23 ديسمبر، 2024 1:22 م

نحو تحديد المفهوم الوظيفي للدين

نحو تحديد المفهوم الوظيفي للدين

كانت للمجتمعات البدائية مشاكلها المختلفة جذريا عن مشاكل مجتمعات الألفية الثالثة,لذالك يجب تطوير فهمنا للموروث الديني على ضوء هذا الاختلاف وتراكم الوعي الحضاري خلال عشرات القرون في محاولة للتخلص من الارتباط التام بالماضي في الرؤيا والتفسير التي ينادي بها بعض المشايخ بشكل يثير السخرية وصلت إلى حد وجوب التقييد بنوع الملابس التي يجب أن تماثل ما كان يرتديه المسلمون قبل أربعة عشر قرنا!!

ينبع جوهر الاختلاف بين مجتمعات ما قبل التدوين ومجتمعات ما بعد الثورة الصناعية في حجم المعرفة التي تساعدها على الإجابة عن الأسئلة المبهمة ففي حين كانت تدور ابتداءا حول ماهية العلاقة بين الإنسان والطبيعة و التطمينات التي يحتاجها الإنسان تجاه مخاوفه الغريزية من كل ما هو مجهول وخاصة القوة المدمرة لهذه الطبيعة ,في حين تجاوزت المجتمعات المتحضرة في الوقت الراهن هذه الأسئلة إلى أخرى أكثر خطورة تتعلق بوصول الإمكانيات العلمية إلى حدود القدرة الإلهية خاصة فيما يتعلق بالاستنساخ وهندسة الجينات الوراثية والقدرة على التحكم بالطقس ويبقى الهم المشترك تاريخيا للجنس البشري عبر كل مراحل نموه الفكري هو البحث عن طريقة للوصول إلى إجابات شافية حول الأسئلة الوجودية مع اختلاف الأدوات المستخدمة التي تتطور بسرعة قياسية فحجم النمو العلمي الذي نلمسه على شكل منتجات في كل الاختصاصات خلال ال100سنة الماضية تعادل مئات الاف الاضعاف لحجم المنجز البشري الذي استطاع الوصول اليه خلال سبعة الاف عام . وبالتاكيد فان التطور يسير على شكل متوالية هندسية بحيث ان الانجازات التكنلوجية خلال ال 25 عاما الاخيرة يوازي الاف اضعاف ماكان موجودا عند بداية القرن العشرين.

أدى افتقاد المجتمع(قبل تسعة ألاف عام على اقل تقدير) للتفسير العلمي لظواهر طبيعية كالبراكين والزلازل والأعاصير إلى الاعتقاد بأنها قوى عاقلة تمارس عليهم نوعا من العقاب الجماعي لأسباب غير مفهومة ولذالك تبلورت فكرة إرضاء تلك القوى وتجنب غضبها باعتبارها آلهة تتحكم في مقدراته , يجب كسب ودها عن طريق مجموعة من الممارسات خلق منها التكرار نمطا محددا اصطلح على تسميته (الطقوس) ,تسبب تعددها وتعقيدها إلى بروز الحاجة لمجموعة من الأفراد تتفرغ للقيام بهذه المهمة نيابة عن الآخرين مقابل هدايا عينية ومادية (النذور) تقدم بأسم الالهه لهذه المجموعة التي تحولت فيما بعد إلى الطبقة الأهم في المجتمع فاستحوذت على الدور الرئيسي في رسم ملامح التاريخ الإنساني, انها طبقة الكهنة التي حضيت على الدوام بقدسية امتلكت من خلالها زمام الأمور في كل مناحي الحياة بالقدر الكافي لاحداث نوازن هش او محكم- حسب الضروف- بين غريزة الاستحواذ والتمتع بمنافع شراكة المصالح والنفوذ مع الحاكم,وفي اوقات معينة رجحت كفة المؤسسة الدينية بجوانبها الروحية و المادية على مؤسسة الحكم خاصة أذا ما ارتبطت شرعيةهذا الحاكم بمباركة الالهه وهكذا كانت العلاقة بينهما في اغلب الأحوال.

