ظهور رئيس الحكومة السابق، مصطفى الكاظمي، في طهران، بعد أيّام، من انتهاء زيارة الوفد العراقي، إلى واشنطن، برئاسة وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، شغَّل ميدان الرمي، على منصات السوشيال ميديا؛ التي حوَّلت “الإطار التنسيقي” إلى رَجُلٍ من القش، لا يستطع قول شيء.
إسعافُ اللِّسان الإطاري كان ضرورياً. هكذا قدَّم عزت الشابندر، “تايتل” سوشيالي سريع، تَرْجَم فيه زيارة الكاظمي، بأنها محاولة لـ “إحياء الموتى”. حقيقة الأمر، إنَّ ما قيل عن تواجد الكاظمي في طهران، وما سيُقال، مجرَّد كلام موميائي. أعترف الوزير حسين، بأنَّ حكومة السوداني الحالية، تسير بمنجزات الكاظمي إلى “الأمام سِّر” و إلى الوراء لن تَدُر!
“الإطار” كاظمي المنهج
الوزير حسين، صوَّر في جلستِه الحواريَّة – معهد اتلانتيك – ورقة الكاظمي الإصلاحية؛ “الورقة البيضاء”، بأنها لوحة “موناليزا” الإطار؛ التي يُعلِّقُها رئيس الحكومة الحاليَّة، محمد السوداني في دِماغه، و هو يمضي مُسرِعاً، في توزيع رشقاتِه الإصلاحيَّة، على مؤسسات الدولة، المليئة بالسراديب الحزبيَّة.
مُحاوِرُه الأمريكي من أصولٍ عراقيَّة، بيَّن بأنَّ حكومة السوداني، أوَّلُ حكومةٍ عراقية، تبني على “إنجازات الحكومة التي قبلها”. المُحاوِر اعتبر ذلك، دلالةً على نُضجٍ سياسي. التيار الصدري، كانت السمكة الوحيدة؛ التي لم تَعلَق في سِّنارة الحِوار. المُحاوِر لم يجِد أهميةً للمسألة. ربّما لأنهُ يحمِلُ رأياً مُسبقاً، ليس بديعاً، عن التيار و زعيمه، مفادُه: “إنَّهُ رئيسُ طائفةٍ لا أكثر”. معنى الطائفة و زعيم الطائفة، ليس محموداً البتَّة في الثقافة الأمريكية.
توصيات الكاظمي عن التيار و زعيمه، هُجِرَت من الوزير حسين، رغم وجودها في أروقة واشنطن، و مُلخَّصُها: “لا يمكن للعملية السياسيَّة أن تستقر بدون مشاركة الصدريين”. حصَّة “الإطار التنسيقي” من الزيارة، تستحِقُ هذا الاختصار: نحنُ إيرانيون الهوى مضمونون كاظميَّاً. ربّما ذلك يستطيع تفسير، سبب عودة نوري المالكي، لتقليب الحبَّة الصدريَّة، في مسبحتِه السياسيَّة.
المالكي، فجأةً و بدون إنذار، استخدم أشهر أدواته البراغماتية: “لا توجد لن في السياسة”. السيدة الفرنسيَّة الشهيرة، إذاعة مونت كارلو، نقلت عنه: “إنَّ الخِلافات مع التيار الصدري ستنتهي قريباً”. طبعاً، التيار الصدري مشهورٌ، بأكلِّ نوري المالكي في الحياة السياسيَّة، و الذي وصفه بـ “الميَّتة”؛ التي كان لا بُدَّ من هضمِها في انتخابات 2010م.
مصير مصطفى الكاظمي السياسي؛ سيكونُ وقفاً، على لائحة الطعام السياسيَّة للتيار. الأهم، إننا سنعرف إن كان ما فعلهُ التيار بسحب نوَّابِه، كان: نوبة قوَّة، برنامج “شيعي” كان مطبوخاً في الكواليس، أم نُضج سياسي!؟
اختفاء “تشرين” من البيان المشترك
الوزير حسين، استعرض كثيراً من نُقاط قوَّة النِظام السياسي بعد 2003م. مثلاً:” رأيتُ أربعة رؤساء للحكومة، يجلسون مع بعضهم الآخر. قُلت الحمدُ لله.. إذاً نحنُ ما زلنا على الطريق الصحيح”. هذهِ الحذاقة الفؤاديَّة، لماسِك حقيبة الدبلوماسيَّة العراقيَّة، اضحكت الحاضرين. بدا الوزير، بعد هذهِ القهقهات، نجماً ساطِعاً عراقيَّاً بأضواءٍ أمريكيَّة.
