23 ديسمبر، 2024 3:00 ص

أنتبهت الى حركتهم الغريبة في الضفة الثانية من النهر،وأنا لم أزل جالسا على كتف النهر منذ الدقائق الاولى لأنبلاج الفجر الذي أعلن عن بداية يوم جديد؛ لم أعر اية أهمية لحركتهم المريبة هذه،تابعت تآملي لمجرى المياه في النهر التى تلونت بألوان متعددة، حمر وصفر وبنفسجية التى شكلت بمجموعها، الأيذان بقرب إشراقة الشمس. كنت قبل لحظة قد ألتقطت صورة لهذا المنظر الأخاذ بالكامرة التى اهداني اياها صديقي في اليوم السابق، عندما زارني في عزلتي، كما هي عادته التى عودني بها للسنوات الماضيات، لم ينقطع ابدا، حسام صديقي او الحاج حسام في الوقت الحاضر وقبل سنوات من الآن، كان قد حج وصار( حجي حسام). أرتبط معي او ان كلانا ارتبطنا بصداقة متينة، قبل أكثر من سنتين من هروبي وعزلتي، لتستمر الى الآن، لم يفك في قوتها وصلابتها، تغييرات العمر وما كان يحيط بنا من تبدلات في الحياة واسالبيها وايضا عزلتي. هو من كان يبغلني عن تحركاتهم. : لاتأت الى البيت في هذه الليلة، فقد نصبوا الجماعة لك كمينا..على هذه الطريقة، كان ينقذني ويحميني، ولاحقا بعد زمن، عندما يأسوا او أهملوا موضوع مطاردتي، ربما لأسباب تتعلق بأنعزالي أو ربما اسباب اخرى خاصة بهم، كان يقضي يوما كاملا معي، احيانا يصعد معي في المشحوف، ونمارس معا صيد الاسماك في نهر دجلة. كان هو من يأتيني بالجديد من الكتب والروايات ودواوين الشعر. لم تكن هذه هي المرة الأولى بل سبقتها قبل سنتين،وفي فجر كل يوم، أتخذ من التلة الصغيرة، قرب الجسر، مكانا لجلستي التآملية هذه أو الجلسة التى تكتنز الانحاء المحيطة بها او بي بالمناظر البهيجة التى تجعلني او تصعد بي الى مكامن الفرح والسعادة. في فجر هذا اليوم، عدت الى عادتي التى فارقتها منذ سنتين،أن اتخذ من هذه التلة الترابية الصغيرة، على كتف النهر، التى تبعد بضعة امتار من الجسر، مكانا لتآملي. على الرغم من أني في العقود الطويلة التى كنت فيها ولم أزل، اسكن في هذا المكان القريب من جرف النهر بين نخيل البستان. كنت في الذي سبق من الزمن، أجلس قبل انبلاج الفجر، أمام باب الكوخ، تحت النخيل، أتسمع لحركة بدء الحياة، في أول حركة لها، من تفتح اوراق الشجرالقريب من النخيل او بين جذوعه وايضا حركة سعف النخيل، الذي تحركه رياح الفجر الهادئة. انصت بالسمع وبالابصار وبكلي الى زقزقة العصافير وتغريد البلابل وتحليق الحمام برفيف اجنحتها و كذلك بقية الطيور التى يكتظ بها البستان، والى اول الانوار التى سوف تطرد لاحقا، جحفل ظلام الليل، وبعدها حين يكشف الغسق في أخر جولة له في الوجود، قبل المغادرة، عن لوحة الوجود الأسر، أشد راحلتي، نهض وأمشي الى التلة الصغيرة. كنت اتجنب في السنتين الاخيرتين، الجلوس او المكوث على ضفة النهر، كرهاً مني لما صار له وجودا عسكريا وأمنيا مكثفا، في الضفة المقابلة، مع أني احبها بكم هائل من الحب، لأن هذا التواجد، يذكرني في السالفات من السنين التى انقضت..