لا ريب في أن أهمية معيار الهوية الوطنية بات ، في المرحلة الراهنة ، يحتل في مجتمعات بلدان العالم الثالث المرتبة الأولى في سلّم أولويات حكوماتها ، ويؤطر الكثير من تطلعات شعوبها ، ويستحوذ على توجهات معظم نخبها . ليس فقط من قبيل استكمال مقومات وحدتها السياسية الهشة ، وتعزيز عناصر تجانسها الاجتماعي القلق ، وتقوية مرتكزات وعيها الثقافي المتصدع فحسب ، وإنما لكونها ما برحت مستهدفة في صميم وجودها الحضاري ومعرضة لاختراق نسيجها القيمي ، ومرشحة لتحجيم دورها الإنساني . وذلك لكونها تشكل ، في عرف العلاقات الدولية السائد ، مناطق رخوة وبيئات ضعيفة تفتقر لأبسط عوامل الاستقرار والتوحد من جهة ، وتستقطب نوازع الاستحواذ والسيطرة من جهة أخرى . على خلفية المشاكل الاجتماعية التي تعصف بها والأزمات السياسية التي تعاني منها . لاسيما وأن زوابع ( نظرية الفوضى ) المصممة لزعزعة الثوابت وإسقاط المسلمات ، آخذة باجتياح تلك العوالم الغرائبية على وفق ما يقوله ( مايكل ليدن ) أحد أعلام المحافظين الجدد : ان التدمير البناء هو صفتنا المركزية ، وان الوقت قد حان لكي تصدر الثورة الاجتماعية ! .
وبرغم ان التعرض لمثل هذا المعطى التاريخي / الحضاري قد يشكل من الناحية المبدئية مساسا” بالأصول التكوينية والمرجعيات الرمزية ، إذا ما تم تجاهل خصوصية الأدوار التي تضطلع بها ، وإهمال الوظائف التي تمارسها في تضاعيف السيكولوجيا الاجتماعية ، الأمر الذي يستدعي ردود فعل معارضة من جانب المجتمعات المعنية بالأمر ، من منطلق ان مسألة الهوية تعتبر بمثابة ( وجود وماهية ) حسبما يرى المفكر الدكتور ( محمد عابد الجابري ) . إذ إنها تشتمل على ثلاث مستويات اجتماعية مترابطة ومتداخلة يتطلب أحدهما الآخر ويستلزمه ؛ الايثني / الاقوامي ، والسياسي / الشرعي ، والثقافي / الإيديولوجي . نقول برغم ذلك ، فان الحديث عن هذا الموضوع (( الهوية الوطنية )) لا يستقيم دون الأخذ بنظر الاعتبار واقعة ان (( التعددية الثقافية )) تعتبر واحدة من أبرز ملامح مجتمعات البلدان النامية / المخترقة – بضمنها أقطار الوطن العربي طبعا”- لاسيما وأنها تتصل بالجوانب الروحية والوجدانية التي غالبا” ما يصعب إدخال أية تعديلات نوعية عليها ، أو حملها على قبول مقدار معين من التغييرات البنيوية بذات السرعة والسهولة التي تتم بها على المستويات المادية / الإجرائية ( = الايثني والسياسي ) ، الأمر الذي أكدت مضمونه مقالة العالم الانثروبولوجي (( ملفيل ج . هيرسكوفتز )) التي جاء فيها :
(( ان التغيير في الثقافة المادية أسرع وأسهل منه في الثقافة غير المادية ، وان الأشياء الجديدة تنتشر دون أن تلقى ذات المقاومة التي تلقاها الأفكار الجديدة )) . ولهذا فان التعاطي مع قضية التعددية الثقافية من المنظور التاريخي / العقلاني ، لا يعدّ تجاوزا” على مقومات الهوية الوطنية أو الإقلال من شأن عناصرها الاعتبارية في حياة الجماعات الاجتماعية ، بقدر ما يسهم في كشف المعوقات السياسية وتشخيص الملابسات الاجتماعية وتحديد الاحتقانات النفسية التي تعيق حركة تكوين وعي وطني موحد ، يستبطن قيم التنوع الثقافي ، ويستلهم معايير المنظومات العرفية ويستشف ارهاصات الرؤى الاعتقادية ، لخلق حالة من الإجماع السياسي المتكافئ حول فكرة ومغزى الهوية الوطنية المراد غرسها في وجدان الفرد وتوطينها في ذاكرة المجتمع . ذلك لأنه إذا كانت : (( الثقافة العليا ( = الثقافة الوطنية ) – كما يشير المفكر الدكتور برهان غليون – أساس نشوء إجماع ثقافي ، فان هذا الإجماع هو إطار تحقيق الهوية التي تشكل بحد ذاتها شرط قيام الإجماع السياسي )) .
