من الظاهر جدا ان فترة ما قبل الحداثة تميزت ببلوغ الجمالية الادبية فيها درجات عالية من التشخيصية لعناصر جماليات الادب الكلاسيكي ، حتى ان درجات التوقع الانتاجي و التجريبي صار امرا راسخا في مجال التحليل الجمالي لتلك الاعمال ، و حقق البحث التحليلي درجات تفصيلية للمصطلاحات العامة و الخاصة و الكلية و الفرعية و مراتب المفاهيم و صور التراكيب و خصوصا في علم البلاغة .
و من الظاهر ايضا عدم تحقق مثل هذا المنجز في جماليات الادب الحداثوي و ما بعد الحداثوي ، طبعا و لحقيقة ظهور منجز ابداعي متميز لهذه الفترة يعطي ملامح واضحة لها ، الا ان العوز و الافتقار الى المصطلح العلمي ناتج عن قصور في الادواة النقدية ، حتى الاستعانة بعلوم اخرى كالالسنية لم يفلح بتقديم التصورات الناضجة ، و سبب عدم الاستيعاب هذا لا يخفى على الكثيرين وهو منهج التلقي المدرسي لمنهاج النقد الغربية الارتجالية و المتشعبة ، بمعنى اخر ان تاثر العقلية الغربية بوطأة العلم و البرمجة ادى الى ظهور نزعة من التسلط و التحكم و الانطلاق من نقطة خارجة عن دائرة الابداع الادبي متجهة نحوه باعتباره مادة لها ، ان الابداع في مناهج النقد الادبي الحديث لا يفهم الا كمادة و حالات فردية لاحكام و قوالب جاهزة . لذلك هي دائما تصطدم بالفشل و العجز و الوهم احيانا ، ان افضل صفة يمكن ان يوصف بها النقد الحديث هي عدم الاصالة ، و نقصد بذلك النقد الغربي بالاساس ، انه ابن اعرج لنظريات العلم المادي المتسلطة .
ما كان مطلوبا من النقد الادبي هو الانطلاق من علم الجمال و ليس من علوم اخرى ، نعم الاب الحقيقي و الشرعي للنقد الادبي الاصيل هو علم الجمال ، و كل قصور في هذا الفهم او في جانب الجماليات الاصلية و الفرعية يولد نقدا ادبيا عاجزا ، ان ما هو مطلوب من النقد هو الثورة على النقد ، التحرر من قيود العلمية المادية ، ما هو مطلوب علمية جمالية ، علمية الادب الحقيقية .
لقد ادى الخلط بين الخصائص الجمالية للمادة الفنية و خصائص المادة نفسها ، الى تصور امكانية تحديد العناصر الجمالية لتلك الاعمال الفنية بتلك المادة ، لكن الامر ليس كذلك ، ولا يقال ان ذلك يعني البحث عن عناضر جمالية ليست مادية ، و الجواب ان هذا صحيح في جزء كبير منه ، فان ابداعات ما بعد العولمة والاعمال التجلياتية اثبتت وجود عناصر جمالية تتجاوز المادة ، عوامل مشتركاتية بين الفنون ، ولو ان النقد الادب اقترب اكثر من العلمية الجمالية لكان بامكانه ان يتلمس الخطوط العريضة لتلك العناصر الجمالية ، الا انه و للاسف اخذ يتقلب في احضان العلوم المادية الخاصة بتلك المواد ، ولو استمر ذلك النهج المعتمد على العلوم المادية فانا سننتهي الى نقد فني مليء بالمصطلاح الفيزيائية و الكيميائية و الرياضية ، مع افتقار حقيقي في تشخيص العناصر الجمالية . اما النقد التجلياتي النابع من العلمية الجمالية ، فانه سيحقق انجازا جماليا و تشخيصا لعناصر الجمال في الاعمال الفنية ، سواء كان على مستوى الجنسية ( كالشعرية و السردية و الموسيقية و الرسمية و غيرها ) او على مستوى الجمالية بعناصرها الايحائية و التلقياتية و القصدية و التجرباتية .
نعم التناول التجلياتي للاعمال الجميلة هو الحل الحقيقي لمشكلة العوز الاصطلاحي العلمي للنقد الفني ، و العلمية التي تتحقق بالمنهج التجلياتي علمية جمالية اصيلة ، و ليست علمية تابعة لعلوم اخرى متعلقة بمادة الفن . لا بد من التاكيد و كثيرا على ان العمل الفني بمادته له تناول علمي من جهتين ، علم مختص بمادته و علم مختص بجمالها ، الخلط الذي حصل في عصر الحداثة بين العلمين ادى الى مزلق خطير اوصل النقد الفني الى طريق مسدود .
