الاحتكام الى الولايات المتحدة بغية تغيير سياستها تجاه القضايا العربية، يمكن ان يتخذ طريق الاحتكام الى الكونغرس، طريق الاحتكام الى الرأي العام الامريكي، او طريق الاحتكام الى السلطة التنفيذية او البيت الابيض. هذه هي القواعد الاساسية التي يتشكل منها النظام الامريكي السياسي. والعمل على تغيير سياسته الخارجية حول مشكلة وقضية ما، يعني تغيير موقف الكونغرس، الرأي العام الامريكي، والسلطة التنفيذية او على الاقل احدى هذه القواعد الاساسية.
الفكرة الاساسية التي يدور عليها مقالنا، هي القناعة الموضوعية بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه القضايا العربية والاساس منها الصراع العربي- الاسرائيلي، تتفرع منها نهائياً في طبيعة النظام السياسي الايديولوجي الامريكي الذي ينطوي في هذه الزاوية على خلل متعدد الجوانب، هو الذي يسمح لاسرائيل بان تسيطر على سياسته في المنطقة العربية. لهذا، فان تغيير صحيح لهذه السياسة او فيها، غير ممكن دون تغيير سابق لهذا النظام نفسه، واستمرار هذا النظام يعني بالتالي استمرار هذه السياسة.
هذا يعني ان الاتجاه الى احداث تغيير في هذا النوع عن طريق الاحتكام الى الرأي العام الامريكي، الى الكونغرس، او الى السلطة التنفيذية، يكون محاولة فاشلة، لان القضية ليست قضية وقائع مجهولة يمكن عند تقديمها تغيير موقفهم، قضية عدالة يمكن عرضها الاقتناع بها والعمل بما تفرضه او حتى قضية مصلحة الولايات المتحدة عليا، تحدد سياستها في المنطقة العربية.
انها على العكس، كانت ولا تزال قضية نظام مغلق لا ينفتح لعمل بوحي هذه المنطلقات تجاه القضايا العربية على العموم وقضايا الصراع العربي- الاسرائيلي على الخصوص.
هذا يعني في دوره ان معركة الصراع مع الآخر، الامريكي – الاسرائيلي، تفرض ان صحت هذه الاطروحة، مجابهة سياسية واقتصادية وحتى عسكرية شاملة حاسمة ضد الولايات المتحدة نفسها، وان جدية المعركة (المجابهة) تفرض جدية هذه المجابهة.
اننا جميعاً نعرف بان الكونغرس وليس البيت الابيض هو مركز السلطة والتسلط في الولايات المتحدة، وجميعنا يعرف ان لا مكان للسرية والكتمان في التعامل مع السياسة الامريكية، سواء كان ذلك مع الخارجية او البنتاغون او مع البيت الابيض. والكل يعرف ان سياسة الولايات المتحدة الخارجية تنبع من سياستها الداخلية، وان سياستها الداخلية هذه تنبع من المصالح الخاصة برجال السياسة والاقتصاد، وان معظم المصالح الخاصة لهؤلاء الرجال مرهونة لدى المال اليهودي او التنظيم اليهودي او المصلحة اليهودية.
واخيراً، الجميع يعرف ان طبيعة الانسان الامريكي المسؤول لا يشجع في حياته العامة الا النكرات، ولا يثق الا بالاشرار، ولا يحترم الا رعاة البقر ومهربي المخدرات… وان هذا الانسان المسؤول بطبيعته ايضا لا يعرف للصداقة معنى او للولاء حقوقاً او للتحالف الشريف حرمة وواجبات.
مجموعة مسلمات لا تختلف عن مجموعة الاجوبة للاسئلة التي سنطرحها في مقالنا التي تستفهم: الى من نحتكم او يمكن الاحتكام اليه في الولايات المتحدة ..الى الكونغرس الى الرئاسة الامريكية، الى الرأي العام الامريكي، الى وسائل اعلامه، الى المنظومة الايديولوجية الامريكية؟
اسئلة كنا نحن العرب ومازلنا ومنذ اكثر من ستين عاماً نعيد طرحها ونتوقع خيراً ونستبشر..!! بينما ضربات العدوانية الامريكية الاسرائيلية تتوالى علينا دون انقطاع، وبشراسة تتزايد مع الوقت، ولم يحدث حتى الان اي تغيير ذو قيمة في السياسة الامريكية التي لا تزال ترسم خطواتها كأمتداد للارادة الاسرائيلية.