* خارطة الهوية وتضاريس الثقافة *
لعل في استعارة بعض مفاهيم الجغرافية الطبيعية ما يساعد على توضيح الصورة التي نزعم تقديمها ، وتقريب المدلول الذي نعتزم إيصاله من خلال طرح تصورنا للعلاقة القائمة بين واحدية الهوية الوطنية من جهة ، وإقرار مبدأ التعددية الثقافية في بنية المجتمع العراقي من جهة أخرى ، بغية تأكيد الأطروحة التي مؤداها ؛ ان تماسك الهوية العراقية واستمرار فاعلية عناصرها لا تنبثق عن إجراءات فرض منطق ( التماثل ) القسري وما يستتبعه من مشاكل الصهر السلالي ، والدمج الإيديولوجي ، والاستيعاب السياسي ، عبر ممارسات إلغاء التنوع وإقصاء التعددية وتهميش الاختلاف ، بل إنها تعتمد ، بالدرجة الأساس ، على مقدار ما تتيحه من عوامل توهج ألوان الموشور الثقافي الذي كان ولما يزل من أبرز الخصائص مرونة وحيوية في العلاقات الاجتماعية القائمة على قيم التعايش والتوافق والتضايف في المجالات القومية والدينية والطائفية ، بحيث ان مدلول كلمة ( العراق ) بات لا يعرف في قواميس المفردات الحضارية إلاّ من خلال تشابك خصائص أعراقه والتحام مكونات أروماته ، مشكلا” بذلك نموذجا”حضاريا”يصعب مضاهاة قدراته على تحمل الصدمات التي تعرض لها ، وتجاوزه للمحن التي ألمت به ، واستيعابه للتحديات التي واجهته ، وتكيفه للمخاطر التي فرضت عليه . ولهذا فان وعاء الهوية الوطنية الكبير ، ليس فقط كونه مؤهل لاستيعاب هذا الطيف الواسع من الثقافات المتعددة والمتنوعة ، باعتبار إنها تمثل رواسب التاريخ العام وحصيلة الجغرافيا المشتركة وخلاصة الوعي المتداخل فحسب ، وإنما تستلزمها كضرورة من ضرورات الوجود الاجتماعي والإنساني المنفتح على آفاق العالم الرحبة ، والتعاطي مع حضارة العصر المتطورة . وفي هذا السياق يكتب الباحث اللبناني ( أمين معلوف ) في كتابه الموسوم : هويات قاتلة (( ما أن نعتبر الهوية مجموعة من الانتماءات المتعددة ، بعضها مرتبط أو غير مرتبط بتاريخ ايثني ، وبعضها الآخر متعلق أو متعلق بموروث ديني ، ما أن نرى في كياننا وجذورنا ومسارنا روافد وإسهامات وتلاقحات متنوعة وتأثيرات مختلفة ودقيقة ومتناقضة ، حتى تنشأ علاقة مغايرة مع الآخرين ، وكذلك مع (العشيرة) التي ننتمي إليها )) .
من هنا فان تكاثر ( الأنا الثقافي ) وانعزال أنماطه وتحسس معطياته وانشطار عناصره ، على خلفية المشهد السياسي المعاصر ، لم يكن في درس التاريخ الاجتماعي للعراق وليد انحراف نزاعاته الاقوامية أو نكوص انتماءاته الطائفية – كما يحاول البعض الإيحاء بذلك – ، بقدر ما هو تعبير قاس عن تداعيات الطغيان السياسي والحرمان الاقتصادي والاضطهاد الاجتماعي والكبت النفسي والقمع الفكري ، التي فرضت عليه ومورس ضده على مدى أجيال ، بحيث ارتد الوضع بالمجتمع إلى حالته الطبيعية / البدائية التي أفاض في رسم مساوئها وتعداد مثالبها فيلسوف السياسة الإنكليزي ((توماس هوبس )) ، فيما المراد هو تحقيق مطلب الوحدة الوطنية ، وإنضاج الشروط الحضارية لبلوغ المجتمع المدني المتطور .
