18 ديسمبر، 2024 11:01 م

نحَنُ ومُحمَد ومشكلة العقل ذو البعد الواحد

نحَنُ ومُحمَد ومشكلة العقل ذو البعد الواحد

ربما تساءلنا يوما ما، لماذا خلقنا بثنائية بعض الأعضاء كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والرئتين والكليتين، في حين خلقت الأعضاء الأخرى واحدة، كالرأس والقلب واللسان والعقل. وتصورنا كيف يكون الحال لو كُنّا بعين واحدة مثلا، كما هو الحال في المخلوق الأسطوري، أو الغول العربي، أو انتيخريستوس (المسيح الدجال) الذي يوصف بالأعور.
لا شك أن هناك فائدة من وجود هذه الثنائية في الأعضاء. وإن ذلك يتيح للإنسان رؤية الأمور من جوانبها المختلفة، وإن الإعتماد على إحداها مثل عين واحدة أو أذن واحدة أو غيرها، إنما يجعل النظرة قاصرة على جانب واحد، والإستماع قاصر على رأي واحد. كما إن وجود أحادية الأعضاء الأخرى فيه حكمة ليكون القرار فيها موحداً ومجنباً للانقسام.
الوحش بعين واحدة
وإذا كانت مسألة وجود مخلوق بعين واحدة هي من الأساطير والخيال العلمي، فإن الكثير من الناس، وهُم بالمليارات يعيشون على سطح هذا الكوكب، إنما هم في الواقع أشبه بهذا المخلوق، حيث يرون جانباً واحداً من الحقيقة إستنادا لقناعات موروثة، دون بذل أي عناء في البحث والدراسة والتدقيق والتمحيص.
وإذا كانت الأديان هي أول من حذر من وحش كهذا، فإن رجال الدين (في أي دين) هم أوائل من خلقوا هذا الوحش ذو العين الواحدة، عندما لقنّت أتباعها ومعتنقيها بمفاهيم جامدة خلقت ورسخت هذا الوحش في نفوسهم، عندما قسمت البشرية الى فئتين لا ثالث لهما، هم المؤمنون والكفار. وقاد ذلك الى صراعات دموية وحروب فتاكة وضياع للبشرية وهدم للحضارة المشتركة للإنسانية جمعاء. وما زال الصراع مستمر ويشتّد يوما بعد يوم في الآونة في الأخيرة. فالحروب الصليبية التي إستمرت قربة مئتي سنة (1096 – 1291)، قامت على نظرتين قاصرتين من جماعتين بشريتين، الأولى تمثل الأوربيين الذي إعتقدوا إن الإسلام دين سيء وإن المسلمين مجرمين، والثانية تمثل المسلمين الذي ترسخ لديهم الإعتقاد بأن المسيحيين هم كفار، وإن الإنجيل محرف، وإن المسيح لم يصلب. بالطبع، فإن الأسباب الأخرى هي محل اعتبار أيضاً، مثل الأسباب الاقتصادية، ودوافع الكنيسة في التخلص من معارضيها، وضمان عدم إنتهاك المسلمين لطريق الحج المسيحي للأراضي المقدسة، وغير ذلك. ولكن هذه تبقى أسباب ثانوية أقل أهمية من التزمت الفكري والإنغلاق الثقافي الذي ولّد حضارات مغتربة عن بعضها البعض، بحيث إن التفاهم بينهم يجري وفقا لحوار الطرشان.
ولو إبتعد الطرفان قليلاً عن معتقداتهم القاصرة، لأدركوا مجمل اللوحة، ولتوضحت لديهم الصورة كاملة. فماذا سيكون موقف الطرفين لو قال أحد لهم: بأن محمد كان مسيحيا في أول عهده في مكة، وكان أول زواجه وفقا لقواعد الزواج الكنسي، وإنه صام الصوم اليهودي المعروف بصوم يوم الكيبور عند قدومه المدينة. وإن المسيح إنسان بسيط متواضع يدعو للمحبة والتسامح بعيداً عن الصورة الخيالية التي رسمت له.
النظرة القاصرة سبب رئيسي للحروب
لقد كانت النظرة القاصرة سبباً رئيسياً لكثير من الحروب، بل كانت هي المحرك الرئيسي لها، ولكنها لم تكن غايتها، لان غايتها كانت المصالح الاقتصادية بدافع الجشع المادي. وهي التي أسست لاحقاً لنظم الإستغلال البشري، كالعبودية والإستعمار والرأسمالية، وغيرها. ولا حاجة للخوض في تفاصيل الحروب الكثيرة التي شنت تحت شعارات براقة ولكنها كانت مخادعة وكاذبة مثل الدفاع عن الدين، كما في الحروب الصليبية، أو تحرير الشعوب أو حقوق الإنسان أو حقوق الأقليات، وغير ذلك. لا بل أن الدولة التي تأتي لتدافع عن دينك، هي ذاتها لا تتم لهذا الدين في بلدها، والأقليات التي يدافع عنها في بلدان أخرى، إنما تصبح بدون حقوق عندما تنتقل للإقامة في البلد الذي دافع عنها، ولا يملك المواطن هناك أن يحتج بأنه من الأقليات المضطهدة، لإنها أصلا لا تقبل مثل هذه الحجة، ولا تستمع لهذا الادعاء.
واليوم، ونحن على حافة حرب عالمية (أو كونية-كما سميت في الحرب الاولى) جديدة، ستدفع البشرية مرة أخرى ضريبة نظرتها القاصرة بعين واحدة، وغياب النظرة الشمولية لمجمل الصورة، والتمسك ببقعة صغيرة من اللوحة والتركيز عليها وتفسيرها تفسيراً حرفياً متزمتاً، في حين إن الإبتعاد قليلا عن هذه البقعة والنظر للوحة بشمولية سيزيل الكثير من المفاهيم الخاطئة التي ولدتها النظرة القاصرة، وسيعطي فهما متكاملا لمجمل الصورة، ويغني الانسان بفهم أوسع.