من هنا نفهم إن بداية الوعي بالظاهرة الدينية أعطاها سلطة مطلقة تتعدى القصد الأساسي للعبادة إلى تشكيل نوع من القوة (الماد روحية)المهيمنة على كل تفاصيل الحياة الإنسانية واستمر هذا الشكل غير المتكافئ في علاقة الدين بالمجتمع حتى ظهور الأديان السماوية التي قننت هذا الدور وأطرته بحدود معينة لكنها لم تتجاوزه بشكل كامل لأسباب موضوعية أهمها الفقر المعرفي للمجتمعات والذي لم يتيح لها إمكانية الإجابة على جميع الأسئلة الموروثة من عصر ما قبل الحضارة وعدم وجود أشكال من الحكم في تلك الفترة قادرة على تنظيم العلاقة المتبادلة في مثلث الحكمة بين الإنسان والدين والدولة بالطريقة التي تأخذ بالاعتبار رغبة الناس العاديين ومشاركتهم في صنع القرار الذي يؤثر على حياتهم ليعطيهم حرية الابداع و يمنحهم فرصا اكبر للتطور.

إن ظهور الإسلام كأخر دين سماوي لا يخرج عن هذه الافتراضات بسبب نشوئه في بيئة جاهلية ترفض أي نوع من أنواع التنظيم , لذالك نجد الرسول محمد(ص) والخلفاء الراشدين من بعده امسكوا بالسلطتين الدينية والسياسية مع ملاحظة مهمة هي إن السلطة السياسية للنبي (ص) لم تكن غاية بل وسيلة وجدها ضرورية لتنظيم الحياة في المدينة فرضها هدف توحيد مجتمع لا يملك نظاما سياسيا حقيقيا مثقل بنزاعات قبلية دامية مما اضطر الرسول إلى إصدار وثيقة المدينة كعقد اجتماعي للدولة الوليدة تحدد حقوق وواجبات جميع السكان (المسلمين واليهود والمسيحيين), بينما اعتبرها الخلفاء من بعده سنة من الواجب التقييد بها فكان الخليفة هو الزعيم السياسي والديني في الوقت عينه حتى بعد انتفاء الحاجة للدمج بين السلطتين لكن الخلفاء مع امتلاكهم الصلاحية المطلقة كانوا يسمحون بنوع من المشاركة في اتخاذ القرار من قبل مجموعة استشارية يمثلها(أهل الحل والعقد) وهم أصحاب العلم والنفوذ في المجتمع ,لكن لم يتم تطوير هذه الصيغة وأخذت تتقلص شيئا فشيئا حتى تلاشت تماما , والدليل على إن النبي كان مهتما بالإصلاح الاجتماعي الذي يحقق مبادئ العدل والمساواة أكثر من اهتمامه بالزعامة السياسية التي فرضتها تحديات انتقال المسلمين إلى المدينة هو إن زعماء قريش عرضوا علية الملك والسيادة على مكة فرفضهما بأباء وهي إشارة مهمة إلى الطبيعة الدعوية الإصلاحية للدين كوظيفة أساسية, وإذا تم خلال فترات معينة توسيع صلاحياته لأسباب وضرورات محددة بالزمان والمكان فمن غير المنطقي اتخاذها قاعدة تملك الثبات والاستمرارية حتى يومنا هذا يتم من خلالها إقحام الدين في الشؤون السياسية بحجة جمع النبي للسلطتين.