قبل عقود من الزمن الذي طويت سنينه واحدة وراء أخرى منذ كنت شابا الى هذه اللحظة التى صرت فيها، كهلا؛ عشقت النهر. فقد أمتهنت مهنة صيد الاسماك،كي أهرب من طريق الموت الذي أن لم اهرب في حينها، منه، لأدفعني أو وضعني في زنازين الاعتقال او السجن وربما البقاء فيهما حتى الانطفاء. أتذكر وقد بلغت من العمر مبلغا مديدا، رغبتي في العيش فوق مياه النهر وبين بساتين النخيل التى تمتد على جرفيه، كظلين للامان والفرح اللذان عززا في داخلي، رغبتي في ان اكون قريبا منه أو اجول بالمشحوف على سطح المياه فيه.النهر شكل بالنسبة لي او هكذا كنت افكر فيه؛ بأنه يمنحني مساحة واسعة من الحرية التى كنت في حينها والى الآن، اعشقها، لذا كانا؛ النهر والحرية،ركنان مهمان في حياتي او ان حياتي من غيرهما لامعنى لها أو من دون النهر وبستان النخيل البعيد، الذي صار لي مكمنا، يحميني منهم، ما كان لي ربما وجوداً اصلاً.عندما رحلا ابواي،فقد كنت وحيدهما، لم ينجبا غيري، بنيت لي كوخا من القصب والبردي في منطقة قريبة من زند النهر، اقضي فيه فترة راحتي في الظهيرة سواء في الشتاء او في الصيف، في مرحلة تالية، بعد سنوات، اتخذت منه، مكانا لسكني الدائم، نقلت إليه، حاجياتي وكتبي التى اعشقها ليس اقل من عشقي لحريتي وللنهر. في الليل وبعد ان أمَلُ من القراءة،أضع الكتاب على مقربة مني. لم أطفأ الفانوس، عندما يجافيني النوم وهو وفي اغلب الليالي، يبتعد كثيرا عني؛ حينها، كنت انصت الى اصوات الليل، التى تغرقني في التفكر في كنه الوجود وفي الكون وكائناته. تتوارد في ذهني الكثير من الأسئلة التى لاجواب عندي لها، تظل الاجوبة مدفونة في العمق العميق من هذا الكون اللامتناهي؛ لا أحد في الدنيا يمتلك مسبار يساعده في الحفر العميق في مكونات الكون هذا.على هذه الطريقة من التسائل؛ كنت اقول لنفسي. في سكون الليل تأتيني اصوات كائنات هذا الليل. وأنا أحدق في فضاء الكوخ، في الليلة التى انصرمت، وفي النور الضعيف للفانوس التى تنوس شعلته في الحيز الضيق لكوخي؛ سمعتُ فحيح بالقرب مني، من مكان مرتفع قليلا، فوق الكوخ، ربما هو فحيح لأفعى او لأفعوان. قلت لنفسي. ومن ثم وفي تزامن مع هذا الفحيح، تدافعت الاصوات، من وصوصة، مرة قوية وفي اخرى ضعيفة وواهنة، وأصوات حشرات الليل التى لا تكاد تسمع، تتداخل جميع هذه الأصوات مع عواء ونباح في مكان بعيد. الرياح وفي اغلب الليالي تكون هادئة تنشر السكينة والصمت المصوت بصوت الكون، لكنهما لم يكونا سكونا وصمتا بقدر ما كانا أصوات بلغة غير بشرية، لغة اخرى، لغة عميقة جدا، لغة موسيقى الكون، العابرة لجميع لغات الدنيا، الميتة والحية، لغة يفهمها كل البشر،على هذه الصورة او على هذا التصور، كنت اتصورها، وهي بهذه الصورة أو بهذا الواقع الحي الذي ينبع من اعماق روحي وبأشتغال عقلي لفهم ومعرفة كل مفردة فيها او كل نغم حي، يتدفق بالحياة؛ تمتعني، ويسعدني، السهر على انغامها الناعمة. أنظر من الفجوات في جدار الكوخ الى النخيل والاشجار والعصافير الهاجعة في اعشاشها وبقية الكائنات في بستان النخيل هذا، اتسمع الى لغة هذه الكائنات التى ما انفكت على الرغم من سكون الليل وصمته؛ تتحاور مع بعضها او هكذا او بهذا الانصات كنت اسمع كلماتها المتفردات. خشخشة بجانب الكوخ، عند جذر النخلة، سرعان ما تزايدت هذه الخشخشة، ربما هي للجرذان او للافاعي او اي من هذه الكائنات التى تحمل السموم والشرور والموت في رؤوسها او في اسنانها او في