23 ديسمبر، 2024 8:38 ص

نجومٌ خضرٌ في نعشٍ أسود

نجومٌ خضرٌ في نعشٍ أسود

لم يدرك ( فليح شجر معيبد ) معنى أن يلفَ نعش ولده براية العراق قبل أن يعيدوه الى نعش من خشب البلوط الذي وينام فيه هادئا وهو آتٍ من جبهة لم يسمع بها فليح في حياته أسمها ( كردمند ) .
 عندما حمل ولده من نعش الخشب ليضعه في نعش من القصب ، هكذا مثلما كان يفعله اباؤه واجداده ومنذ قديم الزمان ليحمله وهو واعمامه وابناء قريته من المعدان ويدور به القرية بنحيب يختلط فيه بكاء الرجال مع بكاء النساء .
ظل علم العراق في النعش الخشبي الفارغ ، فهو لم يسأل عن معنى وجود العلم على تابوت ولده ، لكن والدته التي تمزقت اوتار حنجرتها من النعاوي والنوح تساءلت عن معنى وجود قطعة القماش الملونة هذه فوق نعش ولدها وقالت : الجو حار ، وسيختنق ولدي بسببها .
لكن أحد لم يستطع أن يتجرأ ويزيح العلم عن النعش بوجود رجل يرتدي بدلة عسكرية جاء من مركز قضاء الجبايش مع المأمور الذي اتى ليوصل الشهيد الى اهله ، وهذا الشخص وهو معروف بشخصه ومنصبه لدى المعلمين أخبر مدير المدرسة أن يُفهمَ اهل الفقيد أن الاوامر الصادرة من جهاتٍ عليا في بغداد أمرت أن تُلفَ نعوش الشهداء براية العراق ، وهو ما تفعل كل بلدان الارض مع جنودها الذين يقتلون في الحروب.
ولكن المدير تجرأ واخبر الرجل : انه من ابناء المنطقة ويعرف جيدا أن المعدان ومنذ القدم لايلفون موتاهم الذين اغلب نعوشهم من القصب برايات بل يلفونها بآيزار أحمر منقوش برسوم بدائية أو ببطانية جديدة واغلبها من نوع ( فتاح باشا ) يشترونها من بائعة متجولين يأتون اليهم بزوارق قبل موسم البرد بأيام قليلة أو بقطة قماش من الستن الاخضر يأخذوها الى مراقد الآئمة في كربلاء والنجف ويديرون بها على الاضرحة المقدسة كي تنال البركة وهي من ترافق الفقيد الى القبره ثم تجلب مع ( الدفانه ) وتعاد الى البيت الذي يحتفظ بها في مكان امين ونظيف في صندوق خاص بها.
لم يتعود المعدان في كل حياتهم على رؤية أن تصاحبه طقوس عليهم ان يدركوها وينسجموا ويتفاعلوا معها مرغمين او طائعين حتى مع الاسئلة والذهول الذي صبغ وجوههم يوم رأوا الرجل الغريب الذي اتى بصحبة المأمور ينزل على العلم وقبله وهو يلف النعش.
ليدفع الأم لتسأل زوجها المفجوع مرة اخرى وبفطرتها الحكيمة :
من هذا الذي ( باسَ ) تابوت ولدنا ، وما شأنه ، هل هو ( صاحبه ) بالجندية ؟
لم يجيبها الزوج بل بقي صامتاً ، ربما بسبب خوفه من الرجل الغريب وبقيَّ صامتاُ .
تمنيت ان اتقدم صوبها لأشرح لها : أن موت المعدان صنعته الدولة بقصد تقول فيه أن يكونوا وقودا لتلك الحرب مثل بقية أطياف الأخرى .
أراقب النعش ، وأراقب دموع الأم المفجوعة والمستغربة من هذا الطقس الجديد فتعيد السؤال الى زوجها : لماذا لايجلبوا راية الحسين ويلفوا تابوت ولدي فيها ؟
يصمت الأب ولا يعرف جوابا لسؤالها المحرج .!
يجيب الرجل القادم مع النعش والمأمور : راية العراق هي راية الحسين يا عمه.
ترد بشجاعة : راية الحسين خضراء وبها كف محناة .وتلك الراية بأكثر من لون وفيها نجوم لانعرف لها معنى.
أستغرب من نباهة المرأة ، وأسئلتها الشجاعة .
فيرد الرجل : النجوم هي ولدك وكل شهداء العراق .
ترد : ولكني فقدته الى الابد ولم اعد اراه وكنت اتمنى ان ازوجه الى بنت عمه ( دشر ) ، ونجومكَ تلك لن تستطيع ان تعيده لي ، ازفه الى ابنة عمه ، ثم خذوه الى اي حرب ودان .
قال الرجل : سيجد الحواري تنتظره في الجنة .؟
لم ترد المرأة سوى بعبارة يزينها النحيب بلون وردي وقالت بخفوت ويأس : أنشاء الله.