وإذا نظرنا الى الحراك البشري اليوم، وخاصة السياسي منه، فإننا نرى جماعات متعارضة تتحرك وفقا لنظرتها الأحادية الجانب، على الرغم من وجود تفاهم وتعاون وتنسيق زائف وموهوم بينها. وغالبا ما تؤدي هذه التفاهمات الزائفة الى نتائج أسوأ من فهم الإختلاف، وقبول الرأي الآخر، والإستغناء بالتنوع. وخير مثال على هذا التفاهم المخادع هو تعاون المسلمين مع الامريكان لضرب السوفييت الملحدين. ولكن ما هو الموقف، إذا ما تبين لأي مسلم لاحقاً بأن مفكر الاشتراكية ماركس، أو مؤسس الشيوعية لينين كانوا أكثر إيمانا من أي رئيس أمريكي؟ لا شك، إنه سيشعر بحجم غباءه الكبير. إن هذا الموقف يذكرني بزميل في الدراسات العليا، كان قد أعجب بأحد المصادر العلمية الأجنبية، وشرع في ترجمته، ورغم كل النصائح بتركه، إلا إنه إستمر في جهوده المضنية، ليكتشف لاحقا، إن هذا المصدر قد سبق ترجمته، فأسقط بين يديه.
وبالمقابل، فإن تفاهم أمريكا وتقاربها من السعودية وحضور قمة أمريكية-سعودية، إنما هو مجاملة دبلوماسية ليس إلا. وإن الموقف الحقيقي للرئيس الأمريكي هو ما عبّر عنه أثناء الانتخابات، بأن السعودية ليست أكثر من “بقرة حلوب”. فالأمريكي ما زال مقتنعا إن السعودية وإسلامها هما مصدر الإرهاب في العالم، ولا يغير من الأمر شيء، عندما تقوم أجهزة الدبلوماسية بتصحيح تصريح مسؤول رفيع هاجم الإسلام وأتهمه بالإرهاب، بأنه لم يكن يقصد كل الإسلام، بل الإسلام المتطرف فقط.
ويجب الإنتباه الى حقيقة هامة، إن هذه الصراعات الفكرية ليست هي بيت القصيد في غالب الأحوال، بل هي وقودها التي تزيدها إضطراما وأواراً. فالحروب الصليبية لم يقصد بها هداية المسلمين الى المسيحية بل كسر شوكة المسلمين وسرقة ثرواتهم، بدليل إنها لم تجلب الخير لمسيحيي البلدان العربية، بل إن إعدادهم تناقصت بشكل كبير بعد تلك الحروب، وهدمت الحواضر المسيحية الكبرى في الرها وغيرها، وسرقت كنوزها ومخطوطاتها التي تملأ اليوم متاحف العالم. وما حدث في الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي، قد تكرر في العراق في مطلع القرن الحادي والعشرين، عند الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003، فبعد أن إستبشر مسيحيّو العراق بمقدم أبناء دينهم الغربيين، إنخفض أعداد المسيحيين في العراق خلال عقد واحد من مليون واربعمئة ألف مسيحي الى 350 ألف مسيحي الآن. وإذا كان رجل الدين المسيحي محل تقدير وإحترام من المسلمين في مختلف العصور الإسلامية، بحيث لم نسمع أن مسلما صفع كاهناً مسيحياً طيلة عهود الدولة الإسلامية المتعاقبة بإستثناء الصراعات السياسية، بينما في العهد المسيحي الجديد (برعاية أكبر الدول المسيحية) رأينا الاسقف المسيحي مقتولاً ومرمي في القمامة.

الصراع في وسائل التواصل اليوم
وقد أتاحت ثورة الاتصالات اليوم، وسائل تعبير سهلة عن خوالج النفس البشرية لكل إنسان، وقد كشفت إحدى تلك الوسائل (الفيسبوك)، بإعتراف مؤسسها، عن مدى القيح الفكري الكبير لدى البشر في صراعاتهم، بما دفعه للتفكير جدياً في التخلي عن هذه الوسيلة الواسعة الانتشار من وسائل التواصل الاجتماعي والتي تجاوز عدد مشتركيها ملياري مشترك، أي ما يقارب سدس سكان الأرض.
ويمكن إيعاز الصراعات الحضارية للبشر الى ثلاثة أمور هي: –
صراعات سياسية.
صراعات دينية.
صراعات إجتماعية.
فاليوم، إنقسم الناس في كل المسائل السياسية التي تسود العالم. فإنقسم العراقيون حول فائدة الوجود الأمريكي، لا بل إنقسموا حول تسميته إبتداءً، فالمستفيدون سمّوه (تحريراً)، أما المتضررون فسمّوه (إحتلالاً)، ولمعرفة أي الموقفين أصح، ما علينا سوى أن نتذكر إن الأمم المتحدة قد عدّته إحتلالاً بموجب قرارها المرقم 1483 الصادر عن مجلس الأمن في 22/5/2003 (وإذ يسلِّم بالصلاحيات والمسؤوليات والالتزامات المحددة بموجب القانون الدولي المنطبق على هاتين الدولتين “أمريكا وبريطانيا”، بوصفهما دولتين قائمتين بالإحتلال(.