المتظاهِرون، الاحتجاجات، و “تشرين”، اُختصِرت بأنَّ الشباب العراقي لا يعرفون “ما عشناه في زمن النظام السابق، ليس لديهم شيء يُقارِنون به”. هكذا سُجيَّت “تشرين”، و عُرِض النِظام قويَّاً، في معهد السلام الأمريكي.
الحكمةُ الفؤاديَّة، اختارت “النفقات التشغيلية”، لجيش العاملين في المؤسسات الحكومية، حِجةً دامِغة على سلامة النوايا الحكوميَّة، تجاه الشعب العراقي، و شريحتهُ الشبابيَّة؛ التي لا تُفكِّرُ إلَّا بـ “الوظائف الحكومية”. الأرقام التي استخدمها حسين: “الرواتب بلغت أربعين تريلوناً في السنوات السابقة، و هي الآن اثنان و ستون ترليوناً في ميزانية 2023م”. الدليل إنَّ الترليونات الأربعين، بسعر صرف 1200 دينار عراقي للدولار الواحد، تشبهُ الترليونات الاثنين و الستين، بسعر1500 دينار عراقي تقريباً للدولار الواحد حالياً، في سوق تصريف العملة الموازي.
وزير الخارجيَّة العراقي، عندما سأله الدبلوماسي الأمريكي، جيمس جيفري، في مركز ويلسون الدولي، عمّا يُريده العراق من الولايات المتحدة؟ أجابه: “نُريدُكُم هناك معنا”.
البيان المشترك للجانبين، العراقي و الأمريكي، كان خالياً من شُبهة الحديث عن حقوق الإنسان. منح “فيزا” سفر للعراقيين، من النوع الذي ليس له علاقة بـ “الهُجرة”، ربّما كان نوعاً من التعويض. حتّى هذا التعويض المفترض، ما زال غير مكتمِل الإجراءات. الأرجح إنَّهُ سيصبحُ بدراً، متى ما زارت الشركات الأمريكية، العراق، في يونيو القادم.
الرياض، طهران، و اللقاءات الإعلامية
الوزير حسين كان بارِعاً و حاذِقاً، في لقاءاته الإعلاميَّة، رغم بعض الهِنَّات الاصطلاحيَّة، التشنُّجات في التأكيد على نُقاطٍ ليست بذاتِ أهميَّة، رغم إنَّهُ يمتلِكُ وجهة نظرٍ مُحقَّة، و تقييمه للدور الإيراني.
الهِنَّات الاصطلاحيَّة الصارِخة، كانت تخصُّ الاقتصاد الرقمي. حسين اعاد تسميته مِراراً، بـ “الاقتصاد الإلكتروني”. المؤكَّد إنَّ أعوامه السبعين و انشغالاته السياسية، كانت بعيدة عن العالم الرقمي عموماً. العيب الوحيد في هذا التفسير، إنّهُ كان وزيراً للمالية، و من المفترض أن يكون مصطلح “الاقتصاد الرقمي” قد زارهُ بشكلٍ متواتر.
لقاءهُ مع إحدى القنوات العربيَّة، كان متشنجاً أثناء أيّام زيارته الأمريكيَّة. كان مسترخياً أكثر، في لقائه مع مُمثِّلِها في بغداد، قبل زيارته لواشنطن. لم يكُن هناك من داعٍ، أن يُصِرَّ على عدم وجود “تهريب للدولار” إلى إيران بشكلٍ كبير، و إن العراق لا يلعب دور الوساطة بين دول المنطقة إنّما يقومُ بدورٍ محوري. الأرجح إنَّهُ غالى في إيصالِ عِتابه، على نظيره السعودي، لأنه تحدَّث مع نظيره الآخر الإيراني، عند تهنئة رئيس البرازيل الجديد، لولا دي سيلفا.
