“كان الله بعونك يا أم سمير، والله إني أدعو لولدك سمير كما أدعو لولديّ أحمد وحسام ، فك الله أسرك يا سمير، وأعاد الله لي أحمد وحسام بالسلامة “.
نظرت أم سمير إلى أمي نظرة طويلة ، ردّت شاردة :
” تعرفي يا أم أحمد ، أحياناً كثيرة أحمد الله أن ابني سمير حالياً بالسجن !”
دهشتُ لقول أم سمير ، وقد كنت أجلس في القسم الثاني من الصالة ، منشغلاً بحاسوبي أعد حلقة بحث للكلية ، أحبُّ التلصلص أحياناً على أحاديث النسوة اللاتي يزرن أمي.صاحت أمي :
” ويلك أم سمير ، وهل تفرح الأم بسجن ولدها ؟” .
سمير يقضي فترة عقوبة بالسجن العسكري ، إثر وشاية من أحد زملائه مفادها أنه خطط مع زملاء له للهرب من الخدمة العسكرية .انتظرتُ ردّ أم سمير التي قالت ساهمة :” نعم ، أشعر أني مطمئنة على سمير في سجنه هذا ، فهو لن يقاتل في هذه الحرب الغبية ، ولن أخاف عليه أن يُقْتَل أو يَقْتُل أحداً من أخوته أو ربعه ، الحرب لعينة يا أم أحمد ، ما الذي جرى لنا ؟! من المستفيد من كل ما جرى ؟ أليس من دخل بلادنا غريباً ليشرب من دم أبنائنا جميعاً؟”.
أنا ثالث ولدٍ في عائلة مكوّنة من أب وأم و ثلاثة شبان وأختي الصغيرة نجوى ذات الستة عشر ربيعاً.
أخي الكبير أحمد أنهى دراسة الهندسة المدنية والتحق بالخدمة العسكرية، وكان على وشك إنهائها حينما تفاقمت (الكارثة )في بلدنا حينها أُوقِف تسريح المجندين الذين أنهوا الخدمة، وتم الاحتفاظ بهم كمجندين احتياط، أما أخي حسام فقد أنهى دراسة الطب ، وعُيّن طبيباً في مشفى عام في منطقة ريفية وباشر العمل به كخدمة ريف ، لكن هذه المنطقة سرعان ما اشتعلت وأصبحت من المناطق الساخنة التي تدور فيها معارك طاحنة بين السلطة والمعارضة، لم يشأ الخروج منها مؤمناً أن من واجبه أن يقوم بعمله الطبيوالإنساني اتجاه أهل هذه المنطقة المنكوبة .
تصلنا أحياناً أخبارٌ منه تطمئننا أنه مازال بخير .
تنظر أمي إلى أم سمير، تقترب من أذنها متلفتة يمنة ويسرة، وتهمّ بإخبارها سرّاً، تذهب أذني باتجاه فمها باذلاً أقصى جهد لاقتناص كلماتها الوجلة :” لا أخفيك يا أم سمير ، قلبي يأكلني على أحمد، لا أدري لِمَ أتوجّس اليوم خوفاً عليه ، كما أنّ حسام لم يكلمنا منذ أيام، ونسمع بالأخبار أن المنطقة هناك مشتعلة هذه الأيام، الله يستر …”.لا أدري لِمَ انقبض قلبي أنا أيضاً، لكني حوقلتُ واستعذت بالله من الشيطان الرجيم …كان الوقت ظهراً ، والدي عائد من صلاة الظهر، آيات التعب تُقرأ على قسمات وجهه جليَّة ، و أشياء أخرى غريبة، لم أستطع إدراك كنهِها، أبي ذلك الوقور الذي أحبَّه واحترمه كل من عرفه، والذي تقاعد منذ سنوات قليلة عن منصب مرموق كان فيه أنموذجاً للشرف والإخلاص، تقول أمي فيه قصائد تتغنّى فيها بطيب معشره ودماثة أخلاقه، وحكمته و.. قوة جَلَده و صبره، أما نحن أبناؤه فشهادتنا فيه مجروحة، أجزم أنهم لو جعلوا جائزة عالمية للأب المثالي لكان سيحصد إحداها حتماً.صفير سيارات الإسعاف مترافقة بإطلاق الأعيرة النارية التي تنبئنا أن هناك شهداء جيء بهم من جبهات القتال لتسليمهم لذويهم، اعتدنا على هذه المظاهر كون بيتنا يقع على مقربة من المشفى العمومي الذي غالباً ما يأتون بالشهداء إليه أولاً، لكن السيارات توقفت تحت بيتنا، والأعيرة النارية تنهار كالمطر في فضاء الحديقة الصغيرة التي تحيط بالبناية خاصتنا، وطرقٌ عنيفٌ على باب البيت جعلني أُوقن أن هواجس أمي الصباحية قد آتت أكلها، وأن الآيات الغريبة التي اكتست وجه أبي قد انجلت معالمها ..صرخة مكتومة أطلقها أبي لتسقط أمي مغشياً عليها …!