وإنطلق أصحاب التحرير من المؤيدون لهذا الاحتلال، بالتحليق في الخيال بأن الأمريكان سيجعلون من العراق ولاية أمريكية متميزة بالخدمات. ولكنها بعد فترة قليلة كانت النتائج على الأرض تشير الى إنهم قد ألحقوها بالصومال. وعلى نحو مماثل إنقسم السوريون مثلا، بين مؤيد للنظام ومعارض له، وكذلك اليمنيون وغيرهم.
وغالبا ما ينطلق العراقيون في تحليلاتهم للوضع العراقي الراهن من تصور أفلاطوني لا يحيدون عنه، لذا تراهم يطلقون أحكاماً بفشل سياسيي العراق بعد عام 2003 في إدارة العراق، وتقديم الخدمات، وضمان الأمن وإحترام حقوق الإنسان. ولم يدر بخلدهم وجود سياسي يسعى بكل جهده لتحقيق عكس هذه الصورة تماما. وهم معذورون في ذلك، لإن الصورة النمطية عن الانسان، على سبيل المثال، إنه يسير على قدميه، ولكن عليهم أن يتوقعوا أيضا نوعا أخر من البشر، وإن كان إستثناءاً، يسير على أربع كالحيوانات. وهكذا سياسيو عراق اليوم، فهم يشكلون حالة إستثنائية، فقد جاءوا بهدف تدمير العراق لا تعميره، وسرقته لا تنميته، والإنتقام من المواطن لا خدمته. صحيح إنها حالة استثنائية، ولكنها موجودة وقائمة. إنها مثل أي مرض نفسي يصيب الإنسان فيخرجه من حالته الطبيعية الى حالة شاذة، وعلى الناس أن لا يعاملوه على إنه إنسان سوي وطبيعي.
وأما فيما يتعلق بالدين، فقد إنقسم دعاة الدين بين من يمدح دينه وينتقد الدين الآخر، وبين من ينتقد دينه ويمتدح الآخر. والاقبح من ذلك، أن ترى أنصار كل دين يعرضون، في كل يوم، قصص إهتداء أحدهم لدينهم وترك الدين الآخر، وكأنما هم فئة قليلة تبحث عن نصير، في حين إن تعداد مؤمنيهم يتجاوز المليار إنسان. وبقيت فئة ثالثة صغيرة هجرت كل الأديان وأعلنوا الإلحاد. وزادت حركة البحث في النصوص الدينية لتأييد كل فريق، إلا إنها جاءت بشكل أسخف من الإنغلاق الفكري السابق. ومن يستمع اليوم لأحد تلك البرامج سيصاب بالغثيان، رغم إعتماد البرنامج أدوات البحث العلمي، ولكن بشكل سقيم. واليوم لا يقل المسيحي تطرفا عن المسلم، ولا يقل أحدهما غباءً عن الأخر. والمسألة لا علاقة لها بدين الشخص بل بنمط تفكيره، وكما إن التطرف لا دين له، فالغباء كذلك لا دين له، ولا جنسية له كذلك، فقد تجد عربيا أذكى من الكثير من الاوربيين والامريكان، وربما تجد أمريكي أغبى من أي عربي متخلف. فالمسألة تتصل بمدى إستخدام أدوات الحضارة والإستفادة منها في تطوير المعرفة. وعندما يتجادل المسلم مع المسيحي، ينطلق من مفهوم (أن الدين عند الله الإسلام) وما عداه من الأديان إنما هي كفر والحاد. فيما ينطلق المسيحي في جداله مع المسلم من فكرة فلسفية إن المسيح هو إبن الله، ومحمد إبن أمنة. ولكن كيف سيكن موقفهما لو ظهر لاحقا بإن منطلقاتهما الفكرية لا تستند الى الحقيقة. ولنتذكر ما قاله البابا بندكتس السادس عشر في راتيسبون جنوب ألمانيا بتاريخ 12/9/2006″ وذكر مقطعا من حوار دار في القرن الرابع عشر بين امبراطور بيزنطي و”فارسي مثقف”. ويقول الامبراطور للمثقف “أرني ما الجديد الذي جاء به محمد. لن تجد الا اشياء شريرة وغير انسانية مثل امره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف”.
إن ما أورده البابا إنما يمثل تفكير عقلٍ ذو بعد واحد. وعادة ما ينظر هؤلاء الى جزء من الصورة وهي حياة المسيح ويتناسون نهايته المؤلمة لأنه لم يستخدم السيف، ويتناسون هرب تلاميذه وتركهم لمعلمهم، ونكران معرفتهم به، كما فعل بطرس، وإن المسيحيون الأوائل ظلوا يجتمعون في المقابر طيلة ثلاثة قرون، وإنه لولا سيف الامبراطور الروماني قسطنطين الذي فرض المسيحية على سائر شعب الإمبراطورية والذي منحته الكنيسة لقب قديس، في حين لم يثبت حتى الأن إهتداءه للمسيحية، لولاه لظل المسيحيون يجتمعون حتى الأن في القبور. إن من يفكر بالشكل الذي أورده البابا في ذلك النص، إنما يريد من جميع الأنبياء أن يكونوا نسخة مثل المسيح، وأن يكون مصير جميعهم القتل ونهايتهم الصلب.
أما الصراعات الاجتماعية فتتمثل في الصراع بين الرجل والمرأة، ومجتمعاتها الذكورية والأنثوية. ويقوم هذا الصراع أساسا على النظرة القاصرة للمرأة في عقلها ودينها. وظهر قطبان أحدهما يدعو لتحرير المرأة دون أن يحدد مدى هذا التحرر، وحدود هذه الحرية. وقطب أخر يدعو لتقييد المرأة، دون أن يحدد هو الآخر حدود هذا التقييد ومدياته. ولم يكن المدافعون عن تحرر المرأة ينطلقون من حرصهم عليها بل هم أكثر من اضرّ بها عندما ذهبوا الى المثلية الجنسية، وضررهم عليها أكبر من ضرر الذين يقيدون حريتها، لا بل وصل الأمر في دول الغرب أن تتعّرف على فتاة جميلة تهيم بحبها لتتضح لك لاحقا بأنها رجل. إن طرفي التحرر والتقيد قد أساءوا للمرأة ومكانتها في المجتمع.