وبما ان النظام الامريكي نظاماً تمثيلياً، فان الذين يشاركون فيه مباشرة- اي اعضاء الكونغرس والرئاسة والمراكز الحكومية الاخرى والذين يشاركون بطريقة غير مباشرة- اي المواطنون المسؤولون عن ترشيح وانتخاب ومراقبة اعضاء الكونغرس عن طريق الانتخاب- يقومون عن طريق نظام انتخابي معين لهذا فان ادراك هذا النظام واجراءاته يعني ادراك طبيعة النظام السياسي في الممارسة.
فالناخبون يستطيعون الاسهام بانتخاب المرشحين الى الكونغرس بثلاثة طرق اساسية: بتوفر الاصوات التي يحتاجون اليها، توفير التبرعات الضرورية للحملة الانتخابية، توفير الطاقة البشرية او المتطوعين الذين يحتاجون اليهم في كسب اصوات ناخبين آخرين.
ولان اليهود يساهمون نسبياً اكثر من غيرهم بكثير في تحقيق هذه الضرورات الانتخابية كونهم يشكلون نسبة عالية من الناخبين، وتمركزهم في بعض المناطق الانتخابية الرئيسية يجعل اصواتهم قوة انتخابية هائلة الابعاد لا يمكن لكثيرين من اعضاء الكونغرس تجاهلها.
المهم، ان اللوبي اليهودي يعمل في ضوء مصلحة اسرائيل وليس في ضوء مصلحة الولايات المتحدة التي على اداراتها ان تؤيد اسرائيل لكل عمل تقوم به أية حكومة من حكوماتها، سواء كان خطأ او صواباً والا كان عليها ان تدفع الثمن لذلك.
ان قدرة اللوبي اليهودي على ممارسة السيطرة الهائلة التي يمارسها على الكونغرس الامريكي وبالتالي على الحكومة الامريكية وسياستها الخارجية تجاه القضايا العربية، لا تعود فقط الى الخلل السياسي الذي يتمثل في النظام الانتخابي بل الى جوانب ضعف اخرى يمتد اليها هذا الخلل. فادراك اللوبي اليهودي المتنفذ من داخل النظام السياسي الذي يشارك فيه لهذه الجوانب، جعله قادراً على الافادة من وجودها واستخدامها في احكام سيطرته على الكونغرس الامريكي.
وتأسيساً على ما ذكرناه…. يدلل انه لا يمكن الاحتكام الى الكونغرس الامريكي، لان البنية التي تتشكل منها الاتجاهات والقوى التي تسوده، تحول دون ذلك، وتشكل واقعاً لا يمكن للكونغرس تجاوزه. فهي في جميع جوانبها منفتحة امام النفوذ اليهودي.
ويتوضح في الواقع هذا النفوذ بوجودها ذاته. لهذا كان من غير الممكن التأثير في هذا الكونغرس من الخارج بأسم – عدالة القانون الدولي، قيم اخلاقية، مشاعر انسانية، او حتى باسم المصلحة الامريكية العليا- لأن الحوافز التي تحرك اساساً اعضاء الكونغرس او الذين يمكنهم بلوغ عضوية الكونغرس، هي من نوع آخر.
ولكن، ان كان من غير الممكن الاحتكام الى الكونغرس او السلطة التشريعية، فهل يمكن الاحتكام الى الرئاسة او السلطة التنفيذية؟
السلطة التنفيذية ترجع الى نفس البنية السياسية التي يتشكل منها الكونغرس، ولهذا فهي تخضع لنفس الاتجاهات والقوى او الديناميك السياسي الاخلاقي وبالتالي تكون عاجزة هي الاخرى امام النفوذ اليهودي.
ان اللوبي اليهودي الامريكي يستخدم وسائل عديدة في الضغط على البيت الابيض. وفي التحكم فيه او معاقبة الرئيس ان هو حاول ممارسة سياسة مستقلة او شبه مستقلة تجاه اسرائيل. اهم هذه الوسائل كانت طبعاً الرجوع الى الكونغرس واستخدامه للحيلولة دون تجديد انتخاب الرئيس الامريكي لدوره ثانية.
المنظمات اليهودية لا تحتاج الى مجابهة الرئيس مباشرة، وهي تستطيع العمل على اضعافه او اسقاطه في الانتخابات الجديدة، بالتركيز فقط على المشاكل التي تواجه رئاسته، كل رئاسة تبدأ بعد مدة قصيرة بمجابهة مشاكل معقدة وقضايا عديدة تأبى الحل السريع، تتعرض لاخطاء كثيرة وحتى لفضائح مختلفة.
