النص بين شعرية الذاكرة و شظايا الاصوات
في بعض التجارب الشعرية ، نلاحظ بأن هناك حالة من الاندماج الجوهري في القول الشعري ، حيث تتعلق هذه القابلية المخيالية أحيانا ، بخطابات ارتباطية المبنى ، و التي أساسها هي مهيمنات من الوعي المحوري في المعطى الكلامي ، المسكوب في سياقية المسرود الشعري ، على أساس حالات تزامنية متوافقة العلاقات من حيث حيز الشكل المظهري الكامنة في داخلية صوت النص . من عبر هذه المعرفية المقدماتية سوف نتعامل مع قصائد ديوان
( ذات الوطن ) للشاعرة نجاة عبد الله ، حيث أننا و نحن نقرأها ، وجدنا بأن هناك ، توابع جوهرية من محاولات لجوء الذات المتكلمة نحو موضعيات انبثاقية هامة من الاهتمام بمديات شفرات القول الاستجابي المضمر من زمن
( شظايا الاصوات ) . ان القارىء لقصيدة ( ذات الوطن ) سوف يلاحظ ما عليه نص الشاعرة في هذا الديوان ، من اظهارات صوتية متعددة في مجال بوتقة صوت موحد ، و هذا الامر بدوره ، ما جعلنا نتشبث بصوت المروي الموحد في صوت ظاهرية الكلام و الخطاب ، لعلنا بذلك نحظى بغايات اساسية و مصدرية من كلية تجربة تلك الصفات
المجاورة لزحمة تحولات مرجعية صوت القصيدة في نتائجية محورية الدال :
قال لي
الشاي بارد
الوطن متعب
وقلبي
يسبقني إلى الوردة .. ص55
ان المقصودية الاظهارية هنا من فعل تمثلات ( الذات / الأنا / الآخر / الخطاب / الموجه ) . هو ذلك المفعول الايقوني الكامل في مصاحبات موجودية المتعدد الاصغائي من لدن الشعور بأن هناك مؤشر استدراكي يراهن على مشروطية الاوضاع الدلالية الأخرى . فمثلا نعاين جملة ( قال لي ) . فهذه الاداة بحد ذاتها ما هي ألا نواة خطابية في مرتكزات الحالة القولية الذاتية ، التي تقودنا نحو مؤولات استقرائية قصدية متعددة من طاقة عملية الاخبار المصدري . و بما ان المصدرية هنا في هذه الجملة ، قد جاءت كيفية في استخداماتها و اوضاعها ، فأننا سوف نقرأها ، على اساس من محتواها الاظهاري الدلائلي ، و ليس من ناحية وضعها التوظيفي النحوي و الاعرابي : ( قال لي / الشاي بارد / الوطن متعب ) . ان علامات التعرف على دلائلية و دليل هذه الوحدات الاخبارية في مبنى الموصوف ، لربما من شأنها اجلاب مجسدات من الادلة التراوحية في منطقة الدلالة و المدلول ، التي مصدرها . ( المؤول / الافق / المشار اليه ) : فأذن ما وجه المجسد القولي ما بين جملة ( الشاي بارد ) و جملة ( الوطن متعب ) و من هو الذي قال لها ( قال لي ) أهو
ذاك التساؤل في ايقونية صوت الأنا ؟ أم لربما هو ذلك الاستشعار بقيمة تعاسة الذات في هذا الوطن ؟ . ان الشاعرة نجاة ، في خاصية هذه المقاطع من القصيدة ، راحت تحاول ان تزرع ثمة مواضعات تمهيدية في منطقة الدال ، لغرض ان تتوسل الانتاج المؤول في الدليل ، على ارتباطات اختلافية و تشاكلية متعددة المعنى و التأويل الشرطي في وظيفة المعرف اليه . غير أننا لربما نفهم وجه الحالة في مقصود هذه الشفرة من دلالات المقاطع ، و تحديدا بظهور هذه الاجرائية التوصيفية : ( و قلبي متعب / يسبقني إلى الوردة ) . ان الدال بهذه الطريقة الحركية في شرائط المعنى المقصدي ، لربما سوف يجعلنا نفهم العلامات القولية الشعرية ، على اساس من انها ، مسوغات قراءة مدلولية في صميم جري ترابطات التواصيف . و لكن هل من الممكن ان تكون عملية الحرث المدلولي في المسوغ الشرطي الدال على هذه القيمة من خاصية القول ( يسبقني إلى الوردة ) . لابد إذن من معرفة دوافعية ذلك التشارك القولي من وراء نتائجية دليل جملة
( وقلبي متعب ) . أفعلا ان هناك ثمة حالة اجهادية من وراء هذا القول الدلالي ؟ و ليكن هذا جدلا فما مصدرية هذا الهاجس أهو معلومية الراوي الذاتية في قول ( قال لي ) أم
( و قلبي ) هو البرهان الدلائلي على تزامنية خطوط القول . ان المضمون الظاهر من وراء تلك المقاطع يبدو على هذا الشكل التتابعي . ( الوطن / الآخر / هو / المشار اليه ) أو لربما هي مرحلية الذات الساردة في مؤسسات الدال المركزي من عنوان ( ذات الوطن) :
إقرأ
ظلي
جثة تعتنق المرايا ،
و قدم تصغي للرحيل
كنا نقف .
