تتراكم على اعتاب مؤسساتنا الحكومية وغرف الموظفين الخدميين وضع خطين تحت كلمة ((خدميين)) الالاف من المعاملات والمراجعين البائسين الذين ارهقتهم المراجعات المتكررة والدوران حول الغرف لمعرفة كيف يمكن للمعاملة ان تسير في ظل غياب ابسط مقومات العمل الخدمي والاداري والمؤسساتي في كل دوائرنا بلا استثناء فمن موظف غائب الى موظف متعب من مشاغل الحياة ويعكس تعبه على المراجعين بأسلوب خشن ومعاملة جافة وتسويف وتعطيل للمراجعين ومعاملاتهم تنقضي اغلب ايام المواطن والموظف بالتأجيل وليته ينتهي!؟
في بداية الامر تردد (احمد) ذو الخمسين عاماً في بيع قطعة الارض خاصته لقلة السعر المعروض فيها وبعد اخذ ورد وافق على البيع ولكنه اشترط على المشتري ان يتكفل بكل مصاريف المعاملة ومتابعتها لعدم تفرغه لذلك فوافق المشتري وبدأ رحلة التحويل لملكية الارض بالدوران المكوكي على كل الدوائر المعنية وغير المعنية من اجتثاث البعث والنزاهة والضريبة والبلدية والجنسية والزراعة والري وغيرها الكثير وفي كل محطة يتعرض المشتري الى الابتزاز والتأخير المتعمد والتسويف الفارغ من قبل الموظفين الذين لا يفكر احدهم في ان (يحلل خبزته ) ويرضي ضميره ويقوم بواجبه اضافة الى قوانين الدولة التي تتراكم يومياً بشكل متناقض مع الواقع الذي يميل الى التسهيل والتبسيط لتعقيدات الحياة الا ان الفساد والمحسوبية والتراكمات السابقة والحالية تدفع المشرع الى التعقيد لعل الاجراءات الاضافية تقيد من عمليات الفساد ولكن بلا جدوى، فأضطر المشتري الى استئجار معقب للمعاملة التي تحتاج من الوقت والجهد اكثر مما يستطيع ان يخصص لها فلكل منا مشاغله اليومية التي لا تنتهي!
هذه احدى الالف القصص لمواطني بلدي العراق حيث لا يكاد شخص يقر بسهولة أي معاملة حكومية لأن التوقيع الواحد يستغرق اسبوعاً كمعدل فكيف بالمعاملات التي تحتوي مئات التواقيع!!؟؟ والاسباب معروفة للجميع ولكن لا احد يعمل على معالجتها فالكل يتحجج بكونه يتبع (الضوابط والتعليمات!) والضوابط والتعليمات بريئة من اغلب ما يفعلون ولكن لا حساب ولا كتاب ولا عقاب لأي مقصر او مفسد و(من امن العقاب اساء الادب) ومن جانب اخر تتخبط الدولة في سن قوانين جديدة او ترقيع القديمة منها لتتفاعل مع مستجدات اليوم ومتوقعات الغد الا ان الحياة تسير بسرعة اكبر بكثير مما تسير به روتينية سن القوانين وتطبيقها (ان وجدت من يبقها اصلاً ولم تركن على الرف!).
شكوى المواطن
يتذمر مواطنونا من تأخر معاملاتهم ولكنهم في نفس الوقت ينسون انهم لا يلتزمون بالقوانين ويحاولون بشتى الوسائل مخالفة القانون والالتفاف عليه لأن الحياة صعبة ومعقدة بما فيه الكفاية وقوانين اليوم من التعقيد بمكان يجعل الالتزام بها حرفياً ورسمياً يستغرق اعمارنا كلها بلا نتيجة! ولمن يسأل عن المعاملات التي تسير بسرعة البرق فأقول له انها معاملات مقدسة لعرف وواسطة وصاحب وقريب ونسيب وتسير باليد من طاولة لأخرى ومن موظف الى اخر بلا حاجة لأن يراجع صاحبها اصلاً فهي تستلم منه في البيت بعزيمة عشاء وتصل الى بيته بعزيمة اخرى ايضاً والي ما عنده عرف وواسطة——— اله الله!
