بقدر تعلّق الأمر بأختيار بغداد كعاصمة للثقافة العربية لهذا العام , فمنَ الزاويةِ العاطفية فما من مواطن إلاّ وتغمره البهجة لهذا الأختيار بما فيهم الخونة والعملاء واللّصوص , فهذه مسألةٌ فطريّه عند الجميع وهي مسألةٌ محسومة بلا دياليكتيك و لا جدليّات سواءً كانت بغداد عاصمةً للثقافة او الرياضة او تكنولوجيا الفضاء … ولكن هل نحن مؤهّلون لذلك ؟؟ لنقرأ اوّلاً ماذا قال الملك فيصل الأول في سنة 1921نصّاً وبالحرف الواحد : ( اقول وقلبي ملآن اسى , انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعبٌ عراقي بعد , بل توجد تكتلات بشرية خيالية , خالية من ايّ فكرة وطنية , متشبّعه بتقاليد وأباطيل دينية , لا تجمع بينهم جامعه , سمّاعون للسوء ميّالون للفوضى , مستعدون دائما للأنتفاض على ايّ حكومة كانت , فنحن نريد والحالة هذه ان نشكّل شعباً نهذّبه وندرّبه ونعلّمه , ومن يعلم صعوبة تشكيل شعب في مثل هذه الظروف يجب ان يعلم ايضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل , هذا هو الشعب الذي اخذتُ مهمة تكوينه على عاتقي ) .. انتهى هنا كلام الملك فيصل الأول , ووفقاً لهذا التوصيف وما تضمّنه من ملاحظاتٍ وانطباعاتٍ تشخيصية عند محاولة بناء الدولة العراقية الأولى في العصر الحديث , فأنّ ذلك يتيح القول او الأدّعاء بأنّ تلكنّ الملاحظات في عام واحدٍ وعشرين من القرن الماضي قد كانت البدايات الأولى لبناء الثقافة العراقيه في العصر الحديث ” ولا يعني ذلك عدم وجود ثقافة وطنية قبل ذلك التأريخ الذي صار قديما ” ولكن ينبغي علينا ان نميّز بين مفردة ” ثقافة ” وبين كلمة ” مثقفين ” ولا ريب انّ الفرقَ بينهما شاسعٌ وطويل , فالثقافة تعني فيما تعني ” سلوك اجتماعي تندرج فيه كلّ قيم الألتزام والإصلاح والتطوير الفكري والأخلاقي – على الأقل – ” , ومع كلّ ذلك فخلالَ سبعٍ وثلاثينَ سنةٍ من الحكم الملكي فقد شهد العراق استقرارا سياسيا واجتماعيا وتنمويا عكستهُ ثقافةٌ اجتماعية ووطنية مندفعه وبسرعةٍ قياسيه تتناغم وتتواءم مع روح العصر
الحديث وبرزَ مثقفون عراقيون على الصعيد العربي حتى اُطيحَ بالنظام الملكي عسكريا بثورة تموز عام ثمانية وخمسين ” ولا يزال البعض يسميها انقلاباً عسكرياً
وليس بثورة ” وتحوّلَ العراق إثرَ ذلك الى النظام الجمهوري , ومع هذه الأنعطافة الحادّة في تركيبة الدولة العراقية فقد انتقلت الثقافة العراقيه – بشكلٍ اوبآخر – الى مرحلة اخرى هي ” ثقافة العنف ” وافرزت فيما افرزت الى نزاعاتٍ مسلحة بين قوى وطنية وقوميه + اعدامات + اغتيالات + صراعٌ على السلطة , وقد جسّدت ذلك محاولات وانقلابات عسكرية اعقبت حكومة الجمهورية الأولى , ولكنّ هنالك ملاحظتين متناقضتين لهما علاقةٍ بالتحوّلات التي طرأت على الثقافة العراقية في تلك الفترة , فقد شهِدَ البلد ظهور اوّل ميليشيا داعمة لثورة تموز من قبل اعضاء الحزب الشيوعي والتي افترشت تقاطعات الطرق والحدائق