ما أن نتتبع اخبار وقصص الفساد في وزارة الكهرباء وما يجري من نهب منظم للمال العام وحجم الاموال والاصول المنهوبة وطرق واساليب الحماية الادارية والقضائية التي يحظى بها الفاسدون في الوزارة حتى ينتابنا شعور راسخ بأن وصف بالفساد ما عاد يفي بأفعالهم, وان وصفهم بالطابور الخامس الذي يدمر الدولة بغطاء الفساد وصف اكثر دقة قياسا بحجم الفساد ونتائجه الكارثية على البنى التحتية للوزارة واصولها وممتكلاتها وعائداتها, وإرتهان قرارها بإرادات خارجية مهيمنة على القرار العراقي ولن يكون افضل من الفساد كتبرير للتمويه عن العمالة والجاسوسية.
وبعد أن عمد الفاسدون وكجزء من السياسة التخريبية الى افساد القطاع العام واجتثاث قيم النزاهة والامانة لدى الموظف العام وما نتج من انهيار للقيم والاخلاقيات الوظيفية, حتى ساد الاعتقاد بان دور الموظف الحريص الملتزم بالقيم الوظيفية قد ولى الى غير رجعة, وسيستمر الفاسدون في النهب على المكشوف دون رقيب وحسيب, الى أن اثبت احد موظفي وزراة الكهرباء (محمد رزاق المالكي) خطأ رؤيتنا، وإن هناك من لازال متمسكا بالقيم التي جبل عليها مجتمعنا والامانة الوظيفية التي عهدت اليه رغم الخناق والتضييق الذي يتعرض لها الموظفون الذين يتحلون بمثل هذه الصفات, فلا التهيدات ولا الاغراءات الدنيوية الزائلة ممكن ان تثنيهم عن مسعاهم في كشف الفاسدين وتقديمهم للقضاء لينالوا جزائهم العادل, و(المالكي) وبحكم مسؤوليته الوظيفية تمكن من كشف العشرات من ملفات الفساد وسلمها لاصحاب القرار المؤتمنين على المال العام والحانثين بقسم الحفاظ على الممتلكات العامة من المدراء العامين الذين تجاهلوا الامر وكأنهم شركاء في غنائم الفاسدين, ووزير الكهرباء الذي فصله من وظيفته قبل ان يعيده بضغط من رئيس حزبه, ورئيس هيئة النزاهة الذي احاله الى قاضي النزاهة وكان قاضي النزاهة وبالا على النزاهة, ورئيس مجلس النواب بالوكالة الذي احاط نفسه بالحمايات وتصرفوا مع (المالكي) كما يتصرف (بوديكاردات) النوادي الليلية, وهذا كله يثبت ان الفساد ممنهج ومنظم ومحمي من اعلى سلطات الدولة.
الرأي العام العراقي وعلى وقع تنامي الفساد في ولاية السيد رئيس الوزراء (محمد شياع) يتساءل: متى سيحارب السيد رئيس الوزراء الفساد كما ورد في برنامجه الحكومي واقسم على تنفيذه ان لم يتحرك مع كل هذه الادلة والمستندات لوقف مجزرة استنزاف المال العام في وزارة الكهرباء ؟ .. هل من المنطقي ان يحيل رئيس هيئة النزاهة السابق القاضي (حيدر حنون) بعض ملفات الفساد الى (محكمة النزاهة) فينقلب رئيس المحكمة التي تعنى بمكافحة الفساد الى حامٍ له ؟ .. هل من المنطقي ان مختلسة لمليارات الدنانير وبدلا من عقابها يتم نقلها الى مقر الوزارة وترقيتها الى منصب اعلى وفي موقع مالي اخطر من سابقه ؟ .. هل اصبحت الشركات تتجدد عقودها تلقائيا في هذه الوزارة وفق حجم سرقاتها لايراداتها حتى وان كانت مدرجة على القائمة السوداء ؟ .. لا يسعنا ان نعدد اكثر من قصص فساد هذه الوزارة في هذه المساحة الضيقة ولنا وقفات اخرى.