مخالبها، لكن في الدقيقة التالية؛ تنائى لي زقزقة العصافير في اعشاشها الكائنة في قلب النخلة هذه، كانت زقزقة رعب ورهبة وخوف. من ثم وبدافع الوقوف على الذي يجري بجانبي، مددت عنقي من الفتحة في الكوخ بعد ان وسعتها، وعلى ضوء القمر المكتمل والمعلق فوق هامات النخيل وتحت السماء التى بدت لي،مجللة بمصابيح النجوم المتلألئة؛رأيت الافعوان وهو يمد رقبته وفمه المفتوح على سعته بأتجاه لب النخلة التى كان في لحظتها هذه، السعف فيها، يتحرك، حركة عشوائية، لكنها مع هذا كانت تعيق حركة رأس وفم الافعوان المفتوح على كامل سعته، قلت مع نفسي او سألتني؛ هل ان النخلة تدافع بهذه الحركات عن عش العصافير؟!.. تزاحمت الاسئلة في رأسي، عن صراع الوجود وعن البقاء للأقوى في الحياة، وعن الحرية وعن الوجود وعن القوة التى تدعمهما وتسندهما وتوفران لهما الحياة والحرية والوجود، من دونها، لا وجود للحرية ولا للحياة الأمنة والمطمئنة. هنا وفي هذه الثانية؛ تدفق امامي ومن مخازن ذاكرتي التى انستني تلك الليلة المؤلمة والمخيفة أو أني من ابعدتها، مجبرا، كي أعيش براحة، عن فضاء تفكيري او عن ذكرياتي وعن حياتي وعن نفسي، تلك الليلة التى اجبرتني على ترك بيت اهلي في النهار، أتخذت من النهر، مكانا أمنا لي، بعيدا عن عيون الاعتقال او السجن حتى، أجول بحرية وبطمئنان،على وجه مياه النهر، في مكان نائي من النهر الذي يمر مجراه مخترقا، بساتين النخيل، والعيش في بطن المشحوف الذي أتخذت منه، مسكنا لي، في النهار، أما في الليل فقد كنت، ادخل خلسة وفي ساعة متأخرة منه، الى بيت أهلي، خوفا على نفسي من سياط الليل، السياط القاتلة00كنت في وقتها، أقرأ في رواية الأخوة كرامازوف لدستوفسكي، عندما جاءت جارتنا ووقفت عند الباب وهي تنادي على امي، همست ببعض الكلمات لها وهما يقفان على عتبة الباب، لكن أمي حين دخلت الى البيت، كانت ترتجف وهي تقول لي وبصوت منكسر وخائف جدا، كان كل جزء من جسدها يختض بقوة،مما جعلني ارتبك أنا الاخر، قلت لها ما بك؟.. قالت بكلمات مرتعشة في حلقها، تكاد لاتخرج منه الا بشق الانفس: اهرب بسرعة..مالأمر؟ سألتها.. أنهم قادمون..أما والدي فلم يقل كلمة، لاذ بالصمت، لكنه وكما أتذكر الآن، لم يكن صمتا بمعنى الصمت، كان صراخا قويا،رأيته يزم كلتا شفتيه، كأني به يريد ان يقطعهما من شدة الغضب الذي كان في حينها ظاهرا عليه، فقد كان يشد بقوة، كلتا قبضتيه.. من يومها، كان النهر وصيد الاسماك اللذان اعشقهما؛ ملاذا لي ولحريتي التى اخترتها بعد ذلك وفي السنوات التى تلت بمحض إرادتي عندما تقادم الزمن عليَ وحدثت الكثير من التغييرات في حياتي وفي جميع مناحي الحياة بصورة عامة. اشتدت الطقطقة في النخلة مع ارتفاع العواء والنباح في البعيد؛راعني المنظر الذي واجهني وأنا اعيد التركيز على صراع الوجود بين عش العصافير وفم الافعوان الذي أمتلأ بجسد العصفور الذي كان يزقزق بخفوت، كأني به يقول بهذه الزقزقة التى هي اقرب الى التأتأة البشرية، تأتأة الارتباك والخوف والأستنجاد، منها الى زقزقة الحرية والفرح اللتان عُرفت بهما، العصافير. أنتشلتني من دروب ذاكرتي، القوة الكبيرة التى تضرب بها الاقدام العسكرية، سطح الجسر، وهي تقترب مني، سبقها صيحاتها التى لم استطع أفهم أو أعرف، ما كانت تقول تلك الافواه الغاضبة او التى بدت لي انها في حالة هيجان وغضب، مما اثار استغرابي لهذا الغضب الذي رأيت فيه، غضب غير مبرر او لايوجد ما يبرر هذا الركض وهذا الصراخ. لم يطل بي او لم تطل بي الحيرة او الاستفهام عن هذا الهيجان وكأنهم يطاردون عدو لهم غير مرئي بالنسبة لي لكنه مرئي لهم: ماذا تفعل هنا؟..