ان التخلف الحضاري والتخلف العلمي بوجه خاص هو احد العوامل الرئيسية المعيقة في تقدم مجتمعنا. كما انه سبب في كثير من الامراض والآفات على كل مستوى سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وتربوي… الى آخر ما هنالك من معوقات ومثبطات ومحبطات يحس بها كل مواطن عراقي في هذا الزمن الراهن. ومن هنا تأتي دعوتنا الى تبني منهجية علمية رصينة عند علماء هذا الوطن واساتذة جامعاته- جزء عظيم الاهمية من طليعتهم يفترض فيها ان تتقن هذا الفن قبل غيرها- ولعل في هذه المقالة ما نشير الى بعض الفائدة في هذا المجال وذلك للخروج من وهدة التخلف الى سطح الحضارة والتقدم.
اول ما ينبغي للدارس او الباحث في دراسته او بحثه ان يبدأ من حيث انتهى الاخرون وان يحاول ان يكون حديثاً بصورة مطلقة، فعدم الآيتان بجديد في عالم المعرفة او تكرار ما قاله الآخرون ليس بذي بال ولا يعد شيئاً في الاضافة العلمية ولا في اغناء التجربة العلمية التي لا تغتني الا بما هو جديد ولا بما يضاف من لبنات الى البنيان القائم والذي ساهم في اشادته كثير من العلماء في مختلف الازمنة حتى وصل الى الدارس او الباحث…
لا بد من العناية بالاكاديمية الخلاقة، فلا حضارة بلا ابداع، وهذا يقتضينا ان نبدأ في تدريب الطلاب على البحث العلمي منذ وقت مبكر، وان ننهج بالتربية نهجاً جديداً يشجع القوة المبدعة الخلاقة بعيداً عن الحفظ والاستظهار… وهذا ما تفعله المدارس في الغرب حين تدرب طلابها على كتابة البحوث في سن مبكرة وتجد الطالب ــــ اذا الاكاديمية او المؤسسة البحثية العلمية وضعت بين يديه مثلاً عدداً من المراجع ـــ ـتجده قادراً على اتقان عملية جمع المادة العلمية وتنسيقها والخروج منها بموضوع معين بسهولة كبيرة.
وهذا ما سيجعلنا ندخل في الواجب الثاني للدارس او الباحث، وهو ان يجمع مادته من جميع مصادرها بصورة شمولية وجامعة بحيث لا يترك شاردة ولاواردة في موضوعه الا احاط بها ووظفها من اجل تكامل النظرة في موضوع بحثه بعد الوصول به الى حدود المعرفة. وايضاً من اجل حكم موضوعي ينتهي اليه. ولم يغب هذا المنهج الاستقصائي في جمع المعلومات عن تراثنا وعلماء هذا التراث وقد اطلقوا عليه اسم (التقميش). فدارس الادب او التاريخ او الرياضيات يعتبر عيباً في حقه ان يبحث في ناحية معينة من موضوع اختصاصه ولا يستوفي المصادر والمراجع والوثائق في هذه الناحية مخطوطة ومنشورة . والعالم اليوم يتسابق في اساليب جمع المعلومات وتخزينها والتركيز على التقنية العالية في ذلك بحيث يسهل على الباحث مهمة بحثه ويجعله يقطع المسافات الطويلة في وقت قصير قياساً لما كان عليه الحال في الماضي.
اجل، ان دور الدارس المختص في فرع من فروع المعرفة ان يدون بصورة مستمرة كل جديد يصدر في موضوعه ويعمد الى ما ينشر في المجلات العلمية المتخصصة فـيرصده اولاً باول وان يشعر انه في موضوعه اذا عثر على ثغرة يجب ان يعمد الى تغطيتها بصورة مستمرة. ومع تقدم الزمن فأنه سيشكل لديه حصيلة كبيرة من المعلومات التي تشكل مكتبة عمل او بحث. فالعلم هنا جهد تراكمي يأخذ بالاعمار ويستهلك الايام والليالي.