اللوبي اليهودي يستغل هذه المشاكل والقضايا والفضائح عن طريق وسائل الاعلام الضخمة التي تؤثر عليها تضخمها، تنبه الى مخاطرها، وتعتبر الرئيس مسؤولاً عنها، وتحولها الى مشاغل يومية تفوض قواعد نفوذ الرئيس وسلطته السياسية.
السؤال الآخر الذي تطرحه هو: هل يمكن تجاوز الكونغرس والسلطة التنفيذية والاتجاه رأساً الى الرأي العام الامريكي لكسبه، وعن طريق ذلك نضغط على الكونغرس والحكومة الامريكية بشكل يدفع الى تغيير سياسة الولايات المتحدة اليهودية؟
هناك في الواقع من يعترف انه لا يمكن الاتجاه الى الكونغرس، ولذلك يجب الاتجاه الى الرأي العام الامريكي وكسبه كطريق الى تغيير او تعديل سياستها اليهودية. هذا القول لا يدرك طبيعة حدود الرأي العام الامريكي، علاقته بالنظام الانتخابي السياسي الذي يعمل فيه، بالمواطن الامريكي الذي يعبر عنه، مقوماته واوضاعه الخاصة. هذا، اذا علمنا، ان المواطن الامريكي يتميز بدرجة عليا من الامراض العقلية والنفسية من ناحية ومن الأمية من ناحية اخرى، وهي تزيد كثيراً من صعوبة- ان لم نقل استحالة- الاتجاه اليه في ضوء الحجة العقلانية او المعطيات الموضوعية التي تحيط بمشكلة ما. هذه الامية تستثنى اصحابها من اي حوار عقلي وعلمي حول قضية سياسية تتطلب دراسة ما من الدراسة والمطالعة.
ان الاتجاه الى الرأي العام يستطيع ان يكون فعالاً في تغيير او احداث تحول فيه في وجهة معينة عندما يتمكن اولاً- من اعتماد اتجاهات وقوى اجتماعية او ثقافية تستجيب له. وثانياً- عندما يستطيع ان يفيد من التغيير الذي قد يتمكن من احداثه بالتأثير في النظام السياسي الذي يريد تغيير سياسته.
ان القضايا العربية لا تجد اتجاهات وقوى من هذا النوع في المجتمع الامريكي يمكن لها اعتمادها في التوجه الى الرأي العام. الهيمنة على وسائل الاعلام نفسها لا تستطيع تأمين الرأي العام الى جانبها ان كانت القوى والاتجاهات الاجتماعية لا تستجيب لها.
ان مبادئ الحق والقانون الدولي لا تقنع او تكسب الرأي العام الامريكي. فالحافز الذي يحرك المواطن الامريكي هو المصالح الخاصة. فمادام المواطن الامريكي لا يرى ان هذه المصالح مهددة بسياسة الولايات المتحدة اليهودية، مادامت علاقاته بالمؤسسات اليهودية المختلفة في الولايات المتحدة واليهود الامريكان، توحى له ان مصلحته تتأثر اولاً بهذه العلاقات، ومادام الضعف العربي السائد لا يستطيع تغيير ذاته والحاق الاذى الكبير بهذه المصالح، ومادام المواطن الامريكي لا يدرك ان هذا الاذى يعود عندما يحدث الى سياسة الولايات المتحدة اليهودية وليس الى جشع العرب ولؤمهم، فان الرأي العام الامريكي لا يمكن ان ينفتح لقضايا العرب او يتجه نحوها.
ان الاتجاه الى الرأي العام الامريكي لا يمكن ان يقود الى اية نتيجة يمكن ان تعدل سياسة الولايات المتحدة اليهودية، وان كل محاولة في هذا السبيل هي اضاعة للوقت وبعثرة لجهود وطاقات يجب ان تبذل في صعيد آخر.
اخيراً، هل يمكن الاحتكام او الرجوع الى المنظومة الايديولوجية الامريكية؟
طبيعي الاجابة ستكون سلبية كسابقاتها… وهنا انبه الى اهمية العنصر الايديولوجي ودوره في ادراك التاريخ، تحولاته، ودوراته الحضارية، الانظمة السياسية، عملها وديناميكيتها، حيث ان كل امة تعتمد فلسفة حياة او ايديولوجية معينة تحدد علاقاتها مع التاريخ والحياة، تفسر العلاقة وتحاول ان تكشف عن منطق عام يسود التحولات الاجتماعية التاريخية.