– المتدينون من أصحاب النظرة الواحدة
والحقيقة، إننا جميعا منقادون لهذه الصراعات دون وعي، كما إن الصورة لا تكتمل أحيانا إلا بعد مرور فترة من الزمن. فالعراقيون لم يدركوا في البدء إن الوجود الأمريكي سيكون وبالا عليهم وعلى إقتصادهم وحضارتهم تماما، إلا بعد مرور عدة أشهر من إحتلالهم للعراق، وآنذاك لات ساعة مندم.
إن تعبير الأنسان عما بداخله، إنما هو أمر جيد، ولكنه يحتاج لإتباع قواعد المنطق والبحث العلمي، إضافة لأصول المخاطبات والبروتوكول، وأسلوب الكتابة الادبي.
إن واحدة من نقاط الصراع الجوهرية تكمن في مسألة التقديس. والتقديس يقصد به تطهير الشيء وتنزيهه. وعندما يقدّس الانسان شيء ما (سواء اكان إنسان آخر مثل الأنبياء، أو يقدس حيواناً معيناً كالبقرة أو غيرها، أو أن يقدس جماداً كالكتاب والحجر والعَلم) فإنما يقصد من ذلك إن هذا المقدس هو طاهر من الأدران والنجاسة، وإنه مُنَزه من العيب والخطيئة وكل ما هو مُشين. ولكن يجب ملاحظة نقطة هامة وهي، إن هذا الشيء هو مقدس عنده لا عند غيره، فأنت قد تعتز بصورة من طفولتك، ولهنا لا تعني شيئا عند غيرك، وما على الغير سوى إحترام رغبة هذا الشخص في تقديس هذا الشيء. إن هذا التباين والإختلاف في تقديس الأشياء مازال سبباً للكثير من الصراعات في مختلف بقاع العالم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك في المجتمعات الإسلامية هو إرغام غير الصائمين، في رمضان، حتى من المسلمين ذاتهم، على إحترام مشاعر الصائمين. وحظر مظاهر الفرح والزواج في ذكرى عاشوراء لدى الشيعة. إن هذه الأمثلة تدل على تصرفات العقل ذو البعد الواحد، الذي يريد من كل الناس أن تقدس ما يقدسه هو مرغمين. إن وسيلة الإرغام التي ترافق هذا الطلب هي الكفيلة بتحويله الى صراع مزمن.
وبالمقابل، لا يخفى إن الدول المسيحية الغربية تستفز مشاعر أتباع الأديان الأخرى بالطعن في مقدساتهم عن قصد وعمد. وما قضية صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية إلا مثل على ذلك، أو لجوء قسيس أمريكي على حرق القرآن. إن هذا يدل على حماقة كبيرة يتمتع بها هذا القسيس، فالقرآن اليوم قد حفظ للمسيحية أسس إيمانها وفق الصورة القرآنية منذ أكثر من 1400 سنة، بينما لم يستطع الغرب حفظها وهي بضاعته. فالطعن والتدنيس في المقدسات المسيحية قد مارسه الغرب من حركة الإصلاح الديني عام 1415، وكانت أولى دعوات جون هس تتمثل في عدم تقديس البابوية. واليوم، فإن الدول المسيحية المتشددة هي الأكثر طعنا بالمقدسات المسيحية، وبإمكان السائح في سويسرا أن يشتري شحاطاً للحمام يحمل علامة الصليب بثمن بخس. وفي إيطاليا مقر الكاثوليكية بإمكان أي شخص أن يشتري أفلاماً إباحية لراهبات ورهبان. وهنا تبقى تصرفات المجتمعات الإسلامية الأكثر توقيراً للرموز المسيحية المقدسة، في حين تكون المبادرة بالطعن بها من الدول التي تدّعي بالمسيحية.

فهم جديد ونظرة شاملة
إن كل هذا يدفعنا الى التفكير والبحث بشكل أكبر لفهم الصورة كاملة. وبغض النظر عما يروجه الكثير من المدافعين عن المسيحية من أنصاف المتعلمين، من أن الإسلام قد حارب المسيحية، مستندا الى نصوص وأحاديث مبتسرة ومجزأة يطالعها هنا وهناك، دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في حقيقة إن ذلك لو قد حدث حقاً، لما بقي مسيحي واحد في الشرق الأوسط.
وهذا الامر قد شغل بال المفكرين والفلاسفة منذ زمن قصير. ومن بين هؤلاء الفيلسوف والمفكر الألماني هربرت ماركوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد One Dimentional Man 1964″، وعالم الاجتماع العراقي المرحوم الدكتور علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين لعام 1954. والمفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي لعام 2002.
إن فهما جديداً يجب أن يظهر، بل بدأ يتبلور شيئا فشيئا. وهذا ليس قاصراً على الفلاسفة والمفكرين فقط، بل إمتد هذا الفهم الى رجال الدين أنفسهم، وهذا ما نجده اليوم في خطابات بابا الفاتيكان الحالي فرنسيس الاول، الذي غالبا ما تثير خطاباته جدلا واسعا في مسائل اعتقد المسيحي المؤمن طيلة الفي سنة إنها حقيقية، مثل أسطورة أدم وحواء، ووجود الشيطان، ووجود جهنم، وغير ذلك. وهذا ليس غريبا على البابا الحالي الذي ألف قبل رسامته بابا الفاتيكان بسنة واحدة كتابا بعنوان “عقل مفتوح، وقلب مؤمن – 2012.”