التأكيد على أهمية الحِوار بين واشنطن و طهران، لأن “التوتر بينهما يؤثِّر على العراق”، كان قولاً فصلاً لحقيقة متأخِّرَة. إيضاحُ ذلك و بلهجةٍ مُباشِرة أوصل رِسالة، نقترحُ ترجمتها كالتالي: إن بقي التوتر فلن يحصل شيء إيجابي حقيقي من هذه الزيارة!
بخس العلاقة بين طهران و الميليشيات العراقيَّة، إلى مُجرَّد إيديولوجية، كان ارتجالاً على الأكثر. الخطير، كان محاولة إقناع العقول التي تقود مراكز التفكير الأمريكيَّة، بأنَّ القرار العراقي؛ سيتسرَّب مع مرور الوقت من “الأصابع الإيرانية إلى اليد العراقيَّة”.
الواضح إنَّ هذه الزيارة كانت معقَّدة. نتائجُها من ناحية اشتراطات الفيدرالي الأمريكي؛ فيما يخصُّ بيع الدولار، ارتطمت بصخرةٍ صمَّاء. أمّا الإسعاف المعنوي؛ الذي قام بهِ رئيس الحكومة، من توقيعه مذكرة تفاهم مع شركة جنرال الكتريك؛ فهو واقعيَّاً خالٍ من أيَّة قيمةٍ آنيَّة.
الأهداف الواعِدة، كانت إعلان الدعم الأمريكي لمشاريع الغاز في العراق، و الإعلان عن لِجان إضافية مشتركة، تدعم تفعيل اتفاق الإطار الاستراتيجي، بين بغداد و واشنطن. أيضاً، إيران باتت تحترم كلام المسؤولين العراقيين أكثر من قبل! بحسب الوزير حسين.
إنَّ “الإطار التنسيقي” بعد كُل شيء، كان ابناً سياسياً ضالاً، عن بيت العلاقات الدولية، و قد وجد طريق العودة أخيراً، عبر السفارة الأمريكية. وقَّعت حكومة الإطار كذلك، جولة جديدة من التراخيص النفطية. و مهَّدت لانسحاب شركات النفط الروسيَّة – صفقة على الأكثر – تستطيع بغداد من خلالها، دفع مستحقات شركات إيفان إيفانوفيتش (مصطلح يُطلق للإشارة عموماً إلى الإنسان الروسي العادي).
عراقياً، كانت هنالك صدى إيجابي. مثلاً، و بحسب تصريحات نوري المالكي، باتت هناك فُرصة حقيقية، لنزع السلاح، من الجماعات المُسلَّحة؛ التي تعمل خارج نطاق الدولة، رغم إنَّ المقصود بها – تقديري المتواضع – لا يعدو التيار الصدري، و تشغيل الضوء الأحمر لعصائب أهل الحق و زعيمها؛ فالعصائب اينعت في حُقبة المالكي، بعد أن أُخِذت شتلتُها، من كوكب سجن “بوكا” الشهير.
ردود الفعل غير المناسبة، بدرت من حكومة إقليم كردستان العراق؛ التي استعدت لنتائج الزيارة منذُ بدايتها، بالتلويح من جديد بـ “الانفصال”، و هي ردَّةُ فعلٍ مفهومة، على دعم واشنطن لتشريع قانون النفط و الغاز؛ الذي لا يؤمِّن مصالحها الحزبيَّة، و يجعلُ قامتها السياسيَّة، أقل من بغداد بكثير، في حساباتِها المستقبليَّة. النتيجة النهائية و إن بدت ضبابية، لكنها ذات مؤشِّرات إيجابيَّة؛ إنَّها دفعت مثلاً، وزير الخارجيَّة الإيراني، إلى مُباركة علاقات العراق مع مُحيطه العربي!
طهران بالطبع، أبقت قُدرتها واضحة في العراق، من خلال التلاعب و لو إعلاميَّاً، بسوق العُملات الصعبة في العراق، عبر منصة “نيما”. كان ذلك في اليوم الذي صدر فيه البيان المشترك، لكن تلك عادة دبلوماسيَّة إيرانيَّة متأصِّلة.. تقوم بالشيء و نقيضه؛ فقنطار الوقاية العراقي، أرخص من درهم العلاج الإيراني، المُخصص لـ ليالي فيينا النووية.