نعم تابعية النقد الفني لعلوم المادة ادى الى فقدان القدرة على تشخيص العناصر الجمالية بشكل واضحة ، طبعا من التجني القول بعدم قدرته على الاشارة و التلميح و الايحاء ، لان ذلك كلام فارغ ، ما نقصده هو عدم قدرته لبلوغ العلمية المناسبة في المصطلح ، فكانت اكثر اطروحاته و مبتكراته و مصطلحاته فضفاضة وغير مشخصة ، فصار النقد عبارة عن ممارسة يحتكرها المادياتون اكثر من الجماليين .او انها غرق في التعبيرية ، بمعنى اخر ان المنهج التجلياتي للنقد الفني هو دعوة نحو النقد الجمالي و ليس النقد المادي او التعبيري .
ان الفهم التجلياتي للجماليات هو المدخل الحقيقي و الواضح نحو علم جمال فني ادبي او غيره ، نحو نقد علمي جمالي و ليس ماديتاي ، انه تاسيس لاكاديمية الجمال و ليس اكاديمية المادة ، انه مقدمة علم الجمالية و ليس علم المادة .
لقد بينا في مقالات سابقة ان هناك تميز بين جمالية العمل الفني و فنيته كالشعرية للشعر مثلا ، فجمالية الشعر غير الشعرية ، كما ان كليهما غير خصائص اللغة الماداتية المعرفية .، العلوم المادية المختصة باللغة مختصة بالاساس في الجهة الاخير اي الخصائص المادية للغة .
لقد ساد فهم لاواقعي ادى الى ابتعاد النقد عن مكانته الحقيقية ، و هي الاتجاه نحو لا نمطية الكتابة ، وهذا وهم ، اذن ان النمطية متاصلة في الموجودات ، بمعنى انه ليس هناك من وجود الا وله نمطية ، نعم قد تتعدد صور النمطية للموجود المعين و قد تبلغ حد غير محصور او لا متناهي الا انه يبقى له نمطية . ان هدم الايمان بالمشترك الجمالي و اعلاء فكرة اللانمطية ادى الى ظهور طرفين لاواقعيين من الاتجاهات النقيدية ، التجاه المادي و الاتجاه التعبيري ، فبينما غرق الاول في قواعد العلوم اللاجمالية ، غرق الثاني في الفردية و التاملية و الخطابية و العاطفية ، و في الواقع كلما تجد نقدا مليئا بتلك المظاهر فاعلم انك اما نقد لاعلمي .ان اساس الفهم التجلياتي للجمالي هو تشخيص المشتركات الجمالية ، ان التجلي هو الظهور المتميز بالمتباينات ، انه تضاؤل المادة امام التجربة انه تلاشي المادة الفنية و فقدانها شخصيتها و كيانتها و منطقيتها و قواعديتها اما تجلي التجربة ، و كلما ازدادت قوة الظهور و ازدادت شدة التباين بين وسائط الظهور و شدة تضاؤل المادة ، كان التجلي اكبر .فمثلا الشعرية وهي عملية البوح الجمالي بالتجربة ، لها صور تشكيلية و تلقياتية و تجرباتية ، كلما ازدادت قوة ظهور التجربة و ازداد تباين الصور التشكيلية و تضاؤل المادة التي تظهر فيها تلك التجربة كان ذلك يعني ان التجربي تتجلي بذاتها و ان التجلي اكبر .
من اهم انجازات النقد الحداثوي هو الاتجاه بالتحليل الفني من العمل وعنصر المشاهدة الى عملية التلقي وهو حق ، ان الجمالية هي عملية ابداعية تلقياتية ، لا يمكن فهم العناصر الجمالية الا في ضوء حقيقة كونها نتاجات لعملية التلقي ، فلا وجود لعناصر جمالية مستقلة بالكلية في ذات العمل الفني ، بل ان العمل الفني خال من الفنية من دون عناصر تلقياتية .. ان هذه الحقيقة تمكننا من تمييز الفوارق العريضة بين النقد الكلاسيكي المرتكز على العناصر الشكلية و النقد الحداثوي و العولماتي المرتكز على العناصر التلقياتية المادية و النقد ما بعد العولماتي اي التجلياتي المرتكز على العناصر التلقياتية التجرباتية التجلياتية .. و لقد اشرنا في مقالات سابقة الى مجموعة عريضة و عامة من العناصر الجمالية التجلياتية ،و سنعمد ان شاء الله في المستقبل الى بيان ملامح كل منها بتفصيل اكبر .