في خطاب البابا فرنسيس بتاريخ 9/7/2015 في سانتا كروز، بوليفيا، أمام حشدٍ من المنظمات الشعبية أعلن البابا الحرب على النظام الرأسمالي المتوحش وعربته التي تقوده باسم العولمة وأعلن أن هذا النظام لم يعد يعمل وعلينا تغييره. تساءل البابا فرنسيس في بداية خطابه:” هل نحن نشعر أن هناك خطأ ما بحيث نجد مزارعين بلا أراضٍ يمتلكونها، وعمال بلا حقوق، وعائلات بلا مسكن، وكرامة الناس والشعوب تداس باستمرار؟ هل نجد خطأً ما في أن هناك حروب عديدة بلا معنى وحالات العنف قد وصلت إلى عقر دارنا؟ هل نحن نعلم عن سوء استعمال الموارد الطبيعية والأرض والماء والهواء بل والكائنات الحية والتي أصبحت مهددة باستمرار؟ إذا كان الأمر كذلك ونجد أن هناك اخطاء وخطايا، فنحن بحاجة إلى التغيير، بل نحن نريد التغيير بل أنا أصر أن نقولها بدون خوف وبأعلى صوت: نريد تغييراً حقيقياً في هيكلية النظام الحالي. إن النظام الحالي أصبح لا يطاق. نحن بحاجة إلى تغيير النظام على مستوى العالم حيث أن الترابط بين الشعوب في عصر العولمة بحاجة إلى حلول عالمية”.
أما اليوم فهو يشرح للجماهير مساوئ الرأسمالية الاستهلاكية حيث قال في عيد الميلاد 2015 الشهر الماضي:
“لقد خلقنا أصنام جديدة. لقد رجعنا إلى عبادة البقرة الذهبية تحت غطاء عبادة المال ودكتاتورية نظام إقتصادي خال من الانسانية. إن الأزمة المالية والاقتصادية قد عرت هذا النظام بما فيه من تشوهات بل الأدهى من ذلك اهماله للكائنات البشرية. لقد أصبح الاستهلاك وكأنه كل شيء في حياة الانسان”! وأضاف:” إن الخطر الأكبر في حياتنا الاستهلاكية اليوم هو سعينا المحموم نحو الشهوات. فعندها يصبح داخلنا مشغولاً بنفسه لا يصبح هناك مجال للأخرين ولا للفقراء. “
والحقيقة والواقع، إن النظرة الشاملة لا تتسنى لكل شخص، بل لفئة قليلة تعهدت بالبحث والمطالعة والتدقيق، والسعي وراء الحقيقة. فهي تحتاج الى بذل جهود كبيرة مضنية وأموال غير قليلة، ووقت ثمين. إن حقيقة قيام شخص بفهم الحقيقة، لهو أصعب من أن يفهم البعير الذي يأكل الشوك والعاقول، إنه يحمل تمرا رطباً، أطيب من الشوك بمليون مرة، ولكن إن يلتفت البعير الى ما يحمله ويدرك معناه، هو أمر لا يتسنى له إطلاقاً. ولهذا قالت العرب في الجاهل: كحمارٍ يحمل أسفارا. والغريب أن هذا التشبيه قد ورد في القرآن الكريم بحق اليهود من حملة التوراة.
واليوم بعد قرون من الجمود الفكري، فإن من الصعب تغيير وإزاحة القناعات المتوارثة. وهذا من الصعب إقناع مسيحي إن الخمر حرام حتى لو عثر على نص ديني أفتى فيه المسيح بنفسه بأنه حرام. وكذا الحال مع أي مسلم، فمن الصعب إقناعه بأن الخمر حلال ومفيد حتى لو نزلت آية تبيح ذلك. علما إن المسيح لم يثبت عنه إنه كان مدمنا، وإن محمد شربها في مكة قبل الدعوة. إن هذه المواقف تقود الى تناقضات في عالم اليوم، وكما أفتى الشيخ علي جمعة مفتي مصر سابقاً من أن الحشيش والأفيون طاهران، أما الخمر فحرام.
كتب المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) يقول: “إن إصدارنا للأحكام يتصف دائماً وللأسف بأنه ينطلق من نظرة أحادية للأمور، إننا دائماً ننظر للمسائل بعين واحدة، والباعث على الأسف والدهشة أكثر أننا نعاني جميعاً من هذه المشكلة سواء كنّا متحجّرين ومتطرّفين أو مستنيرين ومنفتحين! ويمكن القول إن أحكامنا الصادرة بحق الدولة العثمانية مثال بارز لظاهرة التشابه في أنماط التفكير لدى هذين الفريقين المتضادّين. المتطرف عندنا ينظر إلى الكيان العثماني من موقف شيعي متعصّب فيعتبره بالتالي سُنيّاً عمريّاً منكراً للإمامة ومخالفاً لوصيّة النبي وغير معتقد بصاحب الزمان.. وفي ضوء ذلك هو مدان! (حتى في مقابل المسيحية)!
أما الشخصية ذات التوجه المنفتح فإنه ينظر إلى النظام العثماني على أنه نظام إقطاعي منحطّ وطائفي لا يؤمن بالديمقراطية، فهو أيضاً مدان (حتى في مقابل الغرب)! بوسعنا أن نقول إن كلا الفريقين صائب في نظرته ومحقّ في توجيه الانتقاد، لكن الخطأ يكمن في أن كلا الطرفين ينظر إلى القضية من زاوية ثابتة ومطلقة، في حال أن من شروط النظرة العلمية الصحيحة أن تكون شاملة ومتعددة الزوايا والأبعاد وذات طابع نسبي، خلافاً للعوام الذين يميلون عادةً إلى تعميم الأحكام وإضفاء صفة الجزم عليها”.
