23 ديسمبر، 2024 5:41 م

نحن وإيران، والبادي أظلم

نحن وإيران، والبادي أظلم

لم أخترع شيئا ولم أتخيل ما لم يحدث حين تنبأت بما سوف تفعله بنا إيران، بقيادتها المتزمتة المتشددة العدوانية الحالية، لو تخلصت من العقوبات واستعادت عافيتها المالية والعسكرية بالكامل.
والذي حذرتُ منه في مقالي السابق (الحرب الإيرانية القادمة … في الخليج) حصل. فقد ظهرت طلائعه الأولى على الفور جين اسُتنفرت العناكب والعقارب والأفاعي من جميع الثقوب والجحور والخرائب لتشن علي وعلى مقالي حملة شتائم موحدة، طعمُها واحد، لغتها واحدة، وسُمها واحد أيضا، وكلها صناعة إيرانية من النوع الممتاز.
كثير من المعلقين لم يقرأوا سوى عنوان المقال، وبعضهم قرأه بعقله الطائفي المريض، وعلى طريقة لا تقربوا الصلاة.
وهذا سببٌ إضافي يدعو إلى الاقتناع بأن قيادة النظام الإيراني، وكما عودتنا، لم تتغير، ولن تتغير. فغايتها شر، ووسيلتها شر أيضا، وبلا حدود. يعني أن أحلامنا أحلامُ عصافير حين ُنمني أنفسنا باحتمال صحوةٍ ولو قصيرة لدى هذه القيادة فتجنح إلى السلم والخير والعدل، وترعى الجيرة وتحترم حقوق الأخوة في الدين والطائفة في العراق وسوريا ولبنان والخليج، خصوصا بعد انتخاب (الملا) روحاني المتحرر المتنور الميال للتهدئة والحوار العقلاني مع ماما أمريكا. وخصوصا أيضا بعد ما أشيع حول سماح الولي الفقيه لفئة الإصلاحيين المعتدلين من أتباع الفكر الخميني بإدارة العلاقة مع العالم الخارجي. وخصوصا أيضا وأيضا بعد إعلان أحد القادة الكبار في النظام أن إسرائيل لم تعد عدوة، ولن يهدد أحدٌ منا بإزالتها من الوجود،  لا جحافلُ القدس، ولا حزبُ حسن نصرالله، ولا سواه، بل سوف تعيش بيننا في أمان. ومادام نظام الولي الفقيه أعطى نتياهو الأمان فالأقربون الذين هم نحن أولى به من الأبعدين.
لكن لم تكفِ نظامَ الولي الفقيه عشراتُ الإذاعات والفضائيات والجرائد والمجلات والمواقع التي أعد فيها ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل ليقصف بمدفيعيتها الثقيلة من تسول له نفسه أن يعترض بمقال أو تصريح أو كتاب، يعني بالكلام فقط، على سلوكه العدواني وتدخلاته اللاأخلاقية واللادينية واللا إنسانية في بلادٍ غير بلاده، وضد مواطنين ليسوا مواطنيه ولا رعاياه، بل أمر طوابيره الخامسة النائمة والصاحية كلها بمراقبة كل جريدة وإذاعة ومحطة تلفزيون، وتفلية كل مقال وكل تصريح وكل خبر و تعليق، والرد بعنف وقسوة، وبألفاظ لا تقل حرقا وتدميرا عن صواريخ الحرس الثوري وحزب الله اللبناني والعراقي وجيوش المختار والعباس، على كل من يُحرم الذبح الجهادي الحلال والمفخخات الإيمانية المقدسة، حتى لو كان من أئمة الشيعة المُبجلين.
فإذا كان هذا ما يفعله أتباعه بمن يُطلق كلاما، فقط، في الهواء فماذا يمكن أن يفعلوا بمن ينهض مدافعا عن عرضه وأرضه ولو ببنادق صيد العصافير؟
والسؤال الأهم الذي لابد منه هنا هو كيف يفعل هذا كلـَّه رجلُ دين صباحا ثم يضع رأسه على مخدته ليلا وينام؟
فليس معقولا أن يكون رأس رجل الدين جمجمة فاسدةً يسكنها التعصب والحقد والحسد والخبث وحب القتل ورؤية الدم وسماع العويل وقد وَضعت عليه الأمة عمامة بيضاءَ أو خضراءَ أو سوداء، تكريما وتمييزا وتتويجا له بالحكمة والموعظة الحسنة، وأوكلت إليه هداية الناس إلى طريق الصلاح والسلام والفضيلة.