والساحات العامة ونصبت لها نقاط تفتيش ! ثمّ مارست اعمال القتل الوحشي ضد التيار القومي في مدينة الموصل , وقد كانَ ملفتاً للنظر انّ العديد من افراد هذه الميليشيا هم من طالبات وطلاّب الجامعات .! وعلى النقيض من ذلك فقد كانت اغلبية القاعدة الشعبية المؤيدة للرئيس عبد الكريم قاسم من الجهلة والبسطاء والعاطلين عن العمل وتعززهم طبقة من العمال والفلاحين التي يُصلح عليها بالبروليتاريا ” اذا صحّ التوصيف ” وكان معظم هؤلاء يشكّلون تربةً خصبة للتأثيرات الفكرية وشعارات الحزب الشيوعي العراقي ” في الوقت الذي كان هذا الحزب مرفوضا في المنطقة عل الصعيدين الاسلامي والعربي – وكان للولايات المتحدة دورُ في ذلك ” , ومن دونِ استرسالٍ وإطالة لما للحروب التي مرّت بالعراق من تأثيراتٍ على الحركة الثقافية للمجتمع , لكنه ينبغي القول انّ سنوات الحصار الطويلة قد نهشت بمخالبها وانيابها اوصال هذه الثقافة بعد ان نهشت المجتمع بأكمله وديست قِيَم واُزيحت مبادئ وتلاشت الأفكار , ومع ذلك ظلّ مثقفون عراقيون يقدّمون نتاجاتهم الفكرية . واجتاحنا الغزو والاحتلال , وما كانت تسطّره اقلام وتنقشه افكار فقد هيمنت عليها وعلى كلّ شيء : – مفخخاتٌ وعبواتٌ وكواتمُ صوتٍ وسكاكين – وتطوّعت جموعٌ غفيرة وانضمّت الى ميليشيات القتل , وبماذا يا ترى سيتثقّف الجيل الجديد وسْطَ اجواء الرعبِ والخوف التي تعمّ المجتمع !؟ إنّ البلد صار يعجُّ ويضجُّ بمجاميعٍ ارهابية ” ومفردةُ الأرهابية بات الجميع يطلقها على الجميع ” والكل يحملون السلاح الموجّه الى الداخلِ وليس الى الخارج , ومن المفارقات انّ الميليشيات قد اضحى لها مساحةٌ اوسع للحركة بعد انسحاب قوات الأحتلال بالصورةِ الرسمية ! , ما هذا الذي يحدث في البلد ؟ إنّ عصابات السطو والخطف تزدادُ اعدادها في العاصمة والمحافظات , ولقد امتزجت
الجريمة السياسية بالجريمة الجنائية وكلاهما يستهدفان المواطن , وعلى ماذا يفتحُ عينيه جيلُ ما بعد الأحتلال ؟ , حتى الغذاءُ اضحى يباعُ مغشوشا !! ,
والى ذلك وبالعودةِ الى مداخلاتِ الثقافة والمجتمع , فقبل عشرِ سنوات اي منذ الاحتلال الامريكي انبثقت فجأةً العشرات من الصحف وناهز عددها قرابة مئتي صحيفة ” ومعظم هذه الصحف لا تصدر اكثر من خمسمائة نسخة يوميا !! ” وقد كان ذلك وما برح تحت شعار ” حرية الرأي ” غير انّ وقائع الأحداث انّ هذه الصحف التي معظمها مرتبطة بأحزاب وجهاتٍ غير معلومة قد أدّت وقادت الى هدفٍ واحدٍ لا غير : – هو تشتيت الرأي العام العراقي – كي يبقى الشعب العراقي بدون رأيٍ عام , وقبل سنواتٍ اُثيرت فضيحةٌ عالمية انّ الجيش الامريكي كان يموّل معظم هذه الصحف بأسمائها وعناوينها وبأسماءِ رؤساءِ تحريرها ايضا , و هذا ليس سوى جانبا من عملية الأغتصاب المبرمج للثقافة , فهل اضحى تجريد الشعب العراقي من ثقافته قد صار هدفا ستراتيجيا دولياً !! أم إننا لعلّنا غير مؤهلين للثقافةِ بعد ؟ آمل ان لا يكون ذلك