يقدم الوردي وجهة نظره في ما يسمى بـ(الحقيقة)، ومفادها أن الحقيقة فيها جانب مطلق (موضوعي) وجانب نسبي (ذاتي)، وسبب وجود هذا الجانب النسبي في الحقيقة هو وجود الإطار الفكري على عقول البشر، فبسبب وجوده يرى الناس نواحي مختلفة في الحقيقة الواحدة، فلو حدثت “مظاهرة” فسوف يرى بعض الشباب، في هذه المظاهرة، جمال الفتيات المشاركات، والأدباء سوف يرون فيها الأخطاء النحوية في الشعارات، والنساء سوف يرين ملابس الأخريات، والصحافيون سوف يرون عدد القتلى والجرحى .. وهكذا.
في الفصل الثاني (المنطق الأرسطوطاليسي)، ينتقل الوردي لنقد طريقة التفكير القديمة، والمتمثلة بمنطق أرسطو، فطريقة التفكير القديمة لا تواكب الحقيقة؛ لأنها لا تعترف بالجزء النسبي فيها، ويؤكد الوردي أن هذه الطريقة القديمة هي سبب ازدواجية وفشل المتبع لها؛ فهو يفكر بطريقة مجردة بعيدة عن الواقع، بينما كان من المفروض أن يعمل بطريقة نسبية تتكيّف مع الحياة، هذا بالاضافة الى أن طريقة التفكير القديمة لا تسمح لومضات العقل الباطن بالانبثاق.
إن الواعظين ينظرون في الأمور بمنظار المنطق القديم – منطق الثبات والتصنيف الثنائي. فالحسن حسن على الدوام والقبيح يبقى قبيحاً الى يوم القيامة. والمنطق الاجتماعي الحديث يستخف هذا الرأي ويعتبره منطق السلاطين والمعتوهين. فالحسن في نظر المنطق الحديث لا يبقى حسناً الى الأبد. إنه في حركة وتغيّر مستمر. فما كان حسناً بالأمس قد يصبح اليوم قبيحاً.
إن المنطق الحديث يدعى “منطق التناقض”. فكل شيء يحمل نقيضه في صميم تكوينه. وهو لا يكاد ينمو حتى ينمو نقيضه معه. وبذا يصير الشر خيراً بمجرد نموه وتحركه.
فموسى النبي كان سريع الغضب وقاتلا في شبابه، ولكنه غدا فيما بعد حليماً جداً وطويل الأناة، حتى شهد الكتاب المقدس عنه بانه “كان أكثر حلما من جميع الناس على وجه الأرض” (عد3:12). فأين هذا من ذاك؟ ومن يدرس الإسلام سيلاحظ الفرق بين محمد المكي ومحمد المدني.
لقد جهل الوعاظ طبيعة العقل البشري، ونسوا أن الانسان يندفع بما تمليه عليه ظروفه النفسية والإجتماعية ثم يطلي إندفاعه هذا بطلاء من الدين أو الفضيلة.
يحاول بعض المستشرقين ذم الإسلام من طريق غير مباشر. فهم يشيرون دائماً الى التفسخ الذي حدث في المجتمع الإسلامي بعد موت نبيه بمدة قصيرة. كأنهم يقارنون ذلك بما كان عليه المسيحيون من تعفف بعد المسيح. فهم يأتون على سبيل المثال بأصحاب النبي محمد قائلين عنهم: انهم تنازعوا وتلاعنوا وتقاتلوا وكفّر بعضهم بعضاً، بينما لم يفعل مثل ذلك أصحاب المسيح.
وهؤلاء المستشرقون لا يختلفون عن وعاظنا في هذا كثيراً. إنهم جهلوا أن أصحاب المسيح لو كانوا قد انتصروا كما انتصر أصحاب محمد، وفتحوا الممالك بتلك السرعة الهائلة، لتنازعوا وتنافسوا وتلاعنوا كما فعل أولئك تماماً.
“الإنسان لا يفهم من الحقيقة إلا ذلك الوجه الذي يلائم عقده النفسية وقيمه الاجتماعيّة ومصالحه الاقتصاديّة. أما الوجوه الأخرى من الحقيقة فهو يهملها باعتبار أنها مكذوبة أو من بنات أفكار الزنادقة”.
ولقد تطرقنا فيما سبق الى ما يذهب اليه هؤلاء من تفكير عقيم ونظرة قاصرة، عندما يريدون أن يكون جميع الأنبياء مثل المسيح، وتحديداً نبي الإسلام محمد، الذي تدل المقارنة إنها تنطوي على نوع من الصراع يتضمن أشياء كثيرة مشاعر مختلفة.
ومقارنة بسيطة بين المسيح ومحمد توصلنا الى إن محمد قد إنتصر على الأرض وفقاً للقياسات البشرية. فالمسيح عاش 33 سنة، بينما عاش محمد 63 سنة، أي قرابة ضعف عمر المسيح. والمسيح مات مصلوبا، أما محمد فمات مسموما. شرع محمد الجهاد وبلغ عدد الغزوات التي قادها الرسول محمد بن عبد الله 29 غزوة. وبلغ عدد البعوث والسرايا 38 ما بين بعثة وسرية. ونجا محمد في جميعها. في حين إن المسيح لم يذكر أنه قد تشاجر حتى مع أحد من تلاميذه. ألا يعتبر هذا نصرا لأي قائد عسكري وفقا للقياسات البشرية المعروفة. بالتأكيد أن للمسيحية تبريراً وتفسيراً لكل تفاصيل حياة المسيح، ولكنها تفاسير لا يمكن إثباتها على الأرض، وهي تفاسير قريبة من الخيال العلمي، ولا تختلف كثيراً عن تبرير المسلمين لأسباب تحريم أكل لحم الخنزير، وهي تفاسير لاحقة ولا تستند على نص ديني، وكثيرا ما يشوبها التطرف والإشتطاط.
