23 ديسمبر، 2024 5:25 ص

 نحن وهؤلاء الغرباء

 نحن وهؤلاء الغرباء

بكت عشبة الحديقة لأنها شعرت هذه الأيام بأن الأحذية التي تدوسها أثقل بكثير من الأحذية التي كانت تدوسها قبل زمان، فأحست بأن من يقطف الورد في الحديقة هذه الأيام هم الغرباء.
أولئك الغرباء كم توغلوا في حياتنا، وكم كانت تنبؤات الكتب والجدات تحذرنا منهم، وتكشف عن سنين عصيبة ستأتي…
سنوات اللوعة والفيضانات والكركة وجيش كورش والاسكندر والخرفان الملونة. يأتون إلينا بأواني العسل وفي النهاية يقلبونها على رؤوسنا دبساً أسودَ، نرى فيه هلعنا وخوفنا وخضوعنا لسلطة القادم. حتى ثوراتنا التحررية تنتهي بنهايات مأساوية، وكأننا أول العشاق لكلمات روبسبير الشهيرة: الثورة تأكل رجالها.
هناك بيت شعري جميل لآرثر رامبو يقول: ذات مساء أجلست الجمال على ركبتي فوجدته مراً.
كذاك نحن، غاب السكر عن فلسفتنا وصرنا نجعل من الملح قانوناً لاكتشاف الأصالة والانتماء الحقيقي إلى الشرف كما في قول أحدهم: الملح والزاد لا غزر ولا فاد.. تركني الحبيب وهاجر إلى بغداد.
الآن بغداد التي تهاجر. بل لنقل بلاد الرافدين كلها، بسبب التأريخ الذي ظل يحمل غربته وحزنه على هذه البلاد بمستويات لم تقلّ عن خط العنف.
بلاد لو تقرأ تاريخها ترى التزاوج الغريب بين اللحظة الشعرية ولحظة السيف، بين صوت القيثارة، وسباب الشجار، بين طوابير المبدعون وطوابير الشعارون. حتى قيل إن في آخر هبة لفوضى الشعارين ببغداد في عصرها العباسي الثاني أحرقت ألف مكتبة، وحين جاء المغول بحنانهم القوقازي أجهزوا على المكتبات الباقية. فصارت هذه البلاد تعاني من الأمَرَينْ.
أهلها وغرباؤها….
إذن. هو قدر أزلي أن يصبح حكامنا وأصحاب الأمر في تاريخنا العريق من الغرباء أكثر من الوطنيين. وبحساب بسيط. أقول لكم إن الولاة العثمانيون الذين حكموا بغداد والبصرة والموصل منذ رمش الحنان والعطف الذي حمله إلينا السلطان سليمان القانوني، وحتى الخطاب الجميل للجنرال مود الذي جاء إلينا ببركات الله وأناشيد التحرير ونقل كنوز مقبرة أور المقدسة إلى متحف جامعة بنسلفانيا والمتحف البريطاني هم ثلاثة أضعاف الحكام العرب ـــ العراقيين الذين حكموا البلاد منذ العهد الراشدي وحتى السقوط الميمون لبغداد التي ما حفلت في سعادتها سوى بالذين ينشدون إلى حروب الجبهات ومسيرات الجيش تحت أقواس النصر ونسيت أن هناك في مكتبة الإذاعة مطربة رائعة اسمها زهور حسين ووحيدة خليل، وحضيري أبو عزيز. وجلوب العماري، وراحت تغط في غياهب البيانات وقصعة الجيش لينتهي بها الأمر إلى أوامر القسم الثالث التي تصدرها المليشيات والفرق الأمريكية المحمولة، وعرفاء جيش المجاهدين الأفغان، وغيرهم من غرباء الدم والضمير واللباس.!
هذا القدر الملون ظل يحمل غربته الروحية والاجتماعية والعسكرتارية على البلاد، ونحن للأسف وبالاعتراف والاعتذار المتأخر بعض صُناعه، فصارت ضحية تقلبات المناخ، ضحية الحزن. وضحية اليتم، وهذا العري الذي تعرض له قبل أيام الأطفال ذوو العاهات الناقصة في دار الحنان…والتي يأتي الفضل فيه للغرباء الأمريكان ليكشفوا كيف، صبية العراق يأكلون غائطهم، فيما صبيان الأمم الأخرى بفضل نفطنا، وسوء طالعنا يأكلون الموز والكنتاكي.
في تصوري أن هذا الاغتراب سيظل يلازم التأريخ العراقي لعقود.
ليس لأننا ضعفاء، وبسطاء، (شَيّمَهْ وخُذْ عَباءتَهْ) بل لأنني أراها قدرية أزلية ارتبطت حتى بهواجس الأساطير الأولى. ونكاد في هذا القدر نكون اغرب شعوب العالم، حيث منحنا الله هبة الوعي الأول والموسيقى الأولى والأنبياء الأوائل والمبدعين الرواد، وهنا نشأت رؤى الغنوص والمتصوفة وفاق الصبر حده كما عند أيوب.
وبالرغم من هذا فإن عهودنا التي تخضع لإرادة الغرباء وذوي السحن الشقر طويلة ومريرة.
نثور ونطردهم. ويعودون..
يأتي إلينا ألف حسين فنهتف وراءه بحماس الفائز بكأس الدوري. ولحظة ما. ربما هي لاشعورية. نتركه وحيداً في ساحة الميدان ونذهب نلهث وراء الخرافة، والفطرة وتصديق أن الدمعة تسقط من الشمعة وليست من العين.
وبين الشمعة والجفن : أرى الإغماضة الغريبة لوطني وأحزن عليه كثيراً…!
أه يا عراق …تحتاج لمليون سلمان المنكوب ليغنيك..!
والى مليون باسم الكربلائي ليرثيك..!