تبرير المسؤول
حين يتم مواجهة المسؤول بالواقع البائس والروتين القاتل و(كتابنا وكتابكم) يلتجأ الى تبريرات مثالية وسياسية بعيدة عن الواقع الا انها تتصف باللباقة والدبلوماسية النرجسية التي تجعلك تعيش للحظات في عالم اخر مليء بالأمل والتفاؤل بغد مشرق ولكن ما ان ينتهي اللقاء بالمسؤول حتى تعود الى الواقع وتصحوا من الحلم الجميل الى واقع مرير وتدرك انك لم تحقق شيئاً غير اتاحة الفرصة للمسؤول بالانطلاق في الكلام وتنويمك مغناطيسياً بكلام معسول بعيد عن الحياة التي يعيشها الناس.
حلول مقترحة
لا يخفى على احد ان الروتين الموجود اليوم يعود الى بدايات تأسيس الدولة العراقية وقد كان معمولاً به في كل دول العالم حين كان تعداد سكانها بالألف وليس بالملايين ومع زيادة السكان وتزايد تعقيدات ومتطلبات الحياة بدأ غيرنا باللجوء الى الاتمتة والحوسبة لتسريع وتيرة العمل فنحن نرى ونسمع عن دول تتم فيها عملية تغيير وثيقة رسمية برسالة بريدية ورقية او الكترونية وتصل الوثيقة الجديدة الى صندوق بريد البيت في اليوم الثاني!
طبعاً الحوسبة ليست الحل الوحيد لأزمة الروتين ولكنها الحل الافضل بنظري ونظر الكثير من المتفائلين بقابلية التغيير والتطوير وقد نجح غيرنا فيها فلم لا نتبع خطوات من سبقونا وهنا لنا الافضلية في تلافي اخطاء الغير واستيراد نتائج جاهزة برمجية واجهزة مجربة ومعروفة النتائج وكمقدمة لهذا فأن العراق اليوم يملك مقومات تحول كهذا تتضح في ثورة معلوماتية كامنة تحت التراب في كثرة عدد دارسي الحاسوب وعلومه المختلفة من معاهد وكليات علوم وهندسة واتصالات وشبكات وبرمجيات مختلفة وهؤلاء يمكن توظيفهم بطريقة ممتازة بتوزيعهم على الدوائر المختلفة لنشر الثقافة الحاسوبية بين الموظفين البقية والتحول التدريجي الى المعاملات الالكترونية التي رغم وجود بعض النماذج لها هنا وهناك في بعض دوائرنا الا انها لم تصل بعد الى مستوى الطموح رغم كثرة التخصيصات لمشروع الحكومة الالكترونية.
من الحلول المقترحة الاخرى لمشكلة الروتين الممل والطويل هو توحيد القوانين الحكومية وتقليص القيود والخطوات اللازمة لإكمال المعاملات الرسمية بما يتماشى مع طموحات الدولة المدنية الحضارية ولا ننسى ان نؤكد على ان من واجب الدولة ان تقدم للمواطن باقة ورد في يد وعصا القانون في اليد الاخرى لمكافأة المحسن ومعاقبة المسيء ولنا في بقية الدول القانونية اسوة في تغليب لغة القانون والتسهيل للمسارات القانونية واعانة المواطنين على الالتزام بالقانون وتجنيبهم اللجوء الى الغش والتزوير خدمة لعراق الغد المشرق الرغيد ان شاء الله تعالى. اذا الامر معادلة ذات طرفين تسهيل الدولة للمعاملات الرسمية وفي المقابل ثقافة شعبية لضرورة التوثيق والتدقيق ولكن المقبول منه والسريع والالكتروني وليس الورقي والبشري البائس.
امر اخير لا بد ان تراعيه الدولة وهو ان كثرة المؤسسات الرقابية والنزاهة والتفتيشية لا يجب ان تكون هي احد وسائل الفساد والروتين والتعطيل لمصالح الناس ووسيلة ضغط على الناس للتهرب من القانون فكل ما زاد عن حده ينقلب ضده والقانون لا يفرض الى الحد الذي يدفع الناس الى مخالفته والامر ذاته ينطبق على موظفي الدولة الذين هم عراقيون ايضاً ومواطنون لهم حقوق وواجبات ولا بد من مكافأة المحسن ومعاقبة المقصر والمسيء وطرد وفصل من لا يستحقون ان يكونوا موظفين خدميين للمواطنين البقية.