18 ديسمبر، 2024 8:10 م

نحن ونظرية المؤامرة

نحن ونظرية المؤامرة

نصرف الكثير من الوقت والجهد ، ومن مدة ليست بالقصيرة ، لدراسة وتحليل السياسات والظواهر الأجنبية ، او ما تسمى في احيان كثيرة نظرية المؤامرة ، لاسيما الغربية منها ، ووفق تلك الدراسات والتحاليل التي نقوم بها نحن بأنفسنا ، ومن غير ان نعرف طبعا ان كانت صائبة او خاطئة ، ونبدأ ونحن ايضا ، بوضع جداول لأولويات تلك السياسات ، ونختم نتائجها. وبالأصح ، نحن نرسم تلك النظريات وليس هم ، ونحن نحدد ما نجحوا في تحقيقه وكذلك ما فشلوا في تحقيقه ، وفي النهاية نترك البعض مما بقي في مخيلتنا بشأن برامجهم تحت قيد الشغل او التنفيذ. وبدون شك العناوين جاهزة التي نتستر خلفها ، المعاهد والمراكز الستراتيجية العربية ، التي تمليء العالم من اقصاه الى اقصاه.

ان الدراسة والتحليل والمتابعة أمور كلها جيدة ولا غبار عليها ، وهذا ما اعتاد عليه العالم من بدأ الخليقة ولحد يومنا هذا. اذ لا بد ان تعرف كل حضارة ما يدور في الحضارة الثانية من مصادر قوة وضعف ومن مصادر علم وتقدم. وعلى ضوء ذلك كانت تنشأ الغزوات والحروب. ولا اعتقد عالمنا اليوم يختلف كثيرا عن عالم يوم أمس. حتى ان بعض الدول في القرون الخوالي ، ومنها الدول العربية ، قسمت العالم الى قسمين ، القسم الاول التي هي فيه فأسمته دار السلام ، والقسم الثاني من العالم الذي تراقبه وتتطلع اليه ومرات تخشاه ، فأسمته بدار الحرب. هذا ثابت في التاريخ كثبات شروق الشمس صباح كل يوم.

ولكن ان نبقى نحن ان نشغل انفسنا بذلك وحده ، الدراسة والتحليل لسياسات وافكار وبرامج غيرنا ، وكأن ذلك هو هدفنا الأخير والنهائي ، فذلك هو الخسران الكبير. نعم ينبغي ان نعرف ما يتجول في اذهان وتوجهات ومعتقدات الآخرين ، سواء لما يتعلق بِنَا او لما يتعلق بغيرنا ، بيد اننا لا بد ان نصرف جهد ووقت أطول من ذلك لنعرف اكثر وأعمق الكثير مما ينقصنا معرفته عن انفسنا نحن الشعوب العربية وعن ماذا يدور في اذهان مجتمعاتنا الان حول اهدافها ومعتقداتها وكيفية تحقيقها.

لا اعتقد ان اثنين يختلفان الان بخصوص قصر الرؤيا العربية بكل ابعادها لما يجري وجرى في الدولة الواحدة من مآسي ونكبات ، وما يجري وجرى لعلاقات الدول العربية ببعضها البعض وتنافرها في ما بينها ولدرجة تتعدى التباعد ، وما يجري وجرى لعلاقات الدول العربية منفردة ومجتمعة بدول المعمورة الاخرى.

ولعل عن قصر الرؤيا العربية ، من المفيد ان نذكر ان الاتحاد السوفيتي نصح القيادة العراقية بعد تأميم النفط ان ينصرف العراق وكذلك تنصرف بقية الدول العربية عن محاربة اسرائيل في حينه والتركيز بدلا عن ذلك على بناء الانسان العراقي والعربي وبناء قدرات علمية واقتصادية. وقالوا للقيادة العراقية في حينه ان اسرائل نقطة صغيرة محاطة ببحر يرفضها بأجمعه ولا مصير اخر لها غير ان يمتصها هذا البحر العملاق من حولها. وقالوا ايضا ان العرب يفقدون شبابهم في الحروب الخاسرة وينفقوا اموالهم على تعويض السلاح الذي يفقدوه عوضا عن استثمار تلك الأموال في تطوير الانسان والبنية التحتية ، بينما اسرائيل لا تفقد احدا من شبابها ويعوّض سلاحها بسلاح اكثر تطورا وبالمجان. وياريت وقفنا عند هذا الحد ، ولكن وللاسف لا حياة لمن تنادي.