ويتدافع ضباط وعساكر، يتقدّم أعلاهم رتبة من أبي الذي وقف هَرَماً، ثمّ هوى على أريكة مجاورة، والضابط يخبره أن أخي أحمد قد ارتقى شهيداً وهو يؤدي واجبه في الدفاع عن الوطن، ثم يأمر الجنود بإدخال التابوت الذي حوى جثمان أخي أحمد …!تقدّمتُ من التابوت، وبقوى خائرة رفعت غطاءه، نظرت داخله ثم أغلقته بسرعة ..!
لم أر ملامح أحمد، فالجثمان بلا ملامح ..!
لكني شممت رائحته ..رائحة أحمد التي لا يخطئها أنفي أبداً …
ساد الهرج والمرج بيتنا، أمي وقد أحضرت الجارات الطبيبَ لإيقاظها من الغيبوبة التي وقعت فيها من هول الصدمة، وأبي الذي التف حوله رجال الحي لمواساته والشدّ من أزره، وأختي نجوى التي حضرت من المدرسة، ولم تدرِ ما الذي حصل، لتفاجأ بحشود الناس تحت بيتنا، تدخل وتنهار إلى جانب أمي، وأنا المصعوق المتخشّب أنظر إلى كل شيء دون أن أرى أي شيء…!إحدى الجارات تطلب مني أن أردّ على الهاتف على شخص يصرّ أن يتكلّم مع أحد أفراد البيت لأمر هام، تحاملت على نفسي، لأسمع على الطرف الآخر صوتاً يحمل رسالةً ثانيةً من الموت، (الدكتور حسام ارتقى شهيداً تحت أنقاض المشفى الذي باغتته السماء بهطل موت ونار …!
لم يستطيعوا انتشاله ، رقد حيث قضى ….!).
كان التشييع مهيباً، تجلّد أبي ومشى في موكب الجنازة يحمل تحت إبطه( بقجة )استغرب الجميع تصرّفه، حاولت أن أحزر ماذا يوجد داخلها، وعجزت …!
عندما وصلنا إلى المقبرة، كان الحانوتي قد حفر قبراً ضم جثمان أخي الشهيد أحمد، بعد أن انتهت كل مراسيم الدفن، تناول أبي المعول من الحانوتي وشرع بحفر قبر ثانٍ بجوار قبر أخي أحمد، وأمام استغراب الجميع طلب أبي مني مساعدته، وشرعت بالحفر والكلّ يشير إشارات معناها أن أبي قد فقد عقله من هول الصدمة حتماً، عند عمق ضحل، أشار إليّ أبي أن كفى، وضع البقجة على الأرض، فتحها، أخرج منها ( روباً أبيض ) كان أخي حسام يرتديه أثناء الدراسة في كلّيته، في البقجة زجاجة كافور، أراقها أبي على الروب، عطّره به، ثمّ مدّده في الحفرة، قرأ الفاتحة، ثم أهال عليه التراب.
قبران متجاوران، شاهدتان متشابهتان، حملتا نفس العبارات، وبنفس التاريخ …. والأسماء : الشهيد أحمد، الشهيد حسام .