8 أبريل، 2024 9:52 م
Search
Close this search box.

نحو نقد موضوعي

Facebook
Twitter
LinkedIn

من الظاهر جدا ان فترة ما قبل الحداثة تميزت ببلوغ الجمالية الادبية فيها درجات عالية من التشخيصية  لعناصر جماليات الادب الكلاسيكي ، حتى ان درجات التوقع الانتاجي و التجريبي صار امرا راسخا في مجال التحليل الجمالي لتلك الاعمال ، و حقق البحث التحليلي درجات تفصيلية للمصطلاحات العامة و الخاصة و الكلية و الفرعية و مراتب المفاهيم و صور التراكيب و خصوصا في علم البلاغة .

و من الظاهر ايضا عدم تحقق مثل هذا المنجز في جماليات الادب الحداثوي و ما بعد الحداثوي ، طبعا و لحقيقة ظهور منجز ابداعي متميز لهذه الفترة يعطي ملامح واضحة لها ، الا ان العوز و الافتقار الى المصطلح العلمي ناتج عن قصور في الادواة النقدية ، حتى الاستعانة بعلوم اخرى كالالسنية لم يفلح بتقديم التصورات الناضجة  ، و سبب عدم الاستيعاب هذا  لا يخفى على الكثيرين وهو منهج التلقي المدرسي لمنهاج النقد الغربية الارتجالية و المتشعبة ، بمعنى اخر ان تاثر العقلية الغربية بوطأة العلم و البرمجة ادى الى ظهور نزعة من التسلط و التحكم  و الانطلاق من نقطة خارجة عن  دائرة الابداع الادبي   متجهة نحوه باعتباره مادة لها ، ان الابداع في مناهج النقد الادبي الحديث لا يفهم الا كمادة و حالات فردية لاحكام و قوالب جاهزة . لذلك هي دائما تصطدم بالفشل و العجز و الوهم احيانا ، ان افضل صفة يمكن ان يوصف بها النقد الحديث هي عدم الاصالة ، و نقصد بذلك النقد الغربي  بالاساس ، انه ابن اعرج لنظريات العلم  المادي المتسلطة .

ما كان مطلوبا من النقد الادبي هو الانطلاق من علم الجمال و ليس من علوم اخرى ، نعم الاب الحقيقي و الشرعي للنقد الادبي الاصيل هو علم الجمال ، و كل قصور في هذا الفهم او في جانب الجماليات الاصلية و الفرعية يولد نقدا ادبيا عاجزا ، ان ما هو مطلوب من النقد هو الثورة على النقد ، التحرر من قيود العلمية المادية  ، ما هو مطلوب علمية جمالية  ، علمية الادب الحقيقية .

لقد ادى الخلط  بين الخصائص الجمالية للمادة الفنية و خصائص المادة  نفسها ، الى تصور امكانية تحديد العناصر الجمالية لتلك الاعمال الفنية بتلك المادة ، لكن الامر ليس كذلك ، ولا يقال ان ذلك يعني البحث عن عناضر جمالية ليست مادية ،  و الجواب ان هذا صحيح في جزء كبير منه ، فان ابداعات ما بعد العولمة  والاعمال التجلياتية اثبتت  وجود عناصر جمالية تتجاوز المادة ، عوامل مشتركاتية بين الفنون ، ولو ان النقد الادب اقترب اكثر من العلمية الجمالية لكان بامكانه ان يتلمس الخطوط العريضة لتلك العناصر الجمالية ، الا انه و للاسف اخذ يتقلب  في احضان العلوم المادية الخاصة بتلك المواد ، ولو استمر ذلك النهج المعتمد على العلوم المادية فانا سننتهي الى نقد فني مليء بالمصطلاح الفيزيائية و الكيميائية و الرياضية  ، مع افتقار حقيقي في تشخيص العناصر الجمالية . اما النقد التجلياتي النابع من العلمية الجمالية ، فانه سيحقق انجازا  جماليا و تشخيصا لعناصر الجمال في الاعمال الفنية ، سواء كان على مستوى الجنسية ( كالشعرية و السردية و الموسيقية و الرسمية و غيرها ) او على مستوى الجمالية بعناصرها الايحائية و التلقياتية و القصدية و التجرباتية .

نعم التناول التجلياتي للاعمال الجميلة هو الحل الحقيقي لمشكلة العوز الاصطلاحي العلمي للنقد الفني ، و العلمية التي تتحقق بالمنهج التجلياتي علمية جمالية اصيلة ، و ليست علمية تابعة لعلوم اخرى متعلقة بمادة الفن . لا بد من التاكيد و كثيرا على ان العمل الفني بمادته له تناول علمي من جهتين ، علم مختص بمادته و علم مختص بجمالها ، الخلط الذي حصل في عصر الحداثة بين العلمين ادى الى مزلق خطير اوصل النقد الفني الى طريق مسدود .