هم الأجانب ، ومن غير استثناء ، وبشكل بين وثابت ، يلمون اليوم كما كانوا في الامس، يلمون بِنَا وبتاريخنا وواقع حالنا ، بنِسَب قد لا تقل عن تلك النسب التي ندركها ، ان لم يزدادوا في ذلك عنا. انهم يحصون كل صغيرة وكبيرة عبر التاريخ لكل ما يعنينا ويشغلنا، وأنهم ووفق ذلك يبنون افكارهم وتوجهاتهم الانانية نحونا من هذه القاعدة. بينما نحن نجهل كل شيء عنهم. نجهل حضاراتهم ونجهل تاريخهم ونجهل واقع حالهم ونجهل تطلعاتهم . والاسوء ان هذا الجهل الذي يخيم علينا اتجاههم ينبعث بالأساس من جهلنا لحضارتنا وجهلنا بواقع حالنا.

كان يتفاخر البعض ضمن فرق العملية السياسية الراهنة كونه حقق نجاحات في مسعاه لانصاف العراق وشعب العراق ضد خصمه الأجنبي او الغازي وكانوا يتباهون ان اعترفت سيئة الصيت كونداليزا رايس ان الولايات المتحدة ارتكبت آلاف الأخطاء في العراق. ولكن أيا من هؤلاء البعض ، هل تجرأ في حينه ليسألها او يسأل غيرها ، ما هي الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق؟ الشعب العراقي وما اصابه فهذا ليس مرام هؤلاء الأشخاص ولا مرام التشكيلات السياسية والاخرى غير السياسية التي ينتمون إليها، بل الهم كل الهم لهذه الأطراف مجتمعة ان يوجه كل تشكيل او كيان ، بعد ان تم توزيعها على هذا اللون او ذاك ، سهامه نحو التشكيلات الاخرى المناؤة له ، حسب اعتقاده ، حتى وان كانت شريكة له في العملية السياسية ، وان يستقوي بالمحتل لينال منها.

لم يسبق ان مرت محنة في مجتمع اخر غير المجتمع العراقي وبقيت أطراف النزاع على مواقفها المتزمتة والمتعصبة لمدة طويلة كالتي تمر علينا الان من غير ان تحلحل نفسها بنفسها وتخلق مساحة للمصالحة والحوار مع الخصوم الآخَرين. كل التشكيلات ، أيا كان نوعها ، سياسية او اجتماعية او دينية ، فيها المعتدل وفيها المتشدد ، ويمارس المعتدلون حين تتاح الفرصة ، دور التقارب والتصالح مع التشكيلات الاخرى وسرعان ما ينفرج الموقف ويتم الاتفاق بين الفرقاء المختلفة او المتصارعة ويبدأ المجتمع بالرجوع الى حالته الطبيعية تدريجيا. الا في العراق ، فكل التشكيلات دون استثناء ومهما كان لونها ، فأن صنفها واحد متعصب لا غيره ، وتعصبها بدون وجه حق او هدف نبيل. فعلى العكس من كل ما جرى ويجري في العالم ، تبني الكيانات المزعومة في العراق قشورا سميكة حول نفسها ، لتحفظ تعصبها وعزلتها عن الكيانات الاخرى. وحين تتشقق هذه الكيانات تولد الاسوء منها.

أين المراكز والمعاهد الستراتيجية التي تحدثنا ليل نهار عن المخططات الأجنبية الواسعة التي تسعى الى النيل منا ونهب ثرواتنا وتمزيق اوطاننا ، فهل لها ان تحدثنا ولو لمرة واحدة عن هذه الافات التي ابتلى بها الشعب العراقي في كل مكان من داخل مجتمعاته ، ومن أين تستقي قوتها وإلهامها؟ وهل لها ان تحدثنا أين دورنا نحن وسط هذه الافات وكذلك وسط المؤامرات والمخططات الجهنمية؟ هل للمواطن العربي لا سيما العراقي دور وسطها ام انه مغيب؟ هل هو راضي عنها ام هو رافض لها؟ ان كان هو راضي عنها فلماذا هو كذلك وكيف ارتمى في أحضانها ، سواء الداخلية منها او الخارجية ؟ وان كان هو رافض لها فما هي الحبال التي تكتفه وما السبيل الى تقطيعها؟

لا نريد من يحدثنا عن الدسائس والمؤامرات والاطماع الاستعمارية وغير الاستعمارية ، العالمية منها والإقليمية ، فهذه معروفة وشبعنا منها ، فهي موجودة منذ الازل وستبقى موجودة الى الازل. نريد من يحدثنا عن واقع حالنا الذي نحن فيه وعن دورنا في تقبل المهانة التي نحن فيها الان ودورنا في إدامتها.