* تأصيل الهوية وتواصل الثقافات *
إذا ما نظرنا إلى طبيعة الأزمة ، بل الأزمات الطاحنة التي ما انفكت تعصف بالمرتكزات التاريخية والحضارية التي ينهض فوقها كيان المجتمع العراقي ، في إطار دوامات الاضطراب الاجتماعي واستشراء مظاهر العنف السياسي وانفلات قيود الرادع الأمني ، فضلا” عن مخاوف تشظي مقومات الوحدة الوطنية وترهل أواصر انشدادها لبعضها فان التمسك بالخيار الوطني والتعلق بالهوية العراقية ، يعدّ في هذا المنعطف التاريخي الخطير ضرورة مصيرية لا تحتمل التأجيل أو المماطلة . حيث تتوارى خلفها جميع الاستحقاقات الثانوية الأخرى التي يجدها البعض – بحسب طبيعة المصالح ونمط العلاقات – مفتاح حلّ مشاكلنا السياسية ، وقارب نجاة أوضاعنا الاجتماعية ، وسبيل تخطي أزماتنا الاقتصادية ، دون إدراك ان تلك المصاعب والعراقيل لم يكن لها أن تبلغ هذا الحدّ من التأزم ، بله التفجر ، بين أطياف المجتمع العراقي المتجانس ، إلاّ لأن ذلك البعض استهان في مسألة الانتماء إلى هويته الوطنية وأفرط في الاتكاء على مرجعياته الفرعية . هذا في حين ان قساوة المحنة وجسامة الواقعة التي ألمت بالعراق أرضا” وشعبا” ، تستلزم من الجميع ليس فقط نبذ خلافاتهم الاقوامية وتأجيل مطاليبهم الثقافية تحت هذا المسمى أو ذاك العنوان فحسب ، وإنما التناخي للانضواء تحت خيمة العراق الواحد ، والتآزر للاحتماء خلف قاسم الوطن المشترك والتواصي للتمسك بحبل الجماعة المتآخية . وفي هذا السياق فقد سبق للمفكر ( الجابري ) سالف الذكر أن حذر من مغبة التعلّل بإسقاطات الماضي المثقل بأوزار الحساسيات البينية على الحاضر الموبوء بالتقاطعات والاستقطابات ، لتبرير حالة العزلة الاجتماعية والتنصل من المسؤولية الوطنية الملحة بالقول : (( من الخطأ كل الخطأ نقل مشاكل الماضي إلى الحاضر والانخراط ، بوعي أو من دون وعي ، حتى ولو كان الهدف هو الدفاع عن الأصالة القومية )) ذلك لأن الأضرار التي نجمت عن أخطاء السياسية وحماقاتها ليس من الحكمة ولا الإنصاف تحميل العراق وزرها ومقاضاة شعبه عليها ، في الوقت الذي كليهما بأمس الحاجة إلى لملمت شعثه وتضميد جراحه ، عقب أحداث السقوط وتداعياتها المؤلمة . ولهذا فان الواجب يتقضي من كلّ ألوان الطيف السياسي والتنوع الثقافي والاختلاف القومي والتباين الديني ، ليس فقط إظهار أقصى درجات التواصل وأرقى حالات التفاعل على خلفية قيمها الوطنية المشتركة فحسب ، بل والتفاني في الحرص على صيانة الهوية العراقية الموحدة وتأصيل وجودها في وعينا الجمعي وتعظيم شأنها في خطابنا السياسي . فهي من هذا الباب أساس وجودنا ورمز حضارتنا وعنوان مفاخرنا وارث أجيالنا ، بها نكون واليها ننتسب ومنها القوة وفيها المنعة ، ليس فقط لأنها ترمز إلى الآخر / المغاير بكل حضوره المادي ووطأته الحضارية فحسب ، وإنما لكونها توحي بالتآخي القومي والتواصل الثقافي والتعايش الديني بين مكونات المجتمع العراقي ، التي تلازمت مصيريا” وتفاعلت إنسانيا” ضمن إطار بوتقته الوطنية ، حيث شكلت على مدار تاريخه المديد عوامل قوة لنسيجه الاجتماعي ومصادر حيوية لتكوينه الحضاري . فالهوية على هذا الأساس – كما يقول أمين معلوف مجددا”- (( لا تتجزأ ، ولا تتوزّع مناصفة أو مثالثة ، ولا تصنّف في خانات محدّدة ومنفصلة عن بعضها البعض )) . ومن هذا المنطلق ، فالتعددية الثقافية ، والقومية ، والدينية ، والمذهبية الكائنة في طبيعة مجتمعنا العراقي ، إذا ما اجتمعت وتعايشت تحت غطاء ولاءها الوطني ، وتواصلت وتعاضدت في تمسكها بعنوان هويتها العراقية ، فأنها ستكون عوامل قوة واقتدار لا مؤشرات ضعف وانكسار ، كما يراد لها أن تكون من قبل أعداء هذا الوطن المقدس والطامعين بثرواته المباركة . فليكن أذن شعار الجميع : العراق أولا” ، والعراق دائما” ..
[email protected]