هنا ينبغي القول- وهنا ندخل في الواجب الثالث- ان العلم لا يكشف عن اسراره ولا يجود بمكنوناته للباحث او الدارس الا من خلال الاستغراق الفكري العميق وتوظيف الطاقات الكامنة في كيان الانسان وعقله الباطن. وهذا يقتضي فيما يقتضيه الاعتزال والخلوة والنأي بالنفس عن كثير من وسائل الانشغال بالمناسبات الاجتماعية التي تأكل الوقت وتعطل الجهد وتحرم الانسان من تحقيق حالة الاستغراق الفكري التي هي اساس في الابداع.
يقول ابن خلدون تعليقاً على ذلك: العبقرية بنت الجهد المتصل. ويرى اديسون: ان العبقرية هي (99%) عرق جبين و (1%) موهبة).
لقد استمر المؤرخ الانكليزي جيبسون اثنى عشر عاماً وهو يجمع المادة الاولية لكتابة الشهير (اضمحلال المبراطورية الرومانية وسقوطها). وعلى هذا يرى كثير من العلماء ان التحدي الاكبر في عملية البحث العلمي يكمن في جمع المادة الاولية حتى اذا تجمعت اصبحت عملية الكتابة او الوصول الى التعميمات والنظريات عملية ليست كبيرة الصعوبة.
يضاف الى كل هذا انه يفترض في الدارس او الباحث ان يتميز بالنزاهة والموضوعية وان يتناول موضوعه بحيادية علمية تجعله اقرب الى القاضي النزيه في اصدار حكمه، وهذا يقتضي فيما يقتضه تنمية استراتيجية الوعي النقدي، فالانسان لا يكون ذاته الا اذا امتلك روح النقد ونقد الزاد الذي يقدم اليه. وتتم تنمية الوعي النقدي الاستراتيجي على مستوى الامة من خلال موضعة (من الموضوعية) غير الموضوعي والذاتي.
والاكاديمية الفاعلة او المؤثرة هي في جوهرها عملية تحرير حقيقي للانسان بالمعنى الفعلي والشامل ذلك انها وسيلة الوصول الى الحقيقة. هذه الحقيقة التي يقول فيها السيد المسيح: اعرف الحقيقة وهي التي تحررك. وعلى هذا فانه لا يلتفت في مجال العلم الصحيح والمنهجية الدقيقة الى مذهب متحيز او اعتذاري يتنكب عن قول الحقيقة مهما كانت التحديات….
وفي تاريخ البشرية شهداء كثيرون ضحوا من اجل المعرفة بارواحهم او شردوا وحرقت كتبهم… لكن، وبالرغم من ذلك خلدوا وخلدت افكارهم… وما زالت الانسانية تجلهم وتقدرهم.
غاية القول: ان طريق البحث العلمي ليس دائماً سهل السبيل بل انه محفوف بالعقبات…لكن مما يعوض الباحث او العالم هو ما يحس به من رضا نفسي عميق والذي يطلق عليه المجتمع في هذه الايام (سعادة الثقافة) او (سعادة القيم) هذه السعادة التي تأتي عن طريق المعاناة التي تجعل النفس في حالة تفتح كياني او وجودي او تصوف عرفاني ممتليء بالنشوة التي يقول عنها احد الائمة المتصوفة ما معناه: والله لو عرف ابناء الملوك ما نجد من معاناة التجربة العلمية الفقهية لقاتلونا عليه. فهذه المعاناة المخلصة والتي قد لا يظفر من ورائها العالم بكثير من حطام الدنيا بل ان يكون قد وطد النفس على الزهد والحرمان هي التعويض الحقيقي لمن عرف وعلم وذاق لذة البحث باعتباره في النهاية غاية الحياة ورسالتها وجوهرها وبالتالي فهو كيمياء السعادة. وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال: ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضا بما يفعل.
[email protected]