19 ديسمبر، 2024 12:17 ص

نحن بحاجة الى مفسرين للتأريخ أكثر من حاجتنا لقصاصه !

نحن بحاجة الى مفسرين للتأريخ أكثر من حاجتنا لقصاصه !

نعم لقد أتعبنا السرد التأريخي المجرد واختلافات المؤرخين حول أحداثه وخلافاتهم في مجرياته ولابد من تفسيرالتأريخ فضلا عن بيان اسباب الاختلاف والخلاف فيه بعيدا عن السرديات والعصبيات بشأنها !
لاشك ان سرد الاحداث التأريخية والوقائع التراثية هكذا مجردة لمجرد السرد جميلة ولاريب وتستهوي جمهورا عريضا من القراء وتأسرهم وووولكن ،المطلوب وللفائدة العامة ولكي لاتقع الاجيال بمثلها وتتورط بنظيراتها هو تفسير تلكم الاحداث،نقدها،تحليلها،عمل مقاربات ومقارنات بينها وبين مثيلاتها حاضرا ومستقبلا، والا فإن السارد والقاص والناقل للاحداث هكذا على عواهنها من غير زيادة ولا نقصان سيكون اقرب الى”الحكواتي “منه الى “المحلل الناقد “،ولقد لفت انتباهي اليوم ماذكره احد المؤرخين المعروفين عن ملاهي ومباغي بغداد وعن طبيعة من كان يرتادها من كبار التجار والسياسيين والضباط والقضاة والادباء والشعراء سردا ماتعا ومذهلا يغص بالمعلومات -الصادمة- الا انه لم يحلل الاسباب ولم يأت على ذكر الابعاد والتداعيات والمآلات، لم يخض بالنتائج والمقدمات، لم يتطرق الى المدخلات والمخرجات ..فإقترحت عليه مدفوعا بحجم المعلومات السردية الكثيرة والصادمة التي ساقها لنا بالتحليل والنقد للحدث التأريخي والوقوف على اسبابه ومسبباته لأننا جزء من هذا التأريخ ولامحالة فنحن سائرون على خطاهم ومتبعون لأخطائهم وما التحليل الموضوعي الا بداية ناقدة وظاهرة صحية لوضع السبابة والابهام على مواطن الخلل ومواضع الزلل املا بتلافيها …!
ورب سائل فاضل يسأل ” ولكن التأريخ اساسا مختلف فيه ” وهذا ولاشك صحيح 100% وهنا يصار الى عرض اوجه الخلاف في الحدث التأريخي مناط البحث ذاته ويصار الى استعراض اسباب وابواب الاختلاف ودوافعها اساسا تاركا للقارئ كما من التفسيرات للحدث الواحد ليفتح ذهنه على الحدث من جميع جوانبه ولا ينتصر فيه مسبقا لخلفيته المذهبية والدينية والفكرية والفلسفية فحسب ،متخيرا بذلك وجهة نظر احادية ينظر اليها من ثقب ابرة او من ثقب باب مضعضع لايجرؤ على فتحه او تحطيمه ليرى ما خلفه ، وجهة نظر قد تكون صحيحة وقد تكون مجانبة للصواب كليا ليلف ويدور حولها كقطب رحى من دون بقية وجهات النظر الاخرى المتقاطعة معها جزئيا او كليا !
والحقيقة اقول انه مقترح للبحث التأريخي المستقبلي المنضبط المتجرد وغير المقيد بخلفيات الباحث ايا كان نوعها حتى يكون حرا في النقد وموضوعيا في الطرح ، ضحيح ان علم تفسير التأريخ قد ارسى قواعده وأقام دعائمه المهتمون بما يسمى بفلسفة وصناعة وتفسير التأريخ الا ان مشكلتهم هي في خلفياتهم العقائدية والقومية والسياسية والفكرية التي وضعت محددات لهذا التفسير – الذي لم يعد حرا ولا موضوعيا – من جراء ذلك عند كل منهم فبعضهم يفسر احداث التأريخ جغرافيا ، بعضهم دينيا ، بعضهم طائفيا ، بعضهم قبليا ، بعضهم عرقيا ، بعضهم اقتصاديا على اساس الديالكتيك او المادية الجدلية – ماركس انموذجا – ، وبعضهم – على اساس الجدلية المثالية ” هيجل انموذجا ” وشط بعضهم ليفسرها نجميا – بالاعتماد على حركة الكواكب والنجوم وابراج الحظ والطالع التي تؤثر على مجمل الاحداث بزعمهم في كوكب الارض ، وبعضهم فسره علميا – جي ويلز انموذجا – وبعضهم جعل البطل في مجال تخصصه هو محرك التأريخ في كل زمان ومكان كالبطل نبيا ، البطل موسيقارا ، البطل فائدا عسكريا وهكذا ” توماس كارليل انموذجا “، بعضهم فسره على اساس نظرية “”التحدِّي والاستجابة” المستلهمة من علم النفس – توينبي انموذجا – بعضهم عنصريا – النازية والفاشية-انموذجا المطلوب هو تفسير التأريخ بحثا عن الحقيقة لا بحثا عن المجد الذي يبغيه مفسر التأريخ وبهدف الانتصار المسبق لرأيه وقومه وجنسه ولونه ودينه ومعتقده .والاهم هو ان يدلي الباحث بدلوه لتفسير الحدث من جميع جوانبه من دون الاقتصار على جانب واحد – يحلو له ،او يؤمن به هو تلقينا منذ الصغر او اطلاعا عند الكبر – ولا اقول لتبريره فهذا قطعا افضل من السرد التأريخي لمجرد السرد على طريقة الحكواتية والروزخونية والقصاص ممن يخطبون ود العوام املا بإستثارة عواطفهم واستدرار دموعهم وربما افراغ جيوبهم ايضا ..فإن حدث اختلاف في وجهات النظر التأريخية وهذه واقع لامحالة فليفسر لنا لماذا الاختلاف وكيف حدث بدوره واين ولماذا كذلك وكم تمنيت لو ان ابن خلدون قد نقل روائع وقواعد مقدمته لتفسير تأريخه الا انه لم يفعل مع الاسف فعرف الناس “مقدمة ابن خلدون “اكثر من معرفتهم للتأريخ الذي قدم له رائعته لأنه وبخلاف مقدمته الرائعة كان سرديا في تأريخه على خطى القصاصين وحاطبي الليل ممن يخلطون الغث بالسمين عند تعرضهم لمجريات التأريخ البشري وتصديهم لمهمة التقصي التأريخي تاركين لمن وراءهم مهمة ،اما اكل الطعم عن طيب خاطر، وأما التناحر من جرائه ، او الزهو به أوالتباكي على احداثه والبكاء على شخوصه واطلاله لا اكثر لإعتقادهم الجازم بأن احدا لن يفسر التأريخ ولن يجرؤ على نبشه متجردا من محيطه ومتنصلا عن افكاره المسبقة وبما ارضعه مذ الصغر وقد شب وسيشيب عليها من دون ان يفكر يوما بإعادة تقييمها أو نقدها أو حتى تحليلها منطقيا مطلقا .اودعناكم اغاتي.