“ان طبيعة البشر واحده في كل زمان ومكان والاختلاف بينهم يرجع في الغالب الى اختلاف في تكوين المجتمع الذي ينشأون فيه”. ف“الناس سواء، وظروفهم هي التي تصنع منهم مجرمين أو زعماء”.
وهذه النظرة الشمولية ليست قاصرة على المسيحية، فالإسلام بحاجة أكبر لتخليصه من كثير من المفاهيم الخاطئة، وإزالة التناقضات الفكرية في زمن تزايد في الوعي بشكل أكبر وأوسع. ويمكن إعطاء مثل لذلك.
وبالمقابل، فإن المسلمون أيضاً قد إنطلقوا في تحليل وتشريح النصوص والحوادث الدينية بعقلية شاملة بعد أن إستمر التعامل بعقلية قاصرة جامدة طيلة 14 قرناً. إذ أن ذلك يحفز الذهن لمحاولة فهم التاريخ الإسلامي بصورة عميقة ومغايرة لما هو سائد بين قدماء المؤرخين. وكان عالم الاجتماع العراقي علي الوردي من أوائل الذين قدموا نظرة جديدة على الفتوحات الإسلامية، أفضل من أي مفكر غربي مسيحي ينتقدها بعبارة حمقاء موجزة هي “الإسلام إنتشر بالسيف”. في زمن لم يكن بالإمكان نشره عن طريق الفيسبوك.
وقد قدّم د. علي الوردي نظرته حول التاريخ الإسلامي، وفي كتابه وعاظ السلاطين يشرع بالحديث عن الخلافات السياسية في عهد الصحابة، وكيف كانت المحصلّة النهائية لها تحويل الحكم الإسلامي لنظام فتح وطغيان وجمع للثروات بعد أن كان تمردًا على ذلك. فقد كتب يقول:
“يقال إن موسى بن النصير غنم من غزواته في أفريقيا ثلاثمائة ألف أسير، فبعث خمس هؤلاء الى الخليفة، عملا بحكم القرآن إذ يقول: “وإعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل …”
وذكروا أن موسى هذا عاد من الأندلس ومعه من السبايا ثلاثون ألف عذراء فذهبن طبعاً الى قصور أمير المؤمنين ومن لف لفه من أبطال الإسلام الذين رفعوا إسم الله عالياً في ساحات الجهاد المقدس.
وقد اسر المجاهدون في إحدى معارك الأندلس عدداً كبيراً من الاسرى بحيث إنهم أخذوا يتخلصون منهم بأبخس الأثمان. فبيع الأسير بدرهم واحد … وبيع البعير بخمسة دراهم. (أي أن سعر الانسان أرخص، ويعادل خمس سعر البعير).
إن هذا والحق يقال، مجد عظيم قد يحاول كثير من أبناء العروبة في هذا العصر أن يستعيدوه. ونراهم اليوم يتغنون به وينشدون الأناشيد اللذيذة في سبيله.
وقد نسي هؤلاء أن الجواري والعبيد والأباعر التي حصل عليها أجدادهم أثناء الجهاد ذهب معظمها الى المترفين وأصحاب الحل والعقد وبقي الفقير، كما كان يفترش التراب ويطبخ الماء.
ومن يدري فلعل أصحابنا الذين يريدون إعادة مجد الأجداد سوف يكونون أسرى إذا عاد ذلك المجد فعلاً.
إنهم يتخيلون المجد سوف يكون لهم. وربما كان عليهم وصاروا فيه مستعبدين.
إن الذي يريد أن يعلو على الغير قد يأتيه يوم يعلو عليه الغير. والزمان قُلّب. فيوم لك ويوم عليك.
يتبجح بعض هؤلاء لمغفلين بذكرى الفتوح التي قام بها أجدادهم. وهم لو أنصفوا لنكسوا رؤوسهم خزياً.
لقد آن للعرب اليوم أن يفتحوا عيونهم ويقرؤوا تاريخهم في ضوء جديد. لقد ذهب زمان السلاطين وآن أوان اليقظة الفكرية التي تستلهم من التاريخ عبرة الإنسانية الخالدة”.