قلبين من ورق
و فما
دجلته المنية
ورهبة الكلام .. ص 69
ان الموضوعة الشعرية في متصورات الشاعرة هي عبارة دائما عن حالات ، مشرنقة من محورية الذات المرتبطة بدواخل أفق أزمنة كتابة مرحلية ما . فعلى هذا الأمر نرى مثلا هذه الافتتاحية ، التي تشي بعوالم أدلة آنية المعنى و الايحاء المؤشراتي : ( إقرأ ظلي / جثة تعتنق المرايا / و قدم تصغي للرحيل ) . ان المسافات الاتصالية في هذه الاقوال ، هي مشروطة بدال فعل ( إقرأ ) و إلى حد ارتباطي صميم مع موجبات زمن ( ظلي ) . و لكن هل العائدية هنا تبدو شبه اظهارية في الدال ، اذا أعزلنا لفظة ( جثة ) عن لفظة
(مرايا) غير ان هذا الدليل على حدود هذا الشكل ، يبدو عائدا إلى صوت الراوي و ليس إلى مسافة الوصف المشار اليه ، و ذلك لأن أيضا دالية ( ظلي ) هي دلالة جزئية و سكونية من زمن دليل ( إقرأ ) . حيث ان مصدرها يبقى ، هو برهان خطي انتمائي ، لصوت المتكلم ، و ليس إلى وجود كلي ملموس في عائدية مروي لفظة ( ظلي ) . و على هذا فأن جملة ( جثة تعتنق المرايا ) هي بمثابة السياق الدلالي الذي هو عائد إلى شبكة ( المتكلم / الراوي ) و ليس إلى دلالات حركية في الملفوظ الخطابي بشكل خاص .
( التصور المقابل : تحولات الصوت )
من خلال مشروعية علامات الوظيفة الشعرية في دلالات قصيدة ديوان ( ذات الوطن ) لاحظنا بأن هناك في مساحة اطوار اشتغالية القصيدة ، ثمة تقنية شكلية تسمى
( التصور المقابل ) أي بمعنى ان بنية القصيدة في عوالم هذا المشروع الشعري ، تمتلك معرفة دقيقة في متقابلات الوحدات التصويرية في المشهد الشعري في القصيدة ، بالمقابل من هذا هناك رؤية جديدة تسمى ( تحولات الصوت ) و هذا بدوره يعني ان الصورة الشعرية في القصيدة تنقسم إلى جملة أصوات متشظية في وحدة عضوية صوت واحد الذي هو صوت الشاعر أو الراوي ، و هذه التحولات ناتجة من متطلبات تضامنية في نسيج اشتغالية القصيدة بشكل عام :
اسئلة شائكة ,
و كلام دميم ،
و خرائط
تخيط ثوبي بالرصاص
كم أنت جميلة .
رغم ان القصيدة التي علقت
على أطراف ثوبك
ترهلت على المنصة ،
و شاخت وهي
تلملم أقراطها
و حذاءها المثقوب .. ص89
لعل القارىء لهذه القصيدة ، يعاين ما عليه مساحة التحولات في شوط أصوات القصيدة ، و ذلك منذ ( تخيط ثوبي ) إلى
( كم أنت جميلة ) و إلى ( و شاخت و هي ) : ان أهمية كل هذا تكمن في رؤية ( التصور المقابل ) أي ما معناه ان تركيبة هكذا تقابلية في متخيل الصورة السياقية ( وكلام دميم: وخرائط ) قد تم بهذا الشكل التقابلي في الصورة كما الحال أيضا في هذا النموذج ( و حذاءها المثقوب .. أقراطها ) ان هذا الأمر من شأنه أكساب الحالة الوصفية ، ثمة شيء من التعددية في الاصوات إلى جانب صوت الدال الاصلي في النص ذاته : و هذا بدوره ما يبدو هكذا ( أسئلة شائكة ) يأتي إلى جوارها صوت مقابل و هو ( على أطراف ثوبك ) أو صوت مقابل آخر ( شاخت وهي ) . و بمثل هذه النماذج التطبيقية لعلنا اوضحنا شيئا بسيطا عن كيفية وجود تلك الفاعلية في شظايا الاصوات المروية التي هي إلى جانب تحولات الصوت و التصور المقابل .
( نجاة عبد الله و مآتم شعرية الوطن )
عندما نطالع مشروع قصائد ديوان ( ذات الوطن ) لعلنا لاحظنا حجم ما عليه خطاب القصائد من زمن عظيم من الاغتراب و الاسى ، و الخوف من ما هو قادم في هذا الوطن . ان التفاصيل التي تحملها مضامين لغة النصوص ، تنم على ان هذه الشاعرة قد عاشت مرحلة مرعبة و مخيفة داخل زوايا هذا الوطن البارد .
