ليس هناك أهم من أن يكون شعر ابن الرومي نهجا وسبيلاً لفهم شخصية الشاعر ، فقد أودع شعره كل مكنوناته وأفكاره وعواطفه وخلجاته النفسية وقلقه، ورصده للحياة صغائرها وكبائرها، وأحزانه وسخريته ممن ينال منه، بصدق قلّ نظيره..وإذا قيل أن شعر أي شاعر هو مرآة نفسه فإن هذا القول لينطبق على شعر ابن الرومي أكثر من أي شاعر آخر!
فلنرَ دقّة وصفه الذي امتاز به دون غيره وقدرته على رصد الحركة وتصوير صانع الزلابية الحاذق، وهو يقدم ما يسمى في فن الفوتوغراف ب “تجميد الصورة” في تصوير الحركة السريعة:
رأيتُه سَحَراً يَقلي زلابيةً – في رِقة القِشر والتجويف كالقَصَبِ
كأنما زيته الفضي حين بدا – كالكيمياء التي قالوا ولم تَصِبِ
يُلقي العجين لُجيناً من أنامله – فيستحيلُ شبابيكاً من الذَّهبِ
لاشك ونحن في الشهر الفضيل قد أسال لعابنا على دقة وجمال الوصف والقدرة الكيميائية الخارقة التي تحيل الفضة الى ذهب!
ولننتقل الى وصف الخبّاز وهو يبسط أقماره العجينية في التنور ليخرجها أرغفة محمّرة كأرغفة “باب الأغا” وهي محلة بغدادية اشتُهِرت بخيزها حيث يوصف رغيفها: كبير مدور، ومُحمّر، ورخيص! وكنت في النجف أرى بعض الخبازين ينطبق عليهم وصف ابن الرومي وما كنت يومها قرأت وصفه في الخباز:
يدحو الرُّقاقة َ وشكَ اللمحِ بالبصرِ – ماأنسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ به
ما بين رؤيتها في كفِّهِ كرة – وبين رؤيتها قوْراء كالقمرِ
إلا بمقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ – في صفحة الماء يُرمى فيه بالحجّرِ
سؤالي هل يمكن لرجل معتل الطبع أن يقول مثل هذا الوصف ؟! وهناك كثير غير هذا ما يدلُّ أنه كان يتمتع بكل مشهد جميل فيهتز له ويخرج مصوِّرته الشعريه ليصور أجمل وأدق تصوير..
أما وصفه لمعايب الناس الخُلقيه فهي ردٌ على سؤ تصرفهم معه، وقد نختار وصفه للبخيل:
يُقتِّرُ عيسى على نفسه – وليس بباقِ ولا خالدِ
ولو يستطعُ لتقتيرِهِ – تنفس من منخرِ واحدِ
أريت كيف غاص على المعنى في بيتن قصيرين رسم صورةً للبخيل ساخرة لم يسبقه اليها قبله شاعر! لاحظ الصدى الموسيقي في تعاقب السينات الهامسة ثم توزيع الخاءات.. إن في البيتين صوتاً وصورة! ناهيك عن السخرية الجميله، لم يكن في هجائه مقذعاً بل مرحاً ساخراً لا يدلُّ على طبع لئيم!
لا أود ذكر وصفه للأحدب ولا لأصحاب المعايب الجسدية، بل أراني أذكر مؤكداً أن يبتعد المنهج المدرسي عن ذكرها التزاماً بالمبادىء التربوية التي يجب ان تنأى عن ذكرها… ولكنني أورد له هجاءه المقذع لعمرو مضطراً، لأبين أن هجاءه كان رد فعل على تصرف عمرو، فرد له الصاع صاعين؛ سأختار بعض الأبيات لأن القصيدة طويلة:
أمثلُ عمرو يسومُ مثلي – خسفاً وأيامهُ تطولُ
أمثل عمرو يُهين مثلي – عمداً ولا تنتضي النُّصولُ
فأين منك الحياءُ قل لي – ياكلبُ والكلبُ لا يقولُ
والكلبُ من شأنه التعدي – والكلُ من شأنه الغلولُ
مقابحُ الكلب فيك طُرّاً – يزول عنها ولا تزولُ
وفيه أشياءُ صالحاتٌ – حماكها اللهُ والرسولُ
والكلبُ وافٍ وفيك غدرٌ – ففيك عن قدرِه سُفولُ
وقد يحامي عن المواشي – وما تحامي ولا تصولُ
إلى أن يقول:
وجهٌ طويلٌ يسيلُ فوهُ – أحسن منه حِر يبولُ
بل فيك سَربٌ وطول خطم – ولم يزل هكذا النغولُ
……الخ
وقدد عففتُ عن أن أذكر كثيراً من المقابح والنعوت الجارح.