إن واحدة من أكبر الحماقات التي نراها في فلسفات ونقاشات اليوم، ان المسيحيين والمسلمين على حد سواء يستشهدون بنصوص إسلامية لتعزيز وجهة نظرهم بأن ما يحدث هو من إصول الإسلام. فالمسيحيون يعزو القتل الى الإسلام بنصوص القرآن في القتل والجزية والدعوة للإسلام، والمسلمون المتشددون يستندون في تشددهم لسيرة محمد وصحابته. وقد شهدت في العراق، صباح أحد أيام تموز من عام 2006 مجموعة من المسلحين الملثمين يحرقون كشكاً خشبياً مخصص لبيع الثلج، بحجة إن الرسول لم يستخدم الثلج لتبريد الماء طيلة حياته. وتناسى الطرفان إنهم يتحدثون عن زمن مرّ عليه أكثر من 1437 سنة. والأدهى من ذلك، إنهم عندما ينتقدون غيرهم فإنهم لا يرون مثيله عندهم، حتى ينطبق عليهم قول المسيح: ” ولماذا تنظر القذى الذي في عين اخيك واما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟
وترى الطرفين ينتقدون دعوة الناس لدينهم، بتعابير مختلفة في الصياغة ومتطابقة في المعنى. فالمسلم ينتقد التبشير المسيحي، ويعادي المبُشرين ويسعى لطردهم وحتى قتلهم إن إقتضى الأمر. والمسيحي ينتقد الدعوة الإسلامية ويراها خطأ وقائمة على التهديد والإغراء، في حين إن التبشير المسيحي لا يقل عن الدعوة الإسلامية. ولا يوجد في الدول العربية والإسلامية جماعات منظمة وذات صلة بمؤسسات الدولة تدعوك لإعتناق الإسلام. أما في الخارج، فبمجرد وصولك يطاردك المبشرون المسيحيون من جماعات ومذاهب مختلفة مثل فرق البروتستانت والكنائس الإنجيلية، وشهود يهوه وغيرهم ويلاحقوك الى مسكنك فيقلقون نفسيتك ويسلبون راحتك ويحضرون لك من يتحدث بلغتك، حتى تجد نفسك وقد كرهت المسيح والمسيحية بشكل لم يستطع تحقيقه المسلمون في أعتى عصورهم، وهذه الجماعات ذات صلة بمؤسسات الدولة المهمة مثل دوائر الإقامة والهجرة والتعيين، إضافة لما يقدموه لك من مساعدات عينية ونقدية. والغريب أن إنتقاد الإسلام وصل الى مؤسسات دولية كالأمم المتحدة، فترى مندوبي الدول ينتقدون تعدد الزواج في الإسلام في الوقت الذي يناقشون فيه المثلية الجنسية برحابة صدر. ونفس الشيء يفعله المسلمون، ومن النوادر الطريفة في هذا المجال إن البرلمان التونسي بتاريخ 10 ديسمبر 2015 يصوّت لتخفيض اسعار الخمور ثم يرفع الجلسة لـ 15 دقيقة من اجل صلاة المغرب.
وينتقد الكثيرون الجزية فيي الإسلام ويعتبرونها نوع من السرقة والابتزاز معتقدين إن الإسلام قد جاء بها، ولو دققوا بعض الشيء وبحثوا عنها لوجدوا أن الجزية كانت موجودة قبل الإسلام بأكثر من 600 سنة. وكانت موجودة زمن المسيح أيضا، بدليل نص الانجيل الذي يروي قصة الفريسيين قائلا: “ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأَنَّكَ لا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ الله. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لا؟ نُعْطِي أَمْ لا نُعْطِي؟ «فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ» لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لانْظُرَهُ «. فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ:» لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ «فَقَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لله لله». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ. مما يعني أن الجزية كانت موجودة، وتفرضها السلطات الرومانية بالقوة ومن يعارضها يعتبر متمرداً عليها ويستحق الصلب.
والغريب إن مسيحيي الشرق الذين عاصروا الإسلام منذ نشأته لم يكتبوا أو يؤلفوا عن الإسلام، أو حتى يدونوا وقائعه، أو ينقلوا لنا سيرة محمد وأصحابه، على الرغم من إنهم قد سبقوا المسلمين بتعلمهم القراءة والكتابة، حتى سمّاهم القرآن “أهل الكتاب”.
“إن الخير والشر أمران اعتباريان. وكل انسان ينظر فيهما بمنظاره الخاص ويقيسهما حسب المقاييس التي نشأ عليها وعرفها. والملاحظ أن كل انسان يدعي أنه أقرب إلى الحق والخير من غيره.
إن النزاع بين البشر ليس نزاعا بين الخير والشر كما يتوَهَم الوعاظ. إنما هو بالأحرى نزاع بين اعتبارين مختلفين للخير.”
“إن الرأي الجديد هو في العادة رأي غريب لم تألفه النفوس بعد، ومادام هذا الرأي غير خاضع للقيم التقليدية السائدة في المجتمع، فهو كفر أو زندقة، وعندما يعتاد عليه الناس ويصبح مألوفاً وتقليداً يدخل في سجل الدين ويمسي المخالفون له زنادقة وكفاراً.”
لذا علينا أن نفكر بشكل أشمل وأن نرى الصورة بشكل أوضح بعيداً عن التشنج المرحلي. إن هذا ليس تبريراً للأخطاء الكثيرة والكبيرة التي إرتكبها المسلمون على إختلاف قومياتهم ومذاهبهم. وصحيح إن المسلمون قد فشلوا في إقامة دولهم بشكل سليم، وإن التخلف قاد الى ظهور فلسفات إسلامية غبية قادت الى تخلف المسلمين، سرعان ما إستثمرها الغرب وطورها لزعزعة منطقة الشرق الأوسط، والإستفادة من حالة الفوضى الخلاقة التي زرعوها، وابسط مثل على ذلك إنهم شجعوا هجرة ذوي الكفاءات، فغادر العراق 3 الاف طبيب عراقي، أي إن الغرب قد وفر نفقات فتح كلية طبية وتخريج هذا العدد من الأطباء الذي يحتاج الى عشر سنوات، ناهيك عن خبرتهم العملية. في حين تنعم الحكومات الإسلامية بغبائها الذي يمنحها سعادة وطمأنينة من مغادرة هذا العدد الهائل من الأطباء، وإستنزاف هذه الثروة العلمية الوطنية.
ونحن نعلم يقيناً إن ما أتينا به في هذا الرأي جديد لذا فلن نهتم لتهمة الكفر والزندقة، ولكن ما نقوله إنه تحذير قبل السقوط النهائي، إنها فرصة اللحظة الأخيرة التي نتمنى أن نتجنبها جميعا، وأن نوحد صفوفنا ونضُمّ جهودنا وفقا لمبدأ الساعات الاخيرة واللحظات الحرجة إن “من ليس معي فهو ضدي”.