حين تكسرت
أحرفك على الشاهدة ،
تكسر الشاهدة على القبر .
و تكسر القبر على
وجهك النائم ،
أسرعت يدي الداكنة
لتخرج الحائط من البيت .
و البيت من الوطن
و الوطن مني . ص48
ان التأشيرية في خطاب هذه المقاطع ، لربما راحت تشكل تلك الدلالات القضوية من زمن الذات المحملة بتقديم شواهد الحالات على أكف من الانشراحات المغموسة ، بدموع المزيد من اللوعة و الحزن : فمثلا نلاحظ هنا مدى تشكيل رمزية هذا المقطع ( أحرفك على الشاهدة ) ان فعل الغائية الدلائلية في هذه الصورة ، مصدرها التوغل في مساحة معلومة من زمن حالة الحزن و الفراق مع ذلك الآخر الافتراضي المشار اليه ( أحرفك ) و بهذا الجو الانشراحي إزاء موصوف ( وجهك النائم ) تتضح متواليات المشهدية الشعرية ، بموجب تنويعات فضائية من الايحاء المروي و المقصدي ، و على ضمير رصدية الآخر ، بموقف من يحتكم من حوله الملفوظ التشكيلي : ( أسرعت يدي الداكنة / لتخرج الحائط من البيت ). ان الدليل المحوري في هذه المدارية المشهدية الشعرية ، راح يتجلى بدال ( حين / أسرعت / وجهك / الوطن / مني ). و هذه الموشرات بدورها أخذت تستعيد مصدريات حسية خاصة ، من تحولات دال أصوات و مداليل مشتركة في الهوية و العلامة و الاجراء الافصاحي . و تبعا لهذا لا يسعني سوى هذا القول : ان اسلوبية قصائد
( ذات الوطن ) جاءتنا صور حسية جميلة و هي تتشكل ، بفعل قوة مخيالية تنحو منحى الأنفعالات و الهواجس الجمالية في تدوين قصدية الآخر من الاشياء ، بل ان قصائد هذا الديوان كانت تتمتع بطريقة خطابية متطورة تجمع ما بين
( المؤولات / البرهان / الذاكرة / الحلمية / الدليل / الاستكشافية / البؤرة ) . و هذه العناصر بدورها جاءتنا عنوانا مخصوصا ، في تشكيل واقعية ، تلاحمات السؤال و الوصف و التعرف إلى فضاء سننية محمولات المعنى المقصود من طاقات ألتماس الراسخ من الموضوع الشعري ، الذي هو قاب قوسين من حقل تمفصلات محطة سيرورة الفعل الشعري الجاد ، و المخيلة الحاسمة في التقاط حساسية محورية الاشياء في التجربة المتوافقة في مجسات أفق التوقع و الانتظار .
كنت ايها الوطن
منفى لي
حتى غاب
وجه أمي ،
آه
يا وطن
كلك منفى
متى أكف عن الرحيل
أليك .. ص93
ان مسارية شعرية المخيلة في عوالم قصيدة ( ذات الوطن ) يتسع زمكانيا و يغتني ، كأنه يتابع مساره ، يحفر عميقا و تتشابك من لدنه المعاني و الدلالات بفنية ملحوظة تتجاوز مألوفها ( كنت أيها الوطن / منفى لي / حتى غاب /وجه أمي)
. فأنا شخصيا لاأجد من معنى أكثر حضورا من هذه الكلمات ، فالشاعرة نجاة راحت تصف علاقة الأنثى بوطنها ، من باب عنف التجربة و مرارة الاحساس و العصيان المتمثل بصوت ( الأنا ) إزاء هذا الوطن ( آه ياوطن / كلك منفى / متى أكف عن الرحيل أليك ) . بعد قراءة قصائد ( ذات الوطن ) بدت لي الكتابة عن هذا الديوان الشعري و هذه التجربة ، ككتابة عن مسار مهم في مسيرة الابداع الشعري العراقي عن موضوعة الوطن ، حيث أننا ، بحاجة إلى تمييز تجربة و صوت ( نجاة عبد الله ) كمسار مختلف في كتابة قصيدة الوطن ، لأن تسجيلية لغة الاشياء في منظور هذه الشاعرة لربما هو حضورا أقوى من الفراق ودلالات منفى الاوطان ، و أكبر حركة في مجابهة الركود الشعري و موت القصيدة . أن ديوان ( ذات الوطن ) علامة ذاكراتية شعرية صحية على استجابة الخطاب في القصيدة ، لمكبوتات الحسية و الرغبة ، في فهم الاعماق و زمن المخفي و المسكوت عنه الذي نغفل عنه الكثير ، في حمولة وجودنا المشحون بدلالات فعل الموت اليومي ، و حكاية عوالم الصراع في هذا الوطن المظلم و القابع في زوايا حداد و رثاء الذات الشاعرة .