إن ما يجري في وزارة الكهرباء أثبت إن الاتجاه العام للنظام السياسي قد نجح في إضعاف النظم الرقابية وجمد القوانين والاجراءات الرقابية والادارية العقابية الرادعة بحق كبار الفاسدين وشددها ضد صغار الموظفين حتى وان كان عجز ذممهم المالية لا يتجاوز الدولار الواحد ! .. وهذا طبعا أدى إلى تقليص مساحة مساءلة الفاسدين في الدرجات العليا وسمح للفساد بالازدهار مع مساحة واسعة للمحسوبية في غلق الملفات, وبغياب المسائلة عد الكثير من كبار الفاسدين وتابعيهم ان ما يستحوذون عليه من المال العام دون وجه حق هو نوع من انواع الامتيازات وحق مشروع من حقوقهم التي يحظون بها, واخرون من مدعي التدين يختلقون اسبابا شرعية للسطو على اموال الدولة كفتوى (مال مجهول المالك) المشبوهة, والتي واستباحت المال العام وظلت احدى العقبات الرئيسية امام جهود مكافحة الفساد.
إن تقويض النخبة السياسية المهيمنة لاسس العدالة بتسييس القضاء وتفصيل القوانين حسب مزاجياتهم ادى الى المزيد من حالات إفلات الفاسدين من العقاب، بل وتشجيعه حتى من خلال إلغاء العقوبات التي قد تترتب على الفاسدين او بعقوبات هزيلة تثير حنق الرأي العام وسخريته. كما تغلغلت الأفعال الفاسدة مثل الرشوة وإساءة استخدام السلطة إلى العديد من المحاكم وهيئة النزاهة والاجهزة الرقابية الاخرى. وحيثما أصبح الفساد هو القاعدة، فإن الأشخاص العاديون كصاحبنا الموظف (المالكي) سيواجهون قيوداً جمة من اجل تحقيق العدالة في وقت يستولي الفاسدون بما امتلكوه من سطوة ونفوذ وعلاقات ومال فاسد على أنظمة العدالة بأكملها.
لا جدال من ان الفساد في وزارة الكهرباء محمي ومنظم, والفاسد وفق هذا النظام سواء اكان فردا او شركة يُمَهَد له الطريق لاعتلاء قمة المناصب وأهمها, وادامة بقاءه كأدات من ادوات النخبة المهيمنة والاستفادة من خبرته المتراكمة وبراعته في النهب والاستحواذ, وليكون الواجهة الاجرامية التي تخفي هوية الفاسدون الكبار ونواياهم التخريبية الحقيقية. وفي هذه الوزارة نرى بوضوح كيف انها استمرت بالتعاقد مع شركات فاسدة, حتى تلك التي ادرجت على القائمة السوداء, وكيف تمت ترقية موظفة مختلسة لمليارات الدنانير ونقلها الى مقر الوزارة بمنصب وصلاحيات تتيح لها الاختلاس بصفقات اعلى من السابق.
الفساد في وزارة الكهرباء سيستمر بالازدهار ما لم تتمكن الأنظمة الرقابية والقضائية من الوقوف على قدميها وتمكينها من إبقاء مؤسساتها تحت السيطر ومعاقبة الفاسدين, وأن تمارس الدولة واجبها في حماية موظفيها الذين يقفون بالضد من الفاسدين بما تمتلكه من شرعية حق استخدام القوة ومكافئتهم على امانتهم وتفانيهم في اداء واجبهم, وإسناد مسؤولية ادارة مؤسسات الدولة وفق معيار الكفاءة والنزاهة, وكسر القاعدة التي واضبت عليها الحكومات والوزارات المتعاقبة في تولي الفاسدين ادارة مؤسسات الدولة .. هذا ان كان السيد رئيس الوزراء جاد فعلا في في تنفيذ برنامجه الحكومي والاخذ بوصايا المرجع الاعلى الاخيرة وانهاء الفساد في البلاد.