تلك الايديولوجية تتبع دورة معينة ذات اطوار محددة، وفي تحقيقها ذاته تستنزف قواها، فتنكمش عن مجاراة التاريخ في تحولاته الجديدة، ولا تلبث ان تنهار، وتزول. فمشكلة السياسة الامريكية الخارجية هي انطلاقاتها من ايديولوجية استنزاف قواها، حققت ذاتها فاصبحت جاهزة عن مجاراة التاريخ.
في الولايات المتحدة يندر وجود رئيس دولة يحتكم بهذه المبادئ لينطلق منها في ممارساته السياسية. سياسة هؤلاء- اي الرؤوساء- هي دائما سياسة آنية، عملية يومية تطبيقية لا تعرف الآفاق البعيدة والمبادئ التي تميز سياسة قادة يعتمدون موقفاً ايديولوجياً وديناميكياً او ثورياً، فالسياسة الامريكية الخارجية تخضع خضوعاً تاماً للوقائع والاحداث في آنيتها الصرفة لانها خسرت الموقف الايديولوجي الثوري الذي يمكن به ان ترتفع فوقها – اي الاحداث- فتضبطها ككل. ولذلك عجزت عن ادراك مرحلة تاريخية بفرض ديالكتيكها تجاوز الانظمة والوقائع القائمة. والتاريخ الذي يمر به العرب حالياً هو تاريخ ديناميكي وثوري بشكل او بآخر، ولذلك كان من الصعب حصول التفاهم او التجارب بين الطرفين.
ان الايديولوجية التقليدية التي تشكل قاعدة للمجتمع الامريكي هذا، استنزفت هويتها وخفقت ذاتها، كانت سياستها تتجه بشكل عفوي في اتجاه رجعي او محافظ في اوضاع تفرض المواقف الثورية او التاريخية الديناميكية. الامر اصبح ظاهرة عامة في المجتمع الغربي ككل حيث نجد اعترافاً الآن بنهاية ما يسمى بالايديولوجية الليبرالية.
ان الحقيقة الاساسية التي يتوجب على كل باحث في السياسة الخارجية لأية امة، ان ينطلق منها هي تفاعل ايديولوجية هذه الامة مع الواقع السياسي الخارجي والكيفية التي يحدث ذلك فيها. ففي موضوع كهذا يستحيل الفصل بين الصعيد الايديولوجي وبين الاعتبارات السياسية، لان الاول يؤثر في الثانية ويحددها ان لم يكن بشكل مباشر ففي شكل غير مباشر.
ان السياسة الخارجية تنطوي دائماً على مقاصد محدودة وعامة وعلى تقدير ان قريبة وبعيدة لاعمال معينة لتفاعلها مع قوى التاريخ وعلى تبرير دائم. لذلك تصعب ممارسة السياسة الخارجية دون مجموعة من القيم والمبادئ الواحدة وتستحيل متابعتها بفاعلية دون موقف ايديولوجي واحد يشارك فيه الحاكمون والجماهير.
بعد كل ما تقدم… يمكننا ان نطرح احتمالات ثلاثة ممكنة الحدوث، وهي من النوع الذي يمكن له تغيير الوضع الامريكي بشكل يفتح الطريق ليس فقط امام تغيير جذري للسياسة الامريكية اليهودية بل الى تحويل هذه السياسة في اتجاه مضاد ليس فقط اليهودية بل الوجود اليهودي واليهود انفسهم.
الاحتمال الاول- هو احتمال حدوث ثورة داخلية في الولايات المتحدة تسحق النظام الحالي وتقيم نظاماً جديداً ينقضه.
الاحتمال الثاني- هو انحطاط النظام الامريكي انحطاطاً سريعاً نسبياً وبشكل يحول الولايات المتحدة الى دولة من الدرجة الثالثة، هو احتمال تمزق الولايات المتحدة الى دول متعددة.
الاحتمال الثالث- هو معالجة الضعف العربي وتجاوزه، اي تجاوز التجزئة واقامة دولة الوحدة.
ان طريقة تغيير هذه السياسة هي اما تغيير هذا النظام او تغيير الكيفية التي نجابهه بها نحن العرب، تغيير هذا النظام يخرج عن ارادتنا ولكن تغيير كيفية المجابهة لا تخرج عن هذه الارادة، وهو يفرض تجاوز التجزئة وانظمتها الى دولة الوحدة وانظمتها.
[email protected]