قالها بلغة عربية ركيكة، لم أجب في الوهلة الاولى فقد ألتبس علىَ الامر، قبل السؤال الذي رأيت فيه، عبث السؤال أو لاجدواه، الموجه لرجل كهل مثلي وفي اخريات العمر. في الضفة الثانية، كانت هناك حركة الهمرات واخرى متوقفة امام الباب الفخم، المحاط بالحراس المدججين بالسلاح، الذين كنت وفي الذي سبق من الزمن أو كان في داخلي وبدفع مني، برؤية عقلي، الرافض اصلا، رفضا تاما لهم ولوجودهم، هنا، على هذه الأرض المحاطة بالبساتين، أو هو في الحقيقة، مقتا لهم ولهذا التواجد العسكري المكثف، وفي المكان المحاط بالبساتين الذي يقع في الطرق القصي من بغداد،العاصمة،او وهذا هو الصحيح، كنت اتجنب ان يقع نظري عليهم، في اول رويتي للفجر الذي يسبق شروق شمس الصباح، وليس الخشية او الخوف منهم ابدا لم يدر هذا الامر في خلدي وانا في هذا العمر، لكني كنت على خطأ. ماهذا؟ سألني كبيرهم الذي عرفت أنه هو كبيرهم، من الطريقة التى يتحدث بها، ومن اصطفاف الاخرين خلفه. كسر هذا الكبير الكامرة خاصتي والتى التقطت بها؛ بعض الصور لفجر هذا اليوم، واخر صورة التقطتها قبل دقيقة، كانت الصورة لحمرة الشمس وهي تنهض من وراء النخيل خلف هذه البناية الفخمة، التى ذكرتني في لحظتي هذه، لا أدري لماذا؟ لم أتذكر قبل الآن، ما قاله لي أبوي، ذات يوم، ونحن نمر في نزهة للترفيه، من امام بابها الفخم الذي علاه الصدأ بفعل الزمن والاهمال؛ هذه البناية، كانت ذات يوم، مقرا لأحدى فرق الجيش البريطاني المحتل. أعدت هذه المرة التركيز عليها مليا، وعلى المباني القليلة الاخرى التى لم تكن موجودة، في ذلك اليوم، قبل عقود، في هذه الانحاء. هي الآن، على شكل مجموعات صغيرة من البيوت المتجاورة، والمتباعدة كمجموعات، بعضها عن البعض الاخر، للفلاحين واصحاب البساتين. أقتادوني، مكبل اليدين والكيس في رأسي. عندها، تذكرت ذلك الليل البعيد، قبل عقود كثيرة..في لحظتي هذه، طن في أذنيَ؛ هتاف، كان من القوة بحيث شعرت ان رأسي يكاد ينفجر. مع أننا أنا وهؤلاء، كنا نسير بصمت ولاشيء اخر غير السكون والسكوت، لكن صوت الهتاف يواصل شق جمجمتي. سألت نفسي ودوي الاصوات لم يزل يهزرأسي؛ هل انهي به، قصتي هذه أم اتركه كي لاأدمر به قصتي، فلا أحد سوف يصدقني، بكل تأكيد، سوف يعتبر الذي يقرأ هذه القصة والتي هي قصة واقعية تماما،انها مجرد تهويمات لاوجود لها في الواقع. لم اكن أومن او أتفهم ما جاءت به، الباراسايكولوجيا من طروحات،حول التخاطر وسماع بعض الاشخاص الذين يحوزون على خاصية الباراسايكولوجية، لجلجلة الأحداث القادمة من المستقبل، لكن الهتاف، كان حقيقيا، يواصل الطرق على رأسي؛ نريدُ وطن..أخيرا وقبل ان نصل الى باب البناية الفخمة، عقدت العزم على ان انهي به قصتي هذه..لذا كتبته، واترك البقية لفهم القاريء الذي اثق به، ثقة تامة..