ولكن يجد القارىء المتمعن أن ابن الرومي يصيغ حتى مقابحه باسلوب فني وقدرة خارقة على التصوير وتجد فيه التعابير البلاغية ثرّة من مقابلات بلاغية وتكرار بلاغي ورد العجز على الصدر مع توافقات لفظية تُغني الجانب الصوتي، ورغم تشبيهه لعمر بالكلب إلا أنه انتصر للكلب حين عدد سجايا الكلب السالبة ولم ينس محامده وصفاته السليمة مثل وفائه وحراسته للمواشي .. وهي صفات يفتقد إليها مهجوه عمرو! لكنني أريد أن أشدد أن البادي كان عمرو، وما موقف ابن الرومي سوى صد الهجوم ورد الاعتداء، إذن الاعتداء ليس طبع فيه.
ولا ندري مالذي فعله ذو اللحية الطوية بابن الرومي ليصبَّ عليه جام غضبه، مشبهاً اللحية بمخلاة الشعير ” العليقة” التي يعلف منها الحمار، بيد أنها عامرة بالشعير خلاف “مخلاة” لحية الرجل الملتحي:
إن تَطُلْ لحية عليك وتعرض – فالمخالي معروفة للحميرِ
علّق الله في عذاريك مخلا – ة ولكنها بغير شعيرِ
لو غدا حكمها إلي لطارت – في مهب الرياح كل مَطِير
ألقها عنك يا طويلةُ أولا – فاحتسبها شرارة في السعير
لحية أهملت فسالت وفاضت – فإليها تشير كف المشير
فاتق الله ذا الجلال وغيّر – منكراً فيك ممكن التغيير
أو فقصّر منها فحسبك منها – نصف شبر علامة التذكير
لو رأى مثلها النبي لأجرى – في لحى الناس سنة التقصير
واستحبّ الإخفاء فيهن والحلق – مكان الإعفاء والتوفير
ومن يستمر في تمعن ديوان ابن الرومي سينبهر لحبه للحياة وأطايبها من مأكول ومشروب، ووصف للطبيعة وغزل بما يخفق لها قلبه فهو إنسان رقيق الأحاسيس، بل هو طيّبٌ وذو نزوع أنساني تجسد ذلك في رثائه، وكذلك في وصفه للحمال الأعمى التي تطفح عاطفة إنسانية ما بعدها عاطفة وهو يصف إنساناً معدماً آثر العمل على مذلة السؤال، فراح يتعثر في مسيره وهو يجاهد في إيصال ما حمل ليؤدي أمانة إلى أصحابها، دون أن يرحمه أحد فهذا يدفعه وهذا يصدمة ولا رحمة ممن يعينه ويأخذ بيده:
رأيت حمّالاً مُبينَ العمى – يعثرُ في الأكمِ وفي الوَهدِ
محتملاً ثِقْلاً على ظهره – تعجز عنه قوة الجلْدِ
بين جِمالاتٍ وأشباهها – من بَشَرٍ ناموا عن المجدِ
وكلهم يصدمه عامداً – أو تائهَ اللبِّ بلا عمدِ
والبائس المسكين مستسلم- أذلُّ للمكروه من عبد
وما اشتهى ذاك ، ولكنه – فرّ من اللؤم إلى الجهدِ
أتمنى لهذه القصيدة أن تدخل المنهج المدرسي لبعدها الإنساني والأخلاقي أولاً وإنصافاً لشاعر عظيم مانفك يشوهه دارسوه بمن فيهم كبار الأدباء للأسف، سؤالي للقارىء المنصف: هل ترى في ابن الرومي سؤ الطبع كا زعم الدكتور طه حسين؟!
ولي أن أختتم هذه الفرزة ببيتين لابن الرومي العظيم، وكأني به عائش في زماننا وبين ظهرانينا:
دهر علا قدر الوضيع به – وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه – سفلا، وتعلو فوقه جيفه
للموضوع صلة–