وليس مقبولا ولا معقولا أن يمنح نفسَه حقَ تكفير الآخرين، وأن يجعل من نفسه حاكما مطلقا يحكم على عباد الله بالموت، حرقا أو شنقا أو خنقا، أفرادا وشعوبا وقبائل، أديانا وطوائف.
وليس مقبولا أن ينفق ثروات شعبه وأمته على صناعة الشر، فيتمادى في تشكيل فرق القتل والتخريب والتدمير وتدريبها وتمويلها، وزراعة الخلايا الإرهابية في البلدان القريبة والبعيدة، ويأمرِها بتعطيل القوانين، وتمزيق الوحدة الوطنية، وتدمير البنى التحتية، وتخريب الاقتصاد، وإفساد الضمائر وتخدير العقول، دون رادع من دين ولا من إله ولا من نبي ولا من إمام.
وليس معقولا ولا مقبولا أن يلجأ هذا (المعمم) في تبرير سلوكه العدواني إلى قلب كلام الله وأحاديث نبيه وسيرته وسيرة أهل بيته لتوافق مصالحه وتطابق مراميه.
بالمقابل يصبح معقولا ومقبولا، مئة في المئة، أن يلجأ خصومُه أيضا إلى  كلمات الله وسيرة نبيه، ليجدوا فيها الكثير الذي يُحلُ لهم المقاومة، ويأمرهم بالخروج خفافا وثقالا لمواجهة المعتدي، ويجيز أن يستخدموا ضده عنفا أشد من عنفه قوة وأكثر إيلاما وقسوة وضراوة.
وبالمتابعة الدقيقة المنصفة لتاريخ الحكم الطائفي المتزمت في إيران، على امتداد ثلاثة عقود، نجد العجب العجاب. ففي كل مدينة من مدن العراق ولبنان وفلسطين واليمن والسعودية والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة وسوريا ومصر والمغرب والسودان آثارٌ دامية من أفعال هذا الولي الفقيه وحكومته سُفحت بها وتسُفح دماءٌ بريئة، وجرت بفعلها وتجري دموع غزيرة من أمهات على أبائهن، ومن زوجات على أزواجهن، ومن أطفال على آبائهم أو أمهاتهم، ودُفنت وتدفن بصواريخها وبراميلها المتفجرة جثثُ تحت الأنقاض، وُتعطل حياة، وتوقف خدمات، ويخرب اقتصاد، ويشيع فساد، وُتنشر محرمات.
وأكثر من ذلك. إن من يتابع ما فعله وما يفعله النظام بأهله، داخل إيران نفسها، على امتداد عشرات السنين، يقر بأن ظلمه في الداخل ضد (أبنائه) المخالفين له في رأي أو عقيدة أو سلوك أشد من ظلمه خارج الحدود .
من هذه الصورة المرعبة، يصبح الطرف الآخر المعتدى عليه، مطالبا، بأحكام الشرع وقوانين العصر كلها، بأن يدافع عن أمن مواطنيه، وأن يحمي حاضرهم ومستقبل أجيالهم القادمة، فيشمر عن ساعديه، ويمتهن القتل لوقف القتل، والتخريب لدرء التخريب، والإرهاب لدحر الإرهاب، والتآمر لمنع التآمر. فالعين بالعين، والسن بالسن، والمفخخة بالمخففة، والبادي أظلم.
فالذي يفعله فرسان الولي الفقيه (المجاهدون) في بغداد والبصرة والنجف وكربلاء والناصرية والموصل والفلوجة وكركوك، وما يحدثونه في بيروت وطرابلس والجنوب والضاحية، وما يجرونه على غزة والضفة، وفي اليمن، والخليج، مُجازٌ ومشروع وحلالٌ أن يحدثَ مثلـُه في طهران وقم وعبادان. فمسيرة العبث الإيرانية لن تتوقف إلا بمثلها، وبشيء من نوعها، لكي يدفع هذا النظام ثمن سلوكه المخالف للدين والأعراف والقوانين.
لكن الولي الفقيه، بهذه الحرائق المتبادلة التي يوقدها فكره الانتقامي المتخلف، إنما يجعل العالم غابة، والحياة كريهة، والموت أرحم وأكرم، ويُشعل النار في ثيابه وفي ثياب الملايين من أتباعه وخصومه، على حد سواء.
أليس العدل والرحمة والسلام أقل كلفة وأكثر نفعا لبلادنا وشعوبنا ولإيران ذاتها كذلك؟.
أعلم أن هذه الدعوة لن تمر مرور الكرام على جحافل العناكب والعقارب وديدان الفكر الظلامي الكفيف، ولكن لا بد مما ليس منه بد،  مهما تكن العاقبة، والسلام.