أخذت ملامح الانفصال التقني بين النواحي السياسية والدينية تتضح شيئا فشيئا بعد أن أسس الأمويين دولتهم الملكية القائمة على أساس شرعية السيف بأولويات مختلفة أهمها توطيد الأمن داخليا باستخدام القوة الساحقة ضد الخصوم والسخاء المادي مع المواليين وبما إن هذا السخاء يستنزف موارد الدولة كانت غنائم الفتوحات من أهم الروافد التي تساعد الخزينة في إدارة سياستها بالإضافة إلى تمويل الجيوش التي تقوم بفتوحات إضافية, كانت إدارة الحكم بعيدة نسبيا عن المفاهيم الأخلاقية للمسلمين الأوائل رغم استثمارها (الميكافيلي) للشرعية الدينية وتطويع مفهوم شريعة الجهاد في توطيد دعائم الحكم وفي هذا العصر بالذات وبسبب حداثة التحاق الاموين بالإسلام (حيث إن اغلبهم اسلم بعد فتح مكة) فقدوا القدرة على طرح أنفسهم كزعماء دين يمكن الوثوق بهم خاصة مع وجود الكثير من صحابة النبي وأهل بيته الذين يمتلكون ميزة السبق في الإيمان و تلقيهم تعاليم الإسلام منه مباشرة وكان ابتعاد اغلب الامويين عن حياة الزهد والعفة التي ينبغي أن يكون عليها المسلم العادي فضلا عن رجل الدين عاملا آخر في عدم موضوعية دمج السلطتين بأيديهم بشكل عملي ولسد هذه الثغرة فضلوا التمسك بالسلطة السياسية وترك الشؤون الدينية لطبقة رجال الدين النفعيين كموظفين يخدمون هذه الدولة الغنية والقوية بعيدا عن الاستقلالية العلمية التي ينبغي أن يكونوا عليها مستخدمين معارفهم في بنائها وفق رغبات الخليفة ومشروعه التوسعي بغض النضر عن مدى قربه أو بعده عن جوهر الإسلام, على الرغم من إن الخليفة في الظاهر هو الزعيم الديني للدولة, إلا إن هذه الطبقة الناشئة استطاعت التمدد وإيجاد موطئ قدم لها في النظام السياسي للدولة.

ولم تخالف الإمبراطورية العباسية النهج الأموي في طريقة تعاطيها مع الشأنين السياسي والديني فمع إنها قامت كثورة ذات طابع ديني وقبلي لاسترداد حقهم المغتصب في الحكم(حسب رأيهم) فقد انتهت إلى نمط حكم يكاد يكون متطابقا مع سلفه.

وطد فقهاء الدولتين مفاهيم الشرعية الدينية للحاكم السياسي غير آبهين بدرجة القبول الشعبي أو حجم الظلم الصادر من هذا الحاكم, مروجين لمصطلح الحق الإلهي في الحكم وعدم جواز خروج المحكوم على الحاكم مهما كانت تصرفاته بعيدة عن الشريعة الدينية التي يدعون تمثيلها وهو مثال صارخ على تسخير الدين لخدمة المصالح السياسية حتى في عصرنا الراهن وتجلى هذا التناقض بأبشع صوره في أحداث الربيع العربي حيث يصدر وعاض السلاطين (كما وصفهم الدكتور علي الوردي) فتوى تؤيد المظاهرات في بلد لا يتفق وسياسة مموليهم بينما يفتون بحرمتها في بلد آخر لا يقل استبدادا عن الأول في تجاوز خطير لمعايير العدالة واحترام الذات أو القيم الدينية التي يدعون تمثيلها ,وفي مقابل هذا السلوك الديني غير المهتم بمشاكل المجتمع وخاصة الطبقات الأضعف فيه نشأت حركات دينية واجتماعية معارضة عديدة بعضها فكرية وأخرى ذات طابع مسلح ساهمت في الانقسام العمودي على شكل مذاهب وطوائف إسلامية متصارعة انتظمت في أتلافين كبيرين هما(الفرق السنية الحاكمة) و(الفرق الشيعية المعارضة) مع بعض الاستثناءات التاريخية التي تبادل فيها الفريقين المراكز, لعب موضوع التمويل دورا مؤثرا في نشوء التطرف لدى الفريقين فبالنسبة لفقهاء السنة كان مصدر تمويلهم هو الدولة وهذا يفرض عليهم محاباتها أو على الأقل تجاهل ممارساتها غير الانسانية وكلما كانوا شديدي النقد لخصوم الدولة وإصدار فتاوى التكفير بحقهم كانت لهم من العطايا والنفوذ ما يرغبون وأكثر , أما فقهاء الشيعة فكان تمويلهم من عامة الشعب – عن طريق ضريبة الخمس- وهذا الشعب في غالبه محبط ويعاني الفقر والتمييز لذالك فان الفقيه الذي لا يعبر عن تطلعاته بانتقاد الدولة والتوسع في ذكر مثالب الحكام السابقين والحاليين ورجال الدين المساندين لهم لا يحصل على الخمس وكان معيار الثقة التي يستحق فيها رجل الدين المعارض أموال الخمس يتعلق بإمكانياته الخطابية التي يوضفها في النيل من الدولة ورجال الدين المؤيدين لها فالعلاقة طردية بين حجم الانتقاد وبين كمية الموارد الاقتصادية التي يجذب بها المزيد من الأنصار عن طريق برامج التكافل الاجتماعي وإنشاء المدارس الدينية ولم يكن هذا العمل ديني بحت بل كان وسيلة للوصول إلى السلطة عن طريق امتلاك النفوذ الشعبي (السلطة الشعبية) كمعادل موضوعي لسلطة الدولة , وكان أسلوب الوصول لهذا النفوذ يحمل الكثير من البعد عن الموضوعية فهو يستلهم من الوقائع التاريخية التي تزخر بالمواقف النبيلة والشجاعة النادرة قصصا فيها الكثير من المبالغات والحشو الخرافي لدغدغة مشاعر السذج ببكائيات أبعدتهم عن المعاني الإنسانية العظيمة لتلك الوقائع التاريخية وأهمها معركة كربلاء لتصبح هذه الروايات والأحكام المستنبطة منها جزءا من الموروث المقدس لدى عامة الناس حتى لو كان فيها الكثير من عدم المنطقية,وإذا كان هذا الوصف ينطبق على المجتمعات المختلطة مذهبيا فانه يصح أيضا على المجتمعات المتجانسة من حيث المذهب فعندما تصل فرقة معينة إلى الحكم تمارس الفرق الأخرى دور المعارضة والسبب الوحيد لتوحيد هذه الفرق كان تغذية الشعور بالخطر الداهم من الطائفة الأخرى

وهو الأمر الذي جعل الصراع الشيعي السني محتدما طيلة قرون ليصل الى ذروته مع ضهور الدولة الصفوية في ايران وقبلها الدولة الفاطمية في مصر التي مارس فيها الاءتلاف السني دور المعارضة وواجه ذات الضلم الذي واجههة الشيعة في زمن الدولتين العباسية والاموية فكلا الفريقين فشلوا في اقامة حكومة عادلة عندما مارسوا الحكم.ولم يكن العامل المذهبي وحيدا بل لعبت العصبية القبلية والتماييز العرقي وسوء توزيع الثروة وقمع الحريات دورا اضافيا في الوصول الى تلك النتيجة في محاكاة لفترة مظلمة من تخلف المسيحية في القرون الوسطى, ويمكن فهم هذا البناء التاريخي المعقد وشبكة المصالح المشتركة بين الوعاض و سلاطينهم وفقهاء المعارضة في ضوء حقيقة تاريخية مازالت تعمل كآلة هدم للدين من داخله وهي إن أغلبية المشتغلين بالشأن الديني ينضرون لعملهم الذي من المفترض أن يكون أخلاقيا في المقام الأول كمهنة تحمل اشتراطات العمل الدنيوي من ربح وخسارة ومحاولة الحصول على أعلى المكاسب, لقد عملت هذه العلاقة التبادلية بين السلطتين (السياسية) و(الدينية)على منع ارتقاء المفاهيم الدينية بنسبة تتوافق ودرجة التطور التي طرأت على العلوم الدنيوية ومن هنا نشأت الفجوة بين الدين والحضارة ومنعت المجتمع من القدرة على إنتاج نظام سياسي يخرج من عباءة الحكم المطلق للفرد والقبيلة والجماعة أو أحداث تطور ممنهج في العلوم المختلفة حيث اقتصر الانجاز على حالات فردية لعلماء ساعدتهم ظروف استثنائية للقيام بأعمال جليلة. فهذه العلاقة الانتهازية بين الدين والدولة من جهة والدين والمجتمع من جهة أخرى تحتاج إلى وسط مثقل بالجهل والفقر للنمو لذا حرصت سلطتي الاستبداد الديني والسياسي على بقاء سمة التخلف ملازمة للشعب كشرط لاستمرار نفوذهما, يقال إن احد الشيوخ كان يشرح آيات من سورة البقرة في إحدى مدن جنوب العراق فسأله احدهم أن يشرح له أية الإمام علي فعندما اخبره بعدم وجود مثل هذه الآية ثار قائلا أي قرآن هذا الذي يذكر البقر ولا يذكر أمير المؤمنين؟!!,.لعب الجهد الفقهي غير المسؤل لمئات السنين من إحاطة الحكام وحاشيتهم الدينية لبعضهم البعض وزعماء المعارضة وفقهائهم بهالة قدسية تمنع أي نوع من المواجهة الحقيقية معهم فكل من يحاول رفض آرائهم أو قوانينهم فأن تهم الزندقة والردة ومحاربة الله ورسوله بانتظاره وغالبا ما تكون عقوبة هذه التهم هي الموت, وفي المقابل اكتسبت مبالغات المعارضة في تناول التاريخ الديني للإحداث ذات القدسية التي تمنع أي مجال لإخضاعها لمنهج نقدي عقلاني,

وكل ما نلاحظه من تطرف أسلامي هو نتيجة طبيعية لتقديس أشخاص يتم اقتفاء أرائهم وإتباع خطاهم دون إعطاء فرصة ولو ضئيلة لعملية مراجعة حقيقية لتجاربهم وظروف إصدار الفتاوى التي كان الكثير منها تدخل في دائرة المجاملة للسلطة أو الرعاع في بعض الأحيان تبعا لمصادر التمويل,توسعت دائرة المهام الدينية نتيجة التخلف العام الى شؤون الصحة وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بل وحتى طريقة تناول الطعام وعلى سبيل المثال مارس الفقهاء دور مدرسي( الاتكيت) عندما طرحوا روايات تتحدث عن وجود حبة في كل ثمرة رمان اصلها من الجنة لذالك يجب ان يحرص المؤمن على عدم اسقاط أي حبة رمان على الارض ليحضى بفرصة تناول هذه الحبة التي نمت ونضجت في الجنة لتصل الى ثمرة الرمان الماخوذة من بساتين دمشق او بغداد او القاهرة بطريقة لايعلمها الا هم!! ا وان رفع حبة ارز من الارض فيه عدد كبير من الحسنات وغسل الجنابة يجب ان يتم بطريقة محددة والا فان المجنب لن يكون طاهرا, ان التفسير المنطقي لهذه الروايات يتعلق بالحث على تناول الطعام بطريقة متحضرة وتجنب بقاء الفضلات في محلها والعمل على نضافة الجسم بصورة صحية اما سبب تناول الفقه الديني لهذه التفاصيل فهو لملئ الفراغ الناتج عن الجهل وعدم وجود مؤسسات تعنى بتهذيب سلوك الانسان وارشاده الى العادات الصحية السليمة , فلو صدرت ارشادات مثل عدم رمي النفايات في الاماكن العامة اووجوب الاهتمام بنضافة الجسم عن طبيب او مؤسسة تهتم بالشان العام في ذالك الوقت الذي لايعرف فيها المجتمع سوى سلطتين هما الخليفة ونوابه الامراء ورجال الدين لما كان لهذه الارشادات تاثير يذكر لكن صدورها عن رجال الدين يعطيها قوة الزام اعتبارية ,لذالك متى ما تم ملئ مثل هذه الفراغات في بنية المجتمع عاد الدين الى وظائفه الاساسية في الدعوة والارشاد العام للفضيلة بكل معانيها بلا عملية ترغيب ساذجة,قادت هذه العوامل التي تجاوزت المهمة الاخلاقية للدين للتطرف الذي وصل حد الاستهتار بالقيم الروحية التي يمثلها الدين و إتباع طرق أحادية النضرة في تفسير النصوص فقط ليتلائم هذا التفسير مع ميول العنف والإرهاب وسوء الخلق وكل الاضطرابات النفسية التي يعاني منها المتطرفون, بعيدا عن الغاية الحقيقية له وهي تنظيم العلاقة الشخصية بين الإنسان وخالقه دون التدخل الفج في خياراته الدنيوية, مادامت لاتنتهك حرية الآخرين أو القانون و بما يحقق الاطمئنان الروحي والانسجام الداخلي مع فكرة العبودية لله الواحد الأحد والتعايش مع الاخر وهي الأساس الأول للإيمان الحقيقي وأي دين لا يحقق هذا الهدف فهو دين فاقد لهويته , فما الحاجة لدين يؤذي المجتمع عن طريق القتل والسرقة والاغتصاب والتضييق على الحريات الشخصية بحجة بناءه بالطريقة التي يكون فيها الانسان اقرب الى الله, كما يحدث الان في ضل دولة الخلافة التي اعلنها البغدادي!!

أدت نتائج ثورة القس مارتن لوثر (ثورة الإصلاح البروتستانتي) التي انطلقت عام 1517 إلى تغيير جوهري شامل في بنية الكنيسة الكاثوليكية,ظهر على شكل تجديد هائل في نضرة المجتمع للوظيفة الدينية وإعادتها إلى بعدها السماوي بعيدا عن رذائل السياسة وانحطاط وسائل البحث عن زيادة عن طريق بيع صكوك الغفران مثلا , وترتب على عملية الإصلاح اللوثرية ابتدءا من عصر النهضة انحسار دور رجال الدين في الشؤون السياسية بشكل عام وصولا إلى الثورة الفرنسية التي شهدت الانفصال التام بين الدولة والدين وهو ما سمح للمجتمع الأوربي بالتخلص من قيود الكنيسة والانطلاق نحو بناء نموذج حضاري (مدني) وهو ما حدد في النهاية حجم تفوق الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي في كل المجالات وبلا استثناء.

لم يحدث هذا التحول بيسر وسهولة بل وجد مقاومة عنيفة وشرسة من المحافظين والمنتفعين من سلطة الكنيسة وحكم طبقة النبلاء التي تدين بخضوع الأفراد لقسوتها إلى الشرعية الدينية التي وفرتها علاقة المنفعة بينهما,لكن الحتمية التاريخية للتطور المعرفي التي انطلقت بفضل الحركة البروتستانتية انتصرت للنموذج العلماني للدولة وهو الدافع الأساس للاستقرار والنمو في تلك المجتمعات محققين الغاية النهائية للوجود الإنساني في الحياة على المستوى العملي .

لم يحضى الإسلام بهذه الفرصة للتطور والقيام بحركة إصلاحية جدية تنقله من احد أهم أدوات القمع الفكري والسياسي إلى وسيلة للخير والعدل والمساواة عبر تنمية الحس الأخلاقي للفرد بسبب افتقاده لمصلحين حقيقيين قادرين على التخلص من هيمنة التفسير الكلاسيكي المتاخر علميا والموجه سياسيا للتراث الاسلامي باعتباره تاريخ مقدس من الانجازات لايجوز القفز عليها, أو أن درجة هذا القمع واكتسابه شرعية دينية منعت تلك الحركات الإصلاحية الحقيقية من اخذ مداها الذي يتجاوز عتبة الخضوع الاجتماعي للظلم وهو الأرجح بالنضر إلى عدم نجاح المحاولات التجديدية للشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في نهايات القرن التاسع عشر والدكتور علي شريعتي والمرجعين أياد ألركابي و محمد حسين فضل الله فبما بعد على سبيل المثال وبقائها في حدود التنظير النخبوي , وهذه الحقائق لا تعني التسليم برأي( برنارد لويس ) القائل بان الإسلام دين غير قابل للتطور في تحليله لازمة الإسلام فقد وقع في ذات الشرك الذي وقع فيه وعاض السلاطين عندما سخروا آرائهم في خدمة أهداف تبعدها عن الموضوعية والحياد, لكن الثابت إن الإسلام مازال غير قادر على إيجاد الحل لمعضلة تحديد صلاحياته في المجتمع وحدود سلطته التي تبدو مطلقة وغير مقيدة من خلال قدرات تنفيذية مباشرة تمارسها مجموعات مسلحة تابعة لمؤسسات وأحزاب دينية أو من خلال أجهزة الدولة في حالات معينة.

إن ربط( لويس) لتخلف الشعوب العربية والإسلامية بالإسلام كديانة مختلفة عن اليهودية والمسيحية من حيث الاستجابة للمتغيرات, فيه الكثير من التسطيح لجوهر أزمة الشعوب الإسلامية فالنضرة المتسرعة والمتلازمة مع خريطة العنف العالمية وارتباط معظمها بحركات وجماعات إسلامية من افريقيا الوسطى ومالي ونايجريا الى افغانستان وباكستان مرورا بالجزائر وليبيا وتونس ومصر واليمن والعراق وسوريا تؤدي إلى هذه النتيجة, لكن التعمق في محاولة فهم الأزمة تقودنا إلى حقيقة إنها تتعلق بمدى فهمنا لآيات القران والتراث الإسلامي عموما ولأاعتقد إن مفكرا لامعا مثل (برنارد لويس) لا يدرك هذه الحقيقة لكنه تعمد تغييبها لان القول بان التخلف هو سمة أصيلة في الإسلام وانه غير قابل للتطور كالديانتين المسيحية واليهودية في اتهام مبطن بأنه دين غير سماوي ولا يمثل امتدادا لهما يخدم فكرة وجوب القضاء على هذا الدين الذي يعيق عملية التطور الحضاري لسكان الارض , وهو رأي يعتمد تجزئة الحقائق تلبية لرغباته المتصلة بميوله السياسية والدينية بعيدا عن كفاءته العلمية المرموقة التي سخرها لترسيخ عملية التدمير الذاتي للحضارة الإسلامية.

تتطلب عملية النهوض الحضاري للدول الإسلامية وتجنب مخاطر التقسيم التي ستعيدنا إلى مرحلة تكوين المجتمعات البدائية والانخراط في حروب طائفية لا يوجد فيها منتصر, مراجعة جدية للتراث الإسلامي تنزع عنه صفة القداسة وإخضاعه لمنهج نقدي يتفق ومعايير الحياة الإنسانية في القرن الواحد والعشرين للتخلص من حالة التخلف والعنف والانغلاق على آراء وفتاوى أشخاص عاشوا قبل ألف عام باعتبارهم السلف الصالح فلا يمكن فهم الدين إلا من خلالهم !!..ستؤدي هذه المراجعة بالتأكيد إلى إنتاج مفهوم معاصر للوظيفة الدينية يفصل بشكل لا يقبل الغموض بين الديني والسياسي ليعود الى طابعه الاجتماعي الذي تراجع لصالح مهام أخرى هي من صميم عمل الدولة والمجتمع المعاصر. إن كل ما نعانيه اليوم من تطرف وإرهاب هو ثمرة هذا الزواج ألقسري بين الدين والسياسة بطريقة أدت إلى ربط تلقائي بين الإرهاب والإسلام ( نظرية بافلوف) محولين آليات بناء مجتمع إسلامي تسوده العدالة والمساواة (على الأقل وفق قياسات العصور الوسطى) إلى آليات للتدمير الذاتي ففريضة الزكاة على سبيل المثال التي أراد منها الإسلام إعادة توزيع الثروة في المجتمع وفق منظور اشتراكي يحقق كرامة وإنسانية الفئات الفقيرة في المجتمع تحولت إلى مصدر تمويل لعمليات القتل والذبح والاغتصاب وشراء الذمم وتفعيل سياسات تزيد من فرقة المسلمين وتثير بينهم كل انواع الضغائن التاريخية ولو طبقت هذه الضريبة بالطريقة التي شرعها الإسلام لما وجدنا مسلم فقير على الإطلاق, فتحول الخلاف الفقهي الطبيعي – في ضل أنظمة سياسية محايدة تحترم جميع الآراء – إلى خلاف سياسي دفع ومازال المسلمون ثمنه دماء وثروات مهدورة بشكل يعكس حجم التخلف الذي وصلت إليه معظم الجماعات الإسلامية والأنظمة السياسية المرتبطة بها.

إن أي نظام سياسي يعتمد على الشرعية الدينية أو ينطلق منها للوصول إلى الحكم -حتى وان حصل ذالك باليات ديمقراطية- فهو نظام محكوم بالفشل لان أي حزب أو جماعة دينية ستمارس العمل السياسي من منطلقات عقائدية وبما إن فهم العقيدة الإسلامية اخذ أشكالا مختلفة ولم تعد هناك عقيدة واحدة وكل طائفة تعتقد أنها تمثل الإسلام المحمدي بشكله الصحيح فسيكون أداء هذا الحزب أو الجماعة طائفيا فالطائفية صفة أصيلة في تكوين أي جماعة دينية دعوية أو سياسية بسبب الانتماء المذهبي لإفرادها يفرض عليهم اعتقادا مقدسا بأنهم يمثلون وجهة النظر الصحيحة للإسلام وباقي المذاهب باطلة وهو ما يستلزم تجاهلها عند المعتدلين والتكفير عند المتشددين وهو حكم خطير يعطي الحق بقتل ومصادرة الأموال وسبي النساء للمختلفين معهم في الرأي بل يراه المتشددون واجب مقدس يوجب الجنة لمن يموت في سبيل تحقيقه!!, وانطلاقا من هذه الحقيقة فان أي تنظيم سياسي يأخذ من الدين شرعيته يساهم بهدم هذا الدين بنفس القدر الذي يدعي التمسك به.

تشبه الطاقة الروحية للدين إلى حد كبير الطاقة الذرية التي تحمل قوة كبيرة جدا يمكن الإفادة منها لو تم استخدامها بشكل عقلاني وسلمي تساهم في رفاهية الانسان ليعيش حالة سلام نفسي وسمو أخلاقي يتيح له الإبداع ومحاولة صنع حياة أفضل بمشاركة كل البشر بغض النضر عن ديانتهم ,أما إذا استخدمها الجهلة بالشكل الخاطئ فإنها ستنتج اكبر أسلحة الدمار الشامل وهي الحروب الطائفية التي لا يقتصر ضررها على جيل محدد بل يتعداه إلى أجيال قادمة إلى أن نصل إلى مرحلة لا يوجد جيل اخر تحصده نار الفتنة, لعن الله من ايقضها.

والخلاصة إن رجل الدين لا يمكن أن يكون سياسيا بمعنى البحث عن أو ممارسة السلطة والسياسي لا يمكن أن يكون رجل دين يلتزم بالسمو الأخلاقي والزهد والحث على الخير والمحبة لكل الناس وتسخير معرفته الدينية لتقريب الإنسان من خالقه, فالدين رسالة آلهية ثابتة الأهداف تتطلب أناسا يرتبطون بالسماء أكثر من ارتباطهم بالارض اما السياسة فهي ممارسة لعمل دنيوي يتطلب الكثير من الدهاء والخبث والنفاق وعدم النزاهة وتغيير المواقف حسب المصالح فهي فن الممكن في ضل أهداف متغيرة, إن محاولة الجمع بين الثابت والمتغير عبر التاريخ الإسلامي جعلنا نخسر الدين ونفشل في السياسة.