتظهر نسبية الزمن ، وتتسارع وتيرته بجنون دراماتيكي كلما تقدم العمر ، فيصبح هذا المتبقي من أعمارهم وكأنه (لا زمن) ! ، ونرى هذا الهزيع الأخير من الحياة يمضي بسرعة ، من هنا تحل الحكمة محل التهور ، والتأني بدل التسرّع ، والميل للهدوء بدل النزق وطول التفكير بدل الطيش .
يمر الزمن طويلا في الإنتظار وفي الأوقات الصعبة ، فنرى الدقيقة وقد صارت دهرا ، لكنه يمرق قصيرا مهما طال في الجو الممتع المريح ، فنتمنى لو يتوقف نهائيا ! ، إنه نسبي في نظرنا أيضا ، لكنها ليست (النسبية Relativity) تلك التي قصدها آينشتاين ، ففي الفيزياء ، لا تكاد معادلة تخلو من عامل الزمن (t) ، إنه كالعمود الفقري للفيزياء ، فحسب (أينشتاين) ، أن الزمن مرتبط إرتباطا وثيقا بالمكان (المادة) ، وأطلق عليه مصطلح (الزمكان Time space) ، فقبل الأنفجار العظيم (Big Bang) ، لم يُخلق الكون بعد ، فلا مكان ولا زمان ، وللمزيد بإمكان القارئ الكريم الرجوع لسلسلة مقالاتي الأربع (هل أثبتت النظرية النسبية عمليا ، مفهوم الزمكان) ، ووصل هذا العبقري إلى قناعة صاغها بمقولته المشهورة (الماضي والحاضر والمستقبل ، ليس إلا وهمٌ عنيد Stubborn Illusion) ! .
ينمو إدراك الزمن ، كلما تطوّر وعي الإنسان ، وكلما تشعبت حاجاته اليومية ، فأراد وضع معيارا لقراءته ، معيارٌ يكون راسخا وثابتا ، ولم يجد أفضل من حركة الأرض الدائبة حول الشمس ، فأنتهت قناعته أولا بتقسيم يومه إلى ليل ونهار ، ولكن الحاجة إتسعت فأراد تقسيم الوقت بدقة أكثر ، فقسّم اليوم الذي يبدأ بالشروق حتى الشروق التالي إلى 24 ساعة ، ومع تطور حياة الإنسان ، لجأ إلى النظام الستّيني الذي إخترعه السومريون ثم إستخدمه البابليون ولا يزال مستخدما ليومنا هذا ، فقسّم الساعة إلى دقائق ، ثم الدقائق إلى ثوان ، ثم إزدادت الحياة تعقيدا وتسارعت وتيرتها ، فلجأ إلى النظام العشري (Decimal System) بتقسيمه للثانية إلى أجزاء المللي ثانية (واحد بالألف من الثانية) ثم المايكروثانية (واحد بالمليون) ، والنانوثانية (واحد على المليار) ثم البيكوثانية (واحد على ألف المليار) ..
من المفارقة أن للزمن آلة تُتَكتِك مزروعة في صدورنا ، إنه القلب ، بإيقاعه الذي يذكّرنا بالزمن المتبدد مع ضخ الدماء ، ساعات بيولوجية ، تنبض في جسد كل كائن حي ، فنرى في حياتنا ، أشخاصا يروحون ويغدون ، ولم يعد لوجوههم وجود ، إلا في ذاكرتنا والصور ، تلك الذاكرة التي لا بد أن يتآكلها الزمن فيصيبها التشويش ، ذاكرتنا التي تنبهنا أن لا شيء يدوم ، وأن لكل شيء عمر ، ولا مكان للخلود مع هذا الأيقاع العنيد !.