نعم تابعية النقد الفني لعلوم المادة ادى الى فقدان القدرة على تشخيص العناصر الجمالية بشكل واضحة ، طبعا من التجني القول بعدم قدرته على الاشارة و التلميح و الايحاء ، لان ذلك كلام فارغ ، ما نقصده هو عدم قدرته لبلوغ العلمية المناسبة في المصطلح ، فكانت اكثر اطروحاته و مبتكراته و مصطلحاته فضفاضة  وغير مشخصة ، فصار النقد عبارة عن ممارسة يحتكرها  المادياتون اكثر من الجماليين .او انها غرق في التعبيرية ،  بمعنى اخر ان المنهج التجلياتي للنقد الفني هو دعوة نحو النقد الجمالي  و ليس النقد المادي او التعبيري .

ان الفهم التجلياتي للجماليات هو المدخل الحقيقي و الواضح نحو علم جمال فني ادبي او غيره ، نحو نقد علمي جمالي و ليس ماديتاي ، انه تاسيس لاكاديمية الجمال و ليس اكاديمية المادة ، انه  مقدمة علم الجمالية و ليس علم المادة .

لقد بينا في مقالات سابقة ان هناك تميز بين جمالية العمل الفني و فنيته كالشعرية للشعر مثلا ، فجمالية الشعر غير الشعرية ، كما ان كليهما غير خصائص اللغة الماداتية المعرفية .، العلوم المادية المختصة باللغة مختصة بالاساس في الجهة الاخير اي الخصائص المادية للغة .

لقد ساد فهم لاواقعي ادى الى ابتعاد النقد عن مكانته الحقيقية ، و هي الاتجاه نحو لا نمطية الكتابة ، وهذا وهم ، اذن ان النمطية متاصلة في الموجودات ، بمعنى انه ليس هناك من وجود الا وله نمطية ، نعم قد تتعدد صور النمطية للموجود المعين و قد تبلغ حد غير محصور او لا متناهي الا انه يبقى له نمطية . ان هدم الايمان بالمشترك الجمالي و اعلاء فكرة اللانمطية ادى الى ظهور طرفين لاواقعيين من الاتجاهات النقيدية ، التجاه المادي  و الاتجاه التعبيري ، فبينما غرق الاول في قواعد العلوم اللاجمالية ، غرق الثاني في الفردية و التاملية و الخطابية و العاطفية ،  و في الواقع كلما تجد نقدا مليئا بتلك المظاهر فاعلم انك اما نقد لاعلمي .ان اساس الفهم التجلياتي للجمالي هو تشخيص المشتركات الجمالية ، ان التجلي هو الظهور المتميز بالمتباينات ، انه تضاؤل المادة امام التجربة انه تلاشي المادة الفنية و فقدانها شخصيتها و كيانتها و منطقيتها و قواعديتها اما تجلي التجربة  ، و كلما ازدادت قوة الظهور و ازدادت شدة التباين بين وسائط الظهور و شدة تضاؤل المادة ، كان التجلي اكبر .فمثلا الشعرية وهي عملية البوح الجمالي  بالتجربة ، لها صور تشكيلية و تلقياتية  و تجرباتية ، كلما ازدادت  قوة ظهور التجربة و ازداد تباين الصور التشكيلية و تضاؤل المادة  التي تظهر فيها تلك التجربة كان ذلك يعني ان التجربي تتجلي بذاتها و ان التجلي اكبر .

من اهم انجازات النقد الحداثوي هو الاتجاه بالتحليل الفني من العمل وعنصر المشاهدة الى عملية التلقي وهو حق ، ان الجمالية هي عملية ابداعية تلقياتية ، لا يمكن فهم العناصر الجمالية الا في ضوء حقيقة كونها نتاجات لعملية التلقي ، فلا وجود لعناصر جمالية مستقلة بالكلية في ذات العمل الفني ، بل ان العمل الفني خال من الفنية من دون عناصر تلقياتية .. ان هذه الحقيقة تمكننا من تمييز الفوارق العريضة بين النقد الكلاسيكي المرتكز على العناصر الشكلية و النقد الحداثوي  و العولماتي المرتكز على العناصر التلقياتية المادية و النقد ما بعد العولماتي اي التجلياتي المرتكز على العناصر التلقياتية التجرباتية التجلياتية  .. و لقد اشرنا في مقالات سابقة الى مجموعة عريضة و عامة من العناصر الجمالية التجلياتية ،و سنعمد ان شاء الله في المستقبل الى بيان ملامح كل منها بتفصيل اكبر .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب