16 سبتمبر، 2024 10:03 م
Search
Close this search box.

نحو تأسيس علم اجتماع عسكري عربي

نحو تأسيس علم اجتماع عسكري عربي

سأتحدث في مقالي هذا، في موضوع في غاية الاهمية، تحتاج ثقافتنا العربية الى المزيد من الاهتماما به، كونه مجال معرفي غير تقليدي، وغير قائم عندنا للاسف لحد الان بشكله العلمي الرصين، لذلك دفعني هذا الى الدعوة لتأسيس هذا الجانب المعرفي الخطير الذي يهتم بدراسة المؤسسة العسكرية التي لها اهمية كبيرة في تكوين أية دولة او نظام سياسي… واذا كان لابد من درس المجتمع عموماً لادراك طبيعة المؤسسة العسكرية فلابد ايضاً من القاء نظرة على المؤسسة العسكرية لادراك طبيعة المجتمع.
ان دراسة المؤسسة العسكرية جانب مهم جداً في المجتمعات الحديثة مهما كان نوع الانظمة السياسية القائمة في هذه المجتمعات. يكفي ان ننظر الى حولنا قليلاً لنرى ان العديد من البلدان تحكمها انظمة عسكرية، ومن وظيفة علم الاجتماع العسكري دراسة هذا الشكل من انظمة الحكم التي تشكل على الاقل حوالي ربع مجمل الانظمة الحاكمة في العالم.
هناك علاقة طبعاً بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي ولكنها ليست العلاقة الوحيدة لها مع المؤسسات الاجتماعية المختلفة، لكن هذا لا يحول دون ممارسة قيادات عسكرية لنفوذ اداري وسياسي وبقاء هذه القيادات في موقع البديل المحتمل للسلطة السياسية في حال تعثر هذه الاخيرة، حتى ان بعض العسكريين يصرون في هذه الحالة على البقاء في مواقعهم ويرفضون تولي السلطة مباشرة.
من هذه الناحية يبدو الجيش نوعاً من السلطة الخامسة، ولا شك في ان هذا الدور الذي يقوم به هو خاص جداً  ويختلف بين هذا البلد وذاك، وربما كان بعض كبار العسكريين في بعض الدول يرون في انفسهم نوعاً من ضمير الامة او الوطن. انهم لا يحكمون ولكنهم يعتبرون ان مهمتهم الحيلولة دون انزلاق البلاد الى ما يعتبرونه مهاوي خطيرة.
ولكن كيف يتم عادة تدخل الجيش لإعادة الامور الى نصابها؟
هذا التدخل يفرض طبعاً التمرد ولو شكلياً على بعض القوانين والمبادئ، مما يؤدي الى وضع معقد من الناحية القانونية. ان هذا التدخل يبرره العسكريون عادة بالظروف الاستثنائية الطارئة، ولا شك في ان حقوق الانسان قد تتعرض في هذه الحالة للانتهاك.
ان الاصرار على الانضباط التام، قد يتناقض مع الديمقراطية، والمشكلة المطروحة دائماً هي امكانية التوفيق بين القيم العسكرية والقيم الديمقراطية، واذا بالغنا في الديمقراطية داخل الجيش، نعرضه لفقدان فعاليته العسكرية، واذا لم يكن هناك حاجة الى الفعالية، فلا بأس.
ولكن، ماذا يحدث لو طرأت فعلاً الحاجة اليها؟
ان مهمة الدفاع عن الوطن لا تجد حينذاك من يقوم بها . من جهة اخرى، لا يمكن ان ينطلق الجيش في اتجاهه الطبيعي دون اي حاجز او رقابة، لانه يعرض للخطر في هذه الحالة، القيم الديمقراطية، حيث هناك صراع دائم خطير بين فاعلية المؤسسة العسكرية والديمقراطية.
ان ادراك مجمل الوضع في بعض البلدان، وحتى في البلدان التي تتولى الادارة فيها مؤسسات مدنية، ينبغي معرفة المؤسسة العسكرية والفاعلين فيها، اي العسكريين انفسهم. ان هذه النقطة اساسية جداً.
على سبيل المثال، هناك فكرة شائعة تقول، بان العسكريين ميالون نوعاً ما الى الحرب، وهذا قد لا يكون في الواقع صحيحاً. واذا سلم المعنيون بامور الدولة بهذه الفكرة، فقد ينزلقون في اخطاء بمسائل تتعلق بزيادة التسليح وفي عسكرة المجتمع باكمله. وبذلك قد يصبح للعسكريين سواء على المستوى التكنولوجي والصناعي او العسكري المحض، اهمية متنامية وهذا ما يحدث احياناً.
فخلال الحرب الفيتنامية، صاغ العديد من الطبقة السياسية الاميريكية الحاكمة ما يمكن تسميته مفهوم المركب العسكري- الصناعي. وهذا يعني ان دور العسكريين في المجتمع (يوم ذاك) كان اولوياً، وقد كانوا هم من يفرض على المجتمع الامريكي القوانين.
هناك دون شك دول عديدة تمارس حكومتها مراقبة شديدة على نشاطات القوات المسلحة فيها، وقد شهدت هذه الدول في ماض غير بعيد مرحلة كانت فيها المؤسسة العسكرية ذات وزن كبير في شؤون النظام السياسي… وقد واجهت مواقف عسكرية حاسمة كادت تؤدي بانهيارها ككيانات حكومية. وحتى الدول الصناعية، تشكل القوات العسكرية فيها قوة ضاغطة من الناحية السياسية بالمعنى العلمي التقني للتعبير.
وبسبب تطور الحياة المدنية بجوانبها.. تطورت مؤسسات وظهرت منظمات اجتماعية، ومنها مؤسسة الجيش التي دفعت الى تأسيس علم يعني بدراسة كل جوانب هذه المؤسسة وعلاقاتها. وعلى هذا الاساس كان علم الاجتماع العسكري الذي يدرس الجيش كمؤسسة، كمجموعة منظمة ذات حركة معينة، لها قيم اخلاقية ومهنية معينة وشكل ممارسة للمهنة … وهذا الشكل بالذات يتناوله علم الاجتماع العسكري بالدراسة، الذي يتناول كذلك موضوعاً آخر هو العلاقة بين العسكريين والمؤسسة العسكرية والمجتمع بوجه عام.
من هنا، وتأسيساً على ما تقدم، تجيء دعوتي الى كل من الاجتماعيين والعسكريين في الوطن العربي، الى تأسيس لادبيات علم الاجتماع العسكري التي توضح لهم الجذور والانعكاسات الاجتماعية للظواهر العسكرية وتفسر لهم المؤسسات العسكرية تفسيراً اجتماعياً علمياً عقلانياً، اضافة الى اهميتها في ربط العقيدة العسكرية بالعقيدة السياسية والاجتماعية وتحلل البنية الاجتماعية للسلطة العسكرية، وتدرس العوامل التي تكمن خلف فاعلية الجيش واقتداره في المعارك المصيرية، اضافة الى اهتمامها بظاهرة الحرب وقيمها الاجتماعية وتفسيراتها الاكاديمية واسبابها الموضوعية والذاتية ونتائجها على الفرد والجماعة والمجتمع.
ان اكثر دراسات وابحاث علم الاجتماع العسكري في الوقت الحاضر تستأثر باهتمام الاجتماعيين والعسكريين في الكثير من البلدان المتقدمة وذلك بعد تداخل وتفاعل الظواهر الاجتماعية مع الظواهر العسكرية وصعوبة الفصل بينها. وبعد نمو وتوسع وتعقد المؤسسات العسكرية بحيث اصبحت كيانات مؤسسية وظيفية كبقية الكيانات والهياكل البنيوية التي يتكون منها المجتمع الكبير. فعلم الاجتماع العسكري هو من العلوم الفتية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. وظهوره كان يعتمد على رغبة علماء الاجتماع العسكري والمخططين الاجتماعيين والاقتصاديين في معرفة الفعل ورد الفعل بين المؤسسات العسكرية والمؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والدينية التي يتكون منها التركيب الاجتماعي. فكما هو معروف ان اي تغيير يطرأ على المؤسسات العسكرية كتغيير حجمها او ايديولوجيتها او سياساتها او احكامها ونظمها او معداتها التكنولوجية وفنونها القتالية… لا بد ان يؤثر في بقية تلك المؤسسات. كما ان اي تغيير في مؤسسات المجتمع لا بد ان يترك اثاره وانعكاساته الشاخصة على تركيب وظائف المؤسسات العسكرية.
ان حقل علم الاجتماع العسكري الذي ندعو له، يدور حول دراسة العوامل والمتغيرات الاجتماعية التي تكمن خلف الظواهر والاحداث العسكرية وتشريح المؤسسات تشريحاً سسيولوجياً، والخلفية الاجتماعية والطبقية لابناء القوات المسلحة. والاساس الاجتماعي للعقيدة العسكرية، والعلاقة بين القيادة السياسية والقوات المسلحة من جهة وبين الجماهير والقوات المسلحة من جهة اخرى. اضافة الى اهتمامات علم الاجتماع العسكري بالتنظيمات الرسمية وغير الرسمية في القوات المسلحة، ودراسة التحليل السسيولوجي لنسق السلطة العسكرية، ودراسة المشكلات الاجتماعية والانسانية التي تواجه ابناء القوات المسلحة نتيجة لطبيعة المهام القتالية التي يتحملونها خصوصاً خلال اوقات الحرب…
تهدف الدراسات السسيولوجية هذه الى معرفة ماهية القوى المؤثرة المسببة في تماسك ووحدة القوات المسلحة وتشكيلاتها القتالية او المسببة في ضعفها وتفككها وتناقضها ومعرفة العوامل والشروط المؤدية الى فاعلية واقتدار القوات المسلحة في حسم المعارك واحراز الانتصارات على الاعداء او المؤدية الى ضعف وعجز القوات المسلحة في تحقيق ابسط اهدافها التكتيكية والسوقية.  وتهتم كذلك بالجماعات والنظم غير الرسمية في القوات المسلحة واثرها في وحدة الجماعات القتالية الاولية وفي تحول النسق الرسمي للسلطة العسكرية.
وتركز السسيولوجيا العسكرية على ظاهرة الحرب من حيث تفسيراتها واسبابها الموضوعية والذاتية ونتائجها على الفرد والجماعة والمجتمع، وتعالج ما هية قيم الحرب الاجتماعية في التعبئة العسكرية والاندفاع نحو مقاتلة الاعداء وتحقيق الانتصارات عليهم في كافة الاصعدة العسكرية منها والسياسية والاقتصادية والنفسية.
وتعالج السسيولوجية العسكرية الخدمات الاجتماعية التي يحتاجها المجتمع في فترة ما بعد الحرب، كخدمات اعادة تأهيل المقاتلين العائدين من جبهات القتال الى الحياة المدنية وخدمات رعاية معوقي واسرى الحرب، وخدمات رعاية اسر الشهداء والمفقودين، اضافة الى الخدمات السكنية والصحية والتعليمية والاجتماعية والترويحية التي يحتاجها المواطنون بعد انتهاء الحرب.
وعلى الرغم من اهمية وخطورة الموضوعات العلمية والتطبيقية التي يدرسها علم الاجتماع العسكري الذي ندعو له والتي بدأت الدول المتقدمة الاهتمام بها والتركيز على محاورها، فان الاقطار العربية لم تهتم لحد الآن بهذا الموضوع الفتي ولم تدرس مواضيعه المتخصصة ولم تستفد من نتائج دراساته العلمية في تطوير جيوشها ومضاعفة قدراتها التنظيمية والقتالية وتعميق درجة وحدة وتفاعل الجيوش مع قيادتها السياسية وجماهيرها الشعبية.
ويرجع عدم اهتمام الاقطار العربية بالسسيولوجيا العسكرية الى عدة عوامل:
1- قلة الخبراء والمتخصصين والباحثين في علم الاجتماع العسكري نتيجة لصعوبة الموضوع وتعقده العلمي، اضافة الى عدم رغبة المؤسسات العسكرية بالاستفادة من اختصاص علم الاجتماع نتيجة عدم معرفة هذه المؤسسات الدور الذي يؤديه علم الاجتماع في تطور عملها وزيادة كفائتها.
2- حساسية المواضيع التي يدرسها علم الاجتماع العسكري لا تساعد المتخصص على بحثها وتحليلها بصورة حيادية وايجابية ولا تمكنه من جمع المادة الاساسية التي تفسر الظواهر والحقائق التي يهتم بها العلم.
3- رفض المؤسسات العسكرية تقديم اية معلومات عن حجمها ونظمها واعرافها وتسليحها وفنون تدريبها وعقيدتها القتالية ومشكلات منتسبيها وعلاقتها بالدولة، مع عدم سماح هذه المؤسسات للباحثين والمختصين الاجتماعيين بالدخول اليها بغية دراستها وفرز مشكلاتها وتحديد صيغ علاقتها بالمؤسسات الاخرى، وذلك بسبب سرية المعلومات التي تمتلكها هذه المؤسسة ورغبتها في الحفاظ عليها.
4- تشكيك القادة والمسؤولين العسكريين بدور واهمية علم الاجتماع في دراسة القوات المسلحة نظراً لعدم معرفتهم ما يستطيع هذا العلم المهم ان يؤدي في تحليل واستيعاب طبيعة ومشكلات الجماعة العسكرية.
5- عدم بلورة وفاعلية الطرق المنهجية التي يستعملها علم الاجتماع العسكري في جمع مادته وحقائقه مع عدم استطاعة معظم هذه الطرق كشف حقيقة الظواهر الاجتماعية والعسكرية التي يتم بها الموضوع وتعرية العوائل والمتغيرات التي تؤثر فيها وتعطيها خصائصها الموضوعية الثانية.
عبر كل ما ذكر آنفاً.. قد ندرك اهمية قيام علم اجتماع عسكري في الوطن العربي، وعلى حد علمي واستناداً الى المصنفات الببلوغرافية التي راجعتها ليس هناك مساهمة عربية ملحوظة على مستوى علم الاجتماع العسكري في وطننا العربي. واعتقد انه من المفيد جداً ان تجري دراسات من هذا النوع.
انني ادرك ان هناك صعوبات، ولكن الصعوبات يلقاها الباحثون ايضاً في دراسات علم الاجتماع العسكري في مختلف البلدان، وربما يجوز التقدير ان هذا النوع من الدراسات قد يصبح ممكناً في الاقطار العربية في فترة غير بعيدة.
وآمل ان ارى او اقراء لباحثين عرب من متخصصين علم الاجتماع ممن يقدمون على دراسة المؤسسات العسكرية العربية من الناحية السسيولوجية